11 يوليو 2015 بقلم
عبد الهادي أعراب قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:يحيل مفهوم التغير الاجتماعي، وإن كان حديثاً، على اهتمام معرفي قديم وجد لدى باحثين وفلاسفة أمثال: "جان جاك روسو" J.J.Rousseau و"ويليام فردريك هيغل" W.F.Hegel و"كارل ماركس" K.Marx و"أوجست كونت" A. Comte. لكنه سيحتل قيمة كبرى في عشرينيات القرن العشرين، وتحديداً بعد مؤلف "ويليام أكبورن" William Ogburn الموسوم بـ: "حول التغير الاجتماعي" الذي سنّ الطريق لتقدم الأبحاث العلمية حول قضايا التغير الاجتماعي
[1] من حيث هو مفهوم أثار نقاشاً واسعاً لشدة صلته بمفاهيم أخرى مثل التطور والتقدم والنمو والتنمية، وما زال يثيره إلى اليوم
[2].
لقد كان لهيمنة دلالات التطور Evolution على مفهوم "التغير" أثر واضح، خصوصاً إذا استحضرنا قوة نظرية داروين وآثارها في الحقلين الاجتماعي والبيولوجي منتصف القرن التاسع عشر، ثم مع إسهام "هربرت سبنسر" في تنزيلها اجتماعياً، بمماثلته بين الكائن الحي والمجتمع فيما عُرف بالاتجاه العضوي (الفهم العضوي) الذي أفرز لاحقاً نقاشاً كبيراً حول "تطورية اجتماعية" أو "داروينية اجتماعية" وجهت لها انتقادات كثيرة، لعل أهمها عدم تلاؤم النظم الاجتماعية مع التصور البيولوجي واختلاف التطور العضوي عن الاجتماعي، طالما أنّ الأول له مسار خطي والثاني ينفلت عن هذه الخطية المرسومة، تبعاً للعوامل السياسية والاقتصادية والثقافية التي تبتعد عن حتمية التطور البيولوجية
[3].
إلى جانب التطور، نجد مفهوم "التقدم الاجتماعي" Progrès Social الذي يحمل دلالة معيارية تتضمن حكماً خاصاً على الانتقال من وضع إلى آخر أفضل. هنا يفهم التغير الاجتماعي بوصفه عملية دينامية تتجه بالمجتمع إلى غاية محددة
[4]، لكنّ هذه الدلالة قاصرة عن الإحاطة الدقيقة بعناصر وإشكالات التغير، لأنّ "التقدم" يختلف من مجتمع لآخر، وفقاً للخصوصيات الثقافية وتغير الأزمنة والظروف؛ ثم إنه مفهوم نسبي مادام تجربة مجتمعية وتاريخية خاصة؛ لهذا نميل إلى الحديث عن فروق ثقافية وليس فوارق ثقافية. هكذا ينفلت مضمون التغير الاجتماعي من المعيارية الغائية والارتقائية التي ظلت تلف مفهوم "التقدم الاجتماعي"، لأنه يحيل على عمليات تحوّل لا تكون بالضرورة ارتقائية أو تصاعدية، أي على تغيرات وحسب؛ ثم إنه مفهوم قد يتضمن التقدم مثلما يتضمن التراجع أو النكوص
[5]، كما يمكن أن يتضمن حالة أخرى من مراوحة الذات أو وضعية "اللاتقدم واللاتخلف"
[6].
أمّا عن مفهوم "النمو" و"التنمية" Développement، فثمة اختلاف واضح بينهما، وخصوصاً بين التغير والنمو. فالنمو تلقائي وقد يكون سريعاً أو بطيئاً إلا أنه كمّي في الغالب مادام يؤشر على زيادة ثابتة نسبياً، أو لنقل زيادة مع الاستمرارية في جانب أو جوانب من الحياة؛ كما أنه محمّل إيديولوجياً، ويسمح باستمرار بالتمييز بين مجتمعات نامية أو في طريق النمو وأخرى متخلفة أو تنمّي تخلفها، بينما يحمل التغير الاجتماعي دلالة التحول الكيفي للبناء وللأدوار ولقيم الضبط الاجتماعية. وعموماً يقترب التغير الاجتماعي من التنمية
[7]، غير أنّ نقطة التباعد بينهما تتمثل في كون التنمية تظل صيرورة معيارية، بينما التغير ـ كما أسلفناـ ينفلت من هذا المنحى، لأنه يمكن أن يكون نكوصاً وتراجعاً، وبهذا يلزمنا منهجياً بوصف عمليات التحول كما هي دون حكم قيمي أو معياري، وهذا الشرط الموضوعي يغيب كليّة في دلالات النمو والتقدم والتطور، وحتى في مفهوم التنمية
[8].
