18 يونيو 2013 بقلم
زهير الخويلدي قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:" السياسة عبارة عن بناء...وهي المكان المفضل الذي يأوي الجميع على قدم المساواة"[1]
من نافل القول أن غالبية السياسيين اليوم لا ينحدرون من نخب أكاديمية حاصلة على تكوين مميز وثقافة عالية ومعظم الذين ينتجون خطابا سياسيا لا يحوزون على زاد علمي كافي في السياسة وإنما لهم خبرة في المناورة وافتكاك المواقع والهيمنة على مصادر القرار ويعتبرون أنفسهم غير محتاجين الى المطالعة وتثقيف أنفسهم لمخاطبة الجمهور. وقد ترتب عن ذلك تلويث الحياة السياسية بممارسات غير ثورية وتوجهات اصلاحية وتنفير الناس من التحزب السياسي وتزييف الحقائق والتفنن في إطلاق الوعود الكاذبة وفي التنصل من طموحات الجماهير وتغطية الواقع بمعسول الكلام وجمل إنشائية رائعة وصور تخييلية مقرصنة من المدينة الفاضلة وجمهورية أفلاطون وغير قابلة للتحقيق. هكذا تعاني السياسة في هذا الزمن الانتقالي العصيب من مرضين أساسيين: الأول هو نفور السياسيين من الحكمة العملية والأخلاق والالتزام وجنوحهم الى البراغماتية والميكيافيلية واستعمال السفسطة والمغالطة والكذب والقوة والتحريض على العنف واستغفال الجماهير واستبلاه العقول. المرض الثاني هو ابتعاد الناس عن الفكرة الجديدة ونفورهم من التحليل الرصين والخطاب العقلاني والبحث العلمي واللغة الموضوعية والمشاريع غير المألوفة وكرهم التنظير والتوجه نحو الفكر المريض وتفضيلهم الممارسة المباشرة واستهلاك البضاعة الصحفية المتداولة والرأي السائد وتلقي الخطاب المألوف وإيثار التحليل السهل الممتنع والتصور البسيط الساذج للأمور. فما هي الأسباب التي أدت الى هذا التباعد بين سياسة الخطاب وخطاب السياسة؟ ومن هو المسؤول على ذلك؟ هل الأمر يرجع الى غياب المثقفين عن الشأن السياسي أم لعزوف السياسيين عن الثقافة والفكر؟ وكيف يمكن انقاذ السياسة من تدجين السياسيين؟ وما الفرق بين الحديث الفكري في السياسة والحديث السياسي في السياسة؟ ألا تتحدد السياسة بالتدبير والعناية والتعقل وجودة الروية وحسن التمييز؟ وهل الاحتماء بالتدبير والعناية كفيل بأن يشحن هذا المفهوم دلالة ثورية نابعة من روح الثقافة الوطنية ومتفقة مع عبقرية لغة الضاد؟
حري بنا في البداية أن نبين أن مفهوم السياسة مشبع بالالتباس والغموض ومليء بالدلالات والمعاني ويحتوي على عدة مفارقات وذلك لانتمائه الى عدة حقول وحضوره اللافت في مجموعة من المجالات وتأثيره على أحوال البشر ومصيرهم. وقد جاء في مختار الصحاح أن السياسة من ساس الرعية[2] وأن ما يجاورها هو السوس وهو الدود الذي يقع في الطعام والأساس الذي يقوم عليه البيت، وفي لسان العرب ساس الأمر يسوسه سياسة اذا دبر الأمر فأحسن التدبير[3]. وبالتالي يفيد لفظ السياسة القيام بالأمر بما يصلح حال الناس ويدل كذلك على تدبير شؤون الحكم والدولة ، فالسياسة عندنا تعني حسن التدبير، وهي من أجلّ الأعمال لأنها من عمل الأنبياء والأولياء والصالحين على الرغم من امكانية بلوغ المستبدين والفاسدين الى سدة الحكم وممارستهم الدهاء والمكر.
من هذا المنطلق تدل كلمة سياسة على تسيير أمور مجموعة معينة وتوجيهها نحو التنظيم والتعاون والتمدن والتفاعل وتحقيق الخير المشترك وذلك بمحاولة التوفيق بين التوجهات المختلفة والنزاعات المتباينة، وفي نفس الوقت تقتضي تتتبع جملة من الاجراءات والطرق من أجل تحقيق المصلحة المشتركة، وعلى هذا الأساس يتخذ السياسي جملة من التدابير الناجعة والقرارات الحاسمة بغية توزيع القوة والنفوذ في المجتمع ويمنع التجاء كل فرد الى استعمال قدرته لفرض رغباته على فرد آخر. هكذا هو وضع علم السياسة ليست فن جعل الحكم الديمقراطي التعددي ممكنا ولا التنظيم المدني للعيش المشترك تاما فحسب بل هي العمل على التوحد حول رؤية سياسية متحررة من الهيمنة الثقافية والقانونية للدولة[4].
