2014-02-23 نقــد بلاغــة السلطــة وتقويض سلطة البلاغة
|
| |
تُعد البلاغة النقدية Critical Rhetoric أحد أهم اتجاهين بلاغيين في البلاغة الأمريكية المعاصرة(1). وقد ارتبطت بكتابات عالمي بلاغة أمريكيين هما مايكل ماكجي Michael McGee وريمي مكرو Mckerrow Raymie. لكن تأسيس هذا المشروع يرجع بشكل مباشر إلى كتابات مكرو (1989، 1991، 2001 Mckerrow). وقد نشر مكرو في عام1989 دراسته «البلاغة النقدية: النظرية والممارسة» التي قدم فيها مشروع البلاغة النقدية إلى الأوساط الأكاديمية الأمريكية. وبعدها بعامين خصصت الدورية الفصلية لدراسات الكلام Quarterly Journal of Speech منتدى العدد رقم 77 للبلاغة النقدية. ويبدو أن دعوته لتأسيس مشروع البلاغة النقدية قد لاقت استجابة من بعض دارسي البلاغة الأمريكيين، يظهر ذلك من القائمة الكبيرة، غير الشاملة، التي أورد فيها مكرو الدراسات البلاغية التي تنتمي للبلاغة النقدية(2).
1. مقدمة
ترجع أهمية تقديم مشروع البلاغة النقدية للقارئ العربي إلى حقيقة أن الدراسات البلاغية العربية المعاصرة تبدو إلى حد كبير منقطعة الصلة عن التطورات المعاصرة في البلاغة الأمريكية. وربما يرجع ذلك إلى أسباب متعددة، لعل أهمها الارتباط الوثيق بين البلاغة والنقد الأدبي في الأكاديمية العربية، في حين تمَّ فك هذا الارتباط في الدراسات البلاغية الأمريكية منذ أكثر من نصف قرن من الزمان، وليس أدل على ذلك من أن البلاغة، في معظم الجامعات الأمريكية في الوقت الراهن، تُدرَس وتدرَّس في أقسام علوم الاتصال وليس اللغة أو الأدب، وليس الأمر كذلك في العالم العربي، حيث تُدرَس البلاغة وتدرَّس في أقسام علوم اللغة والأدب. هذا الانفصال هو تجل مادي لمغايرة فعلية بين البلاغتين في أهداف كلٍٍ منهما، والمادة التي يدرسها والمناهج التي يستخدمها، وقد يصدق إلى حد كبير القول بأن كلاً منهما يتحرك في فضاء خاص. ويأتي تقديم مشروع البلاغة النقدية إلى القارئ العربي رغبة في استكشاف إمكانية تعميق الصلة بين التوجهات الأمريكية المعاصرة في الدرس البلاغي والدراسات البلاغية العربية المعاصرة واستكشاف إمكانية وجود نقاط للتقاطع والاتصال فيما بينهما.
2. البلاغة النقدية: والنقد الأفلاطوني للبلاغة
ظهرت البلاغة النقدية في الأوساط الأكاديمية الأمريكية المعنية بالدراسات البلاغية، خاصة أقسام علوم الاتصال وعلم البلاغة. ويبدو من الضروري التوقف أمام مسألة مارست تأثيرا كبيرا عليها، وهي السمعة السيئة التي تحيط بكلمة البلاغة لدى المواطن الأمريكي العادي، والباحثين الأمريكيين على السواء، سواء أكانت تستخدم للإشارة إلى النصوص أو الخطابات التي توصف بأنها بليغة، أم إلى العلم الذي يدرس هذه النصوص والخطابات أو يُعين على إنتاجها(3). فقاموس مريام-ويبستر يذكر في مادة بلاغة أن أحد معاني كلمة البلاغة حين تستخدم في وصف كلام ما هو أنه «كلام طنان مخادع»، أما قاموس التراث الأمريكي فيذكر في نفس المادة أنها تعني «كلام معقد أو استعراضي أو مخادع أو رطاني». كما أنه من الشائع في الإطار الأكاديمي أن توضع البلاغة في مقابل «الواقع» أو «الحقيقية» في عناوين المؤلفات الأكاديمية، في إشارة واضحة إلى أن ما هو بلاغي ليس إلا تمثيلات مخالفة للواقع ومزيِّفة له بشكل قصدي وبهدف التزييف والتضليل(4). وتزداد هذه السمعة سوءا حين تشير كلمة البلاغة إلى علم أو فن إنتاج الكلام البليغ، نتيجة للدور السلبي الذي تمارسه بعض الدراسات البلاغية وبعض دارسي البلاغة المعاصرين في خدمة أصحاب المصالح من السياسيين والاقتصاديين الحريصين على الإفادة من القدرة الهائلة التي يقدمها الخطاب بوصفه أداةً للسيطرة.