يبقى أن نؤكد أنّ النظريات السوسيولوجية المعاصرة حول التغير الاجتماعي، استطاعت أن تقطع مع التصورات التي تربطه بعامل تفسيري أحادي، نحو تصورات أكثر استيعاباً لتداخل العوامل المسؤولة عن حدوثه بين أسباب داخلية وأخرى خارجية، وفي الحدود الدنيا بالبحث عن العامل المهيمن أو محرك التغير
[9]؛ وبناء على ذلك فكل المجتمعات تتغير
[10] وإن كانت تختلف في سرعة ووتيرة التغير ذاته، كما تختلف في طرق التعامل والتعايش مع فكرة التغير ومدى احتضانه. من هنا نتساءل ونحن بصدد المجتمع المغربي: ما هي خصوصيات التغير الاجتماعي الذي يميزه؟ ما هي أيضاً سياقاته التاريخية والاجتماعية والثقافية؟ وكيف تتحدد دينامياته الداخلية؟ ومن ثمة كيف مقاربتها وقراءتها ميتودولوجياً؟
إنّ التأمل في مجموع التحولات التي عرفها المغرب، وخصوصاً في الفترات المتأخرة، يرسخ لدينا أهمية دراسة التغير الاجتماعي كمنطلق أساسي لفهم مسار هذا المجتمع ودينامياته الداخلية العميقة والإحاطة بالإمكانيات الجديدة التي يطرحها، دون السقوط في حبائل المعيارية التي تحملها المفاهيم سابقة الذكر
[11].
ونشير إلى أنّ الاهتمام بمسألة التحولات الاجتماعية لم ينفصل عن الحتمية التاريخية والسياسية التي طبعت اختيارات المغرب الاستراتيجية في المراحل التي تلت الاستقلال. لهذا جاء الاهتمام بمفهوم التغير متأخراً قياساً لمراحل كان التفكير منصبّاً فيها على مقولة الأزمة
[12] وفي مستوى آخر بديلاً عن مقولة "البنية"؛ من هنا مثّل التفكير في التغير الاجتماعي نقلة هامة من مجال الملاحظة الساكنة إلى مجال الحركة والدينامكية والتسلسل"
[13]، فهو انتقال من تفكير ظلّ سجين أحكام إجمالية إلى آخر "ينظر إلى دينامية الواقع، بما فيه من إمكانات جديدة ومن تحديات جديدة"
[14].
أمّا عن كبرى التغيرات التي عرفها، فنؤكد أنها كانت نتيجة لعوامل خارجية
[15]وتحديداً للصدمة الكولونيالية
[16] بأبعادها الحضارية والثقافية والاقتصادية والعسكرية والإيديولوجية؛ ومعناه أنها تغيرات تمّت بفعل هيمني، سرعان ما أفرز لاحقاً ثنائية إشكالية بين مضامين التقليد والتحديث
[17]، إلا أنّ قوة التقليد ومقاومته ظلت ثابتة، إلى حد نستطيع فيه أن نتحدث عن "حركية التقليد"؛ وإن كانت حركية نحو الوراء وليس نحو الأمام أو المستقبل.