لكن ماذا كان يعني حكماء العرب بلفظ التدبير؟ وكيف ارتبط حقله الدلالي بالمجال السياسي؟
غني عن البيان أن التدبير يكون بالعقل والمعرفة والتروي ، والسياسة تقتضي اللين والرفق والتأني مع الشدة في موضع الشدة وتضبط المصلحة وتحفظ الذات وتحرص على حسن القيام بأمور الناس وتقضي حاجاتهم بالكيس والذكاء وتصون الأعراض وتنقاد للعدل وتصبر على الأذى وتطرح الشهوات وتؤثر الحسن من اللذات والإنصاف من الفضائل وتستعمل القوة لنجدة الضعيف ورفع الظلم ومقاومة الفساد وتقدم التربية على السيطرة والإنتاج على الاستهلاك. لكن كيف يضبط من تحت يده من قد عجز عن ضبط نفسه؟ أليس المحكوم بشهوات نفسه فاقدا لأمر الحكم لغيره؟
ما لا يحتاج الى برهان أن التدبير هو أمر لازم من أجل خلق سياسة للجميع وأنه وسيلة ناجعة للتفكير في معضلة التفاوت بين الناس في الصفات والرتب وأنه يعالج الأمراض التي تخلفها المفاضلة بينهم في الأملاك والثروات ويعقلن التنافس والتحاسد والتظالم وينتصر الى العدل والقسط والإنصاف.
" وأحق الناس وأولاهم بتأمل ما يجري عليه تدبير العالم من الحكمة وحسن وإتقان السياسة وأحكام التدبير الملوك الذين جعل الله تعالى ذكره بأيديهم أزمة البلاد وملكهم تدبير البلاد واسترعاهم أمر البرية وفوض اليهم سياسة الرعية "[5]. لكن ألا يختلف تدبير السياسي لشؤون الناس عن تدبير الله لأمور خلقه؟ أليس ثمة فرق بين التدبير الالهي والتدبير الإنساني؟ كيف السبيل الى القطع مع السياسة الدينية وبناء سياسة مدنية؟
ما هو هام في نص ابن سينا هو دعوته السياسي الى ضرورة التحلي بالأخلاق والتسلح بالتيقظ والتنبه وكثرة التفكير والتكشيف والفحص والتعديل والتقويم مع تجنب الركون والثقة والإشفاق والتكفير والتعنيف واستشعار الخوف وشدة الاحتراز والاستعداد عند تقلب الأقدار بغية بلوغ حسن السياسة والتدبير. غير أن تدبير المدينة يختلف من حيث الجوهر عن تدبير المرء نفسه ودخله وخرجه وبيته وأكبر بكثير من تدبير الأهل ويقتضي إحداث قطيعة مع التدبير المنزلي والأحكام السلطانية والمماثلة بين الله والملك الأرضي.
" وأشرف الأمور التي يقال عليها التدبير هو تدبير المدن وتدبير المنزل...وأما تدبير الإله للعالم فإنما هو تدبير بوجه آخر، بعيد النسبة عن أقرب المعاني تشبها به، وهذا هو التدبير المطلق، وأشرفها، لأنه إنما قيل له تدبير للشبه المظنون بينه وبين إيجاد الإله تعالى للعالم."[6] ويستنتج ابن باجة من ذلك أن التدبير على الإطلاق هو العلم المدني والذي يعتني بالترتيب في الجسد والحرب والاقتصاد والإدارة والقضاء والمنزل.
علاوة على ذلك كان أبو نصر الفارابي قد عقد الصلة بين التدبير والرأي والمشورة وسياسة المرء لذاته ولغيره ودعا الى قيام علم مدني على العدل بقوله "ولابد للمرء من المشاورة مع غيره في آرائه وتدبيره فينبغي أن يستودعها ذوي النبل وكبر الهمة وعزة النفس وذوي العقول والألباب فإن أمثالهم لا يذيعونها"[7].
غاية المراد أن سداد النظر وكمال الرأي عند السائس شدة في غير إفراط ولين في غير إهمال ، وبعبارة أخرى يجب على من يسوس الناس ويدبر أمرهم أن يعمل على تأخير العقوبة عند الغضب تركا المجال للعفو وتعجيل المكافأة عند الاحسان تسريعا بالطاعة ويتأنى في القرار والحكم على المصير ويصبر فيما يحدث له من ابتلاء ويفسح المجال لتقلبات الزمان وقدوم الأحسن. فهل يقدر المدبر الانساني لسياسة الناس بالفكر والتعقل من أن يضاهي التدبير الالهي المطلق بالعلم والقدرة على ترتيب العالم وتنسيق ظواهر الكون ؟ ألا ينبغي أن يختص الانسان بهذه الصفة من التدبير؟ وهل التدبير الالهي هو الكامل والتدبير الانساني هو الناقص؟ ومتى تصبح المدينة وجودا سياسيا كاملا؟