تضرب هذه السمعة السيئة للبلاغة بوصفها علمًا أو فنًا بجذورها في عمق الزمن. فقد أرجع كارل بوبر الإيحاءات السلبية المرتبطة بكلمة بلاغة إلى الفيلسوف اليوناني أفلاطون (429-347 ق.م)(5). أما جرونبك(6) فقد ذهب إلى أن أفلاطون ربما يكون قد اخترع كلمة «البلاغة» Rhetorikê وحمَّلها بهذه الدلالات السلبية(7). ويذهب فيكرز(8) إلى أن أفلاطون كان حريصا على أن يرسم صورة قاتمة للبلاغة بقدر ما يستطيع، وأن يدفعها إلى الحضيض(9). وقد دفع موقف أفلاطون من البلاغة يسلنج في مفتتح دراسته عن البلاغة والفلسفة إلى اقتراح تغيير العنوان الفرعي لمحاورة «جورجياس»، وهو «عن البلاغة»، إلى العنوان الذي يراه أكثر تعبيرًا عنها، وهو «ضد البلاغة»، مقتفيا بذلك خُطَى ألفريد كروازيه في مقدمته التي صدَّر بها ترجمته للمحاورة إلى الفرنسية(10).
لقد كانت تلك السمعة السيئة للبلاغة محركًا أساسيًّا وراء ظهور مشروع البلاغة النقدية. ويلح مكرو في سياق عرضه للأفكار والمبادئ الأساسية لمشروعه على أن البلاغة النقدية تمثل استجابة جديدة لما يسميه «التحدي الأفلاطوني للبلاغة». فهو يرى أن البلاغيين يجب ألا يتورطوا في التحدي الأفلاطوني للبلاغة. ذلك التحدي الذي حمَّلهم عبء الدفاع عن البلاغة، ومحاولة إثبات أنها ليست «فنًا دونيًا». وأنه يجدر بدارسي البلاغة أن يتوقفوا عن السعي إلى إعادة توجيه البلاغة عن طريق اعتماد مفهوم لها «يمثل اعتذارًا عن عدم قدرتها على الوفاء بمعايير أفلاطون للحقيقة». ومصدر المشكلة، هو سيطرة المفهوم الكوني للعقل الذي يحتفي بـ«المطلق» و«الكوني» على حساب تقدير السياق والعرف، وازدراء البلاغة لأنها لا تحقق هذا المفهوم. والمخرَج، كما يراه، يكمن في مناهضة مفاهيم أفلاطون التي حاكم البلاغة وفقا لها. ولتحقيق ذلك أعاد مكرو تعريف طبيعة العقل وطبيعة المعرفة، فقد رفض المفهوم الكوني للعقل لصالح السياق والعُرف، كما ذهب إلى أن طبيعة المعرفة اعتقادية وليست ابستمولوجية، وأنها نسبية وليست كونية. ومن الواضح أن مكرو أخذ صف السوفسطائيين- ممثلي البلاغة التي هاجمها أفلاطون- ليس في خصومتهم لأفلاطون فحسب، بل في جوهر مفاهيمهم كذلك، والتي تتماس بشكل وثيق مع بعض مفاهيم ما بعد الحداثة. ويرى مكرو أن المفاهيم السابقة يمكن أن تُمثل أساسا لمشروع بلاغي يستكشف، نظريةً وممارسةً، إمكانية تطبيق مشروع يتجاوز القيود التي يفرضها المفهوم الأفلاطوني للبلاغة، أطلق عليه البلاغة النقدية(11).
3. وظيفة البلاغة النقدية
تنقل البلاغة النقدية مركز الاهتمام، في إطار الدراسات البلاغية، من إنشاء الخطاب إلى نقده، حيث إن مهمتها تكمن في الانخراط في نقد مستمر ثابت للخطاب(12). هذا النقد يُمارَس بشكل أساس على الخطابات العامة، مثل المقالات الصحفية والبرامج الإذاعية والتليفزيونية..إلخ، التي يرى مكرو أنها وإن لم تكن في حد ذاتها نصوصا راقية فإنها تمارس تأثيرا كبيرا، خاصة في تشكيل الثقافات الشعبية. ويتخذ مشروع البلاغة النقدية من هذه الخطابات العامة مادة لتحليله، خاصة تلك التي تسهم في إنجاز القهر والقمع.
وقد ذكر يازنسكي بعض أشكال الخطابات العامة التي يتجلى فيها مثل هذا القمع والقهر، والتي يتخذ مشروع بلاغة المخاطَب منها مادة له. فهو يرى أن القمع والقهر يتجليان في «خطاب سياسي يبرر اتفاقية تجارية سوف تقلل فرص العمل وتضر بالبيئة بالقول بأنها تحافظ على القدرة الاقتصادية التنافسية للأمة،...، وفي إعلان صادر عن هيئة الاحتياطي الفيدرالي يتعلق بزيادة الضرائب لمواجهة التضخم، رغم أن هذا سوف يؤدي إلى تقليل فرص العمل الجديدة، واستمرار بطالة ملايين الأمريكيين، وفي أخبار تلفيزيونيه عن برامج الإنعاش الاقتصادي مركزة على أسرة من الزنوج على الرغم من أن معظم المستفيدين من هذه البرامج من المواطنين البيض..إلخ»(13). ويرى يازنسكي أن هذه الخطابات تنتسب إلى القمع والقهر لأنها:
1) تعطي الأولوية للأهداف بعيدة المدى للطبقة الرأسمالية على حساب الاحتياجات المادية الملحة للعمال الأمريكيين، أو لأنها: 2) تقوم بالتعمية على سلطويتها، أو لأنها: 3) تُلبِس المصالح الخاصة ثوب المصالح العامة، أو لأنها: 4) تبرر أشكالا متنوعة من الهيمنة والعدوان الفرديين». وأن علماء البلاغة النقديون «يحاولون تفكيك هذه الخطابات، وتعرية ما أخفي وشوِّه، بهدف دعم حرية البشر وتعزيزها»(14). وهي وظيفة يشترك فيها البلاغيون النقديون مع كل المقاربات والمناهج التي تسعى لمقاومة خطاب السلطة والخطابات السلطوية.
عبر كتاباته المتعددة قدم مكرو صياغات متفاوتة لوظيفة البلاغة النقدية. فهناك «مهمة داخلية للبلاغة النقدية» تتمثل في «إعادة خلق أو إنشاء حجاج يحدد التكامل بين السلطة والمعرفة، ويصور بدقة دور السلطة/المعرفة في تشكيل الممارسات الاجتماعية»(15). تتحقق هذه الوظيفة عن طريق عمليتين متصلتين، الأولى: مساءلة الهيمنة، والثانية: مساءلة التحرر. والعمليتان تستهدفان بدورهما كشف الطرق التي يسهم الخطاب من خلالها في إنتاج القهر الاجتماعي والسياسي، ومن ثم تأسيس متطلبات التحرر منه. ويرى يازنسكي أنه على الرغم من اتصال العمليتين وتكاملهما فإنهما تتمايزان بحسب فهمهما للسلطة، فمساءلة الهيمنة تفهم السلطة على أنها قمعية، تقوم بتقليص ممكنات الفعل الإنساني، أما مساءلة الحرية فتفهم السلطة على أنها منتِجة، أي أنها قوى إيجابية تؤسس علاقات اجتماعية وترسخها(16).
إن خطاب التحرر وخطاب الهيمنة لا يشكلان خطابين متمايزين، بل هما بالأحرى عمليتان تخصان خطابا واحدا. ويمكن أن نعيد تحديد الفرق بين عمليتي مساءلة الهيمنة ومساءلة التحرر في الخطاب السلطوي. فالعملية الأولى تركز على ما تم إقصاؤه وقمعه من خطابات بديلة. أما الثانية فتدرس ما أنتجته السلطة من خطابات. ومن ثم فإن مُساءلة التحرر لا تُعنى بالتحرر (الخطابي) بوصفه بديلا عن الهيمنة (الخطابية)، حيث إن خطاب التحرر ليس إلا خطابا سلطويا يمارس هيمنة وقهرا..إلخ. وأي خطاب يتعارض معه أو يناقضه سوف يكون هو أيضا خطابًا سلطويًا. وربما نتج هذا التصور للخطابات بوصفها في حالة تحول دائبة من مفهوم الإرجاء التفكيكي. وفي الواقع فإنه ربما يوجد تناقض بين الأساس التفكيكي الذي فُهمت الخطابات السلطوية وفقا له، والذي يُسقط السلطوية على كل الخطابات، وسعي مكرو إلى الوصول إلى «معنىً» محدد، فهو يرى أن البلاغة النقدية تُمكِّن المرءَ من خلق معنى من خليط الخطابات التي تميز تجربة ما بعد الحداثة. فالمعنى الذي يسعى إليه مكرو قد ينطوي على أحادية وثبات واستمرار، وهو ما يتناقض مع تعدد المعاني وتصارعها لدى التفكيكيين. وربما ينضم ذلك إلى عناصر أخرى للتوتر بين الأبعاد الحداثية وما بعد الحداثية في مشروع مكرو(17).
لم يحدد مكرو المهمة الخارجية التي يمكن أن توازي المهمة الداخلية للبلاغة النقدية، أو تتقاطع معها، أو تكملها. ولكننا يمكن أن نخمِّن أنها ترتبط بما أشار إليه يازنسكي من أن البلاغة النقدية هدفها تقديم توجه ما، أو منظور ما، يكيِّف تفاعل الناقد مع عالمه. وفي حين أن المهمة الداخلية، بغض النظر عن كونها مشتركة بين عدد من المعارف، يمكن أن تكون متصلة بالممارسة المعرفية الخاصة بالبلاغي النقدي، بحسب تسمية مكرو، فإن المهمة الثانية عامة إلى حد الإطلاق، حيث إن أي توجه أو منظور معرفي يتبناه أي إنسان يكيِّف تفاعله مع عالمه، دون تخصيص. وهذه الفاعلية غير موقوفة على منظور بعينه أو تخصص أو متخصص بذاته. وربما كان الفرق يكمن في درجة الوعي بالعلاقة بين المنظور المعرفي أو السياسي أو الأخلاقي المتبنَّى وطبيعة التفاعل مع العالم.
ثمة طابع رومانسي يبدو أنه لا مهرب منه فيما يتعلق بالغايات التي تحددها لنفسها الممارسات المناهضة للهيمنة. ولم يفلت مشروع البلاغة النقدية من هذا الطابع. فعلى الرغم من أن مكرو تشكك في قدرة الأعمال النقدية على تغيير العالم، فإنه أكد أن البلاغة النقدية تستطيع على الأقل أن تغير وضع الدراسات البلاغية في الفضاء الأوسع للإنسانيات، والفضاء الأضيق للنظرية الاجتماعية. وقد وجد مكرو في ختام مقاله التأسيسي أنه قدم الأدوات اللازمة لتحقيق غاياته. في إشارة ضمنية إلى أن تحقيق هذه الغايات لم يعد مسئوليته، وإنما هو رهن باستفادة الآخرين من الأدوات التي قدمها(18).
4. المفاهيم الأساسية ومبادئ الممارسة
من الضروري إذن أن نقف على أدوات مشروع البلاغة النقدية التي تمثلت في بعض المفاهيم النظرية وبعض مبادئ للممارسة. تتضمن قائمة المفاهيم عددا محدودا من المفاهيم المأخوذة عن أدبيات النظرية النقدية بمرحلتيها المبكرة والمتأخرة، وبعض توجهات ما بعد الحداثة، خاصة منهاج فوكوه في تحليل الخطاب، مثل: السلطة Power، الخطاب Discourse، المساءلة Critique، الهيمنة Hegemony، التشظي Fragmentation. وفي الواقع فإن البناء النظري الذي تدخل فيه هذه المفاهيم لا يتأسس بوضوح. وكانت عناية مكرو بالتأسيس النظري لمشروعه محدودة في كل دراساته حول البلاغة النقدية.
تعددت السياقات التي يؤكد فيها مكرو أن مشروع البلاغة النقدية لا يقدم منهجا أو إجراءات للبحث، و»لا يتعهد بتقديم نظام محدد لبروتوكولات البحث أو استراتيجيات القراءة»، وأن ما يعد بتقديمه يتمثل في توجه ما أو منظور ما يكيِّف أو يوجه تفاعل النقدي مع عالمه(19). ومن المؤكد أن ما يّعِدُ مشروع البلاغة النقدية بتقديمه لا يخص البلاغة النقدية، فكل ممارسة معرفية حقيقية من الطبيعي أن تؤدي إلى تكييف أو توجيه تفاعل الباحث مع عالمه. وإذا كان المقصود على وجه التحديد إكساب الباحث منظورا نقديا عاما فإن ذلك شرط أولي لكل ممارسة معرفية. وإذا كان المقصود منظورا نقديا خاصا مثل النظرية النقدية فإن هذا لا يمثل مهمة للبلاغة النقدية، وإنما يمثل مهمة للنظرية النقدية ذاتها. وربما كان الأقرب إلى الواقع هو أن البلاغة النقدية تسعى للإطلالة على النص البلاغي بواسطة منظورات لم يؤلف النظر إليه منها على نحو مؤسَّس في الدراسات البلاغية الأمريكية المعاصرة، وربما كانت النظرية النقدية التي قدمها فلاسفة معهد فرانكفورت للعلوم الاجتماعية وتطويراتها لدى هابرماس، وتحليل فوكوه للخطاب أهم هذه المنظورات.
لا تقدم البلاغة النقدية إذن منهجا أو مقاربة، ولا تقترح إجراءات أو أدوات، أو عمليات أو منطلقات للتحليل. وتتبنى مفهوما للبلاغة تصبح فيه نقدا، والنقد يصبح ممارسة غير مقيَّدة أو مشروطة. تتحرك هذه الممارسة، وفق مكرو، تبعا لمقتضيات البحث Inquiry، وتنظمها مبادئ للممارسة Principles of Practice. وقد خصص لعرض هذه المبادئ معظم مساحة مقالاته التي سبقت الإشارة إليها.
يرى مكرو أن مبادئ الممارسة تحدد شروط تكيف البلاغة مع السياق ما بعد الحداثي الذي يؤدي فيه البلاغي نقده(20). وتقع مبادئ الممارسة في ثمانية مبادئ. هذه المبادئ- بحسب ما يقدمه يازنسكي (2001)- هي:
المبدأ الأول: النقد ممارسة وليس منهجا. وعلة كون النقد ممارسة هي أن عملية الفهم (وهي العملية التي تحاول «المناهج« النقدية تنظيمها) لا تنفصل عن عملية التقييم. ولا تسعى البلاغة النقدية إلى تقديم وصف محايد للرسائل أو التشكيلات الخطابية Discursive formations إنها تقييمية دائما، ومن ثمَّ فإنها شكل من الممارسة غايته التأثير في العالم.
المبدأ الثاني: الخطاب السلطوي خطاب مادي. هذا المبدأ يؤكد القدرة الإنشائية للممارسة الخطابية. وجوهره أن: الخطاب يقوم بأكثر من وصف العالم، إنه يخلق ما يُدرك بوصفه حقيقة بالنسبة للعالم.
المبدأ الثالث: تكوِّن البلاغة معرفةً اعتقادية doxatic، وليس معرفة ابستمولوجية epistemic. وقد جاء هذا المبدأ نتيجة محاولة مكرو تجاوز الإشكال الأفلاطوني. لقد حاول أفلاطون، وفقا لمكرو، إجبار البلاغيين على القتال انطلاقا من أرضيته، وهي أرضية تحكم على الممارسات وفقا لتطابقها مع المبادئ الكلية أو الأشكال الجوهرية. وفي رأيه أنه يوجد مدخل أكثر إيجابية يتمثل في إعادة التأكيد على قيمة المعرفة البلاغية –الاعتقادية- وهو بذلك يعيد تأسيس النظرية والممارسة في سياق يسهِّل استمرارها إلى حد بعيد. يعني هذا التحول أنه بدلا من التركيز على أسئلة (الحقيقة) و(الزيف) يمكن أن يركز التطبيق النقدي على الرموز التي تسعى لامتلاك السلطة، وما (تفعله) بالمجتمع في مقابل ما (تكونه). باختصار: يقدم المبدأ الثالث البلاغة النقدية على أنها وظيفية بشكل جذري، انشغالها الأساس يختص بالكيفية التي توجِد بها الممارسات الخطابية السلطة.
المبدأ الرابع: التسمية Nominalization هي الفعل المركزي في بلاغة المسمِّي. ويتضمن هذا المبدأ نقطتين رئيستين، الأولى: اقتراح إعادة تأويل البلاغة بوصفها «فعل تسمية«. الثانية: التأكيد على التسمية بوصفها الفعل الرمزي المركزي. إن عملية التسمية أو النعت أو إطلاق الشعارات ليست عملية محايدة أو بلا عواقب. فالمصطلحات التي توظف في الممارسات الخطابية ليست مجرد كلمات. وتندرج التسميات والشعارات في التجليين اللذين حددهما مكرو للسلطة وهما القمعي والإنتاجي. فالتسميات والشعارات يمكنها أن تحجب أو تتيح الممارسة أو التفكير اللاحقين.
المبدأ الخامس: الأثر ليس هو السببية. يدخل مشروع البلاغة النقدية، كما صاغه مكرو، في إطار مجهودات أشمل تستهدف إعادة تمحيص فكرة التأثير البلاغي. وقد تابع مكرو عددا من العلماء المعاصرين في حقل البلاغة وحقول أخرى في القول بأنه من غير الصواب تقليص الأثر أو التأثير البلاغي إلى مجرد مبدأ السببية.
المبدأ السادس: الغياب له نفس أهمية الحضور في فهم الفعل الرمزي وتقييمه. والنقطة الأساسية في هذا المبدأ هي: أهمية ما يقال ربما لا تماثل أهمية ما لا يقال في كثير من الحالات.
المبدأ السابع: ينطوي التشظي على إمكانية تعدد التأويلات وليس التأويل الأحادي.
المبدأ الثامن: النقد أداء. ويرتبط هذا المبدأ بكون البلاغة ممارسة، وليست منهجا للتحليل»(21).
تقوم المبادئ السابقة بوظيفة الإطار العام الذي قد يوجه إدراك البلاغي النقدي لكل من طبيعة المعرفة التي يمارسها، أعني البلاغة، وطبيعة المادة التي يقوم بدراستها، أعني الخطاب. تهدف هذه المبادئ، كما صرح ماكرو، بشكل مباشر إلى وضع البلاغة في فضاء ما بعد حداثي. كما أنها قد تتضمن كذلك اصطفاءً لفعل بلاغي محدد هو فعل التسمية، ودفعه إلى صدارة العمل البلاغي. لكن هذه المبادئ –عدا المبدأ الرابع- تتسم بالعمومية إلى درجة يمكن معها القول بأنها لا تخص البلاغة ولكنها قابلة لأن تنطبق على أية ممارسة معرفية تتخذ من الخطاب موضوعا لها ومن فلسفات ما بعد الحداثة إطارا معرفيا لها.
5. هل يُعد مشروع البلاغة النقدية مشروعا بلاغيًا؟
تعرضت البلاغة النقدية منذ تدشينها لانتقادات عديدة. فقد انتقد شارلاند كون مشروع مكرو لا يقدم أية رؤية اجتماعية أو معيارًا للصحة الاجتماعية أو غاية نهائية سوى النقد المستمر. وذهب إلى أن الممارسة وفق هذه الظروف محكوم عليها بالتوقف لأنه لا يوجد سبب لكي يطرأ تغير على طرف أو آخر. كما تتبع بعض النتائج المترتبة على الاعتماد على منهاج فوكوه في نقد الخطاب. وذهب إلى أن استناد مكرو إلى منهاج فوكوه في تحليل الخطاب جعله يهمل عنصرا مركزيا في البلاغة هو الاهتمام بالمتلقي. حيث يركز فوكوه، ويتبعه في ذلك مكرو، على إنتاج الخطاب وتأثيراته، مهملا لحظة تلقيه وتأويله بواسطة فاعل متعين أخلاقيا وتاريخيا(22).
تبدو الملاحظة الأخيرة بالغة الأهمية لأنها تفتح الباب أمام التساؤل حول خصوصية مشروع البلاغة النقدية من