[18]وبالمغرب دائماً نستطيع أن نجد مستويات مختلفة من التقليد، بل إنّ له مناصرين ومنافحين، فهناك قوى تدافع عنه كاختيار واع من داخل التقليد نفسه، أو فقط ضد قوى أخرى حداثية أو شبه حداثية تتبنى مواقف وخيارات مغايرة؛ من هنا نتحدث عن تقليدانية الأحزاب وتقليدانية الأفراد وتقليدانية الدولة. بل إنّ الاستعمار الفرنسي الذي ظلّ يقدّم نفسه صاحب "مهمة تحضيرية" Mission Civilisatrice، وظف التقليد في لحظة من اللحظات، وحرص على الحفاظ على مستوياته المختلفة في البناء والمعمار والتعليم والهياكل الاجتماعية والسياسية الحيوية..؛ كل ذلك في اتجاه إحكام قبضته على الثروات والأفراد؛ خلافاً لتجربته الكولونيالية بالجزائر التي اتخذت شكلاً اقتلاعياً واجتثاثياً عنيفاً امتد لقرن ونيف.
وفي مستوى آخر، ليس التقليد دائماً هو الانفصال عن الحداثة أو الابتعاد عن مصادرها ومضامينها الفكرية، لأنه يمكننا أن نعثر باستمرار على أشكال غريبة من المزاوجة بينهما
[19]، فهما يتعايشان جنباً إلى جنب، وفي حالات أخرى قد يؤدي الإفراط في العصرنة الغربية المستوردة إلى بروز صنف متصلب من التقليد، يمثل في الواقع رد فعل دفاعي على عنف التغيير الذي يستهدف الذات ويحاول اجتثاتها من جذورها، وهو ما أسمته "جان فافري" (Le traditionalisme par excès de modernité)
[20].
وقد أشار الراحل "بول باسكون" Paul Pascon، في توصيفه للمجتمع المغربي بالتركيب
[21]، إلى ما أسماه بـ"ديمومة المصطلح"
[22] كحالة تؤشر على الحياد أمام الجديد، وربما الخوف من إطلاق قوى غامضة وإخفاء الأشياء الجديدة تحت أسماء قديمة؛ ففي بعض المناطق والأوساط القروية تحديداً، مازال لفظ "الفقيه" مثلاً يطلق على الأستاذ أو المعلم
[23]، كما أنّ لفظة "المقدم" تحضر في مجالات مختلفة، إذ نتحدث عن مقدم الدوار ومقدم الحي أو عون السلطة ومقدم الرمي ومقدم الطريقة الصوفية... إلخ. ونجد الشيء ذاته بالنسبة للفظة "الشيخ"، فهو الشخص المسن ورئيس الطريقة الصوفية أو الفرقة الغنائية وممثل السلطة المحلية كذلك.
تحيل ديمومة المصطلح في العمق على مقاومة الكلمات للتطور وللتغير الاجتماعي، وهو ما يطرح صعوبات كبرى أمام الباحثين لتفسير الأوضاع الاجتماعية والتاريخية وفهمها، إذ يبدو المجتمع في مستويات معينة وكأنه يقاوم ويساوم التغيرات الجارفة ويستمسك بالماضي ويفضله على مغامرة التحول نحو المستقبل المجهول، فحتماً يدرك الأفراد أنّ قبول التغير يتطلب قدراً من التضحية بأشياء وبمواقع وبتراتبات مادية ورمزية؛ ولا شكّ أنه، لإبقاء الوضع على ما هو عليه، هناك مستفيدون وزبناء
[24]. في هذا المستوى نجد للتغير الاجتماعي قرابين كما نجد له ضحايا؛ وإذا كان الضحايا هم من يفقدون امتيازاتهم ومصالحهم جراء التغيرات الحاصلة، فالقرابين عادة هم الشباب، ممن يدفعون ثمن تبنّيهم للجديد ودفاعهم عنه، لذا ينعتون بالطيش أو بالتمرد وبمعاداة تقاليد الآباء والأجداد
[25].
نسجل أيضاً أنّ القول بالتغير الاجتماعي لا يعني بإطلاق حتميته التامة، لأنّ هناك مستويات من المجتمع تقاوم التغير باستمرار
[26]؛ لهذا نميز بين التغير والحتمية التاريخية للتغير ذاته. كما سيكون مفيداً جداً، تخليصه من التصور الجوهراني المغلق الذي ظلّ يلفه، فلا يتعلق الأمر بقطيعة مطلقة وخالصة مع الماضي
[27]، لأنّ مجرياته بالمغرب تسمح لنا بالوقوف عند عناصر الثبات والمقاومة والاستمرارية. من هنا، لا نميل منهجياً للحديث عن "تجاوز"، ونفضل مفهوم "المجاوزة"، لأنه مفهوم يتضمن دلالة المراوحة بين السابق واللاحق أو بين الماضي والراهن، بالرغم أنه من الصعب إنكار مجمل التحولات التي عرفها المغرب في مختلف مكوناته وعناصره عبر سيرورة متنامية
[28].
للتغير الاجتماعي إذن مستويات ومديات مختلفة
[29]، فهناك تغيرات ذات مدى قريب، كتلك التي تهم الملامح والمظاهر المادية الخارجية للسلوك الفردي من سكن ومعمار ولباس...، وهناك تغيرات ذات مدى متوسط وأخرى ذات مدى بعيد، تستلزم من الزمن مراحل وأشواطاً لتتحقق، كما يمكن أن نجد تغيرات ذات مدى مؤقت أو قصير، وهي التي تؤشر على مستوى التغيرات السريعة
[30].
تفرز هذه المستويات المتداخلة وضعاً ملتبساً، يبدو فيها المغرب مجتمعاً ليس خالص البياض ولا قاتم السواد، بل هو في أبيض وأسود في آن واحد. إنّ هذا اللون البيني أو الرمادي، يدفعنا إلى الحذر من التصنيفات الجاهزة. فمثلاً على مستوى القيم والسلوكات، نجد مستويات متراكبة ومتعايشة من التقليد إلى الحداثة والتلفيق بينهما؛ وفي الأسرة رغم التحولات الجارية نعثر على مستويات تؤشر على جزئية التغير ومقاومته، وفي الزواج كاختيار لبناء هذه الأسرة، نصادف نماذج متباينة من الزيجات والأزواج، وفي الحقل السياسي نجد المزاوجة ذاتها بين شكل حداثي للمؤسسات الحزبية والنقابية وبين منطق تقليدي للعلاقات السائدة داخلها يقاوم كل تغير جوهري يمسّ العمق.
يبقى أن نؤكد كذلك أنّ مستويات من التغير الحاصل تتخذ شكلاً هيمنياً واستلابياً، من ذلك صيرورة التمدين التي تجعل المدينة فاعلاً والقرية مجرد موضوع لهذا التمدين
[31]، وهو ما يرسخ تبعية الثانية لنماذج الأولى، استهلاكياً وقيمياً وثقافياً، وبفعل وضعية التفاوت التي تعرفها القرى إزاء وسائل الاتصال الحضري وإزاء المدرسة ونماذجها الثقافية المفارقة للوسط القروي، يصبح القرويون أنفسهم أسرى لرغبة قوية للالتحاق بنموذج المدينة
[32] أو العمل على تغيير ملامح مساكنهم وملابسهم على نحو يشبه المدينة أو يقترب منها. أمّا عن المدينة ذاتها فلا تسلم بدورها من تأثيرات هذه العلاقة غير المتكافئة؛ ولهذا نتحدث أيضاً عن "تمدين المجال الحضري" L’urbanisation de L’urbain؛ كمسلسل يستلزم تكيف سكان المدن بما فيهم القدامى مع نمط حضري جديد وعالمي
[33].
وختاماً، فإنّ مجموع التفاوتات الجغرافية والجهوية والسوسيو- اقتصادية لمناطق المغرب، تنبهنا إلى ضرورة التعامل مع التحولات الحاصلة، بمنطق يعير الانتباه للتعددية التي تخترق جسم المجتمع المغربي، فالتغيرات السريعة ما زالت تتم بالمراكز الكبرى، بينما تبطئ سيرها في الهوامش والأطراف والقرى النائية
[34]؛ من هنا نتساءل: كيف يمكن التخلص من ثنائية مركز ومحيط؟ وبالتالي ما الشروط التي تمنع التغير الاجتماعي الجاري من أن يتحول إلى فعل استلابي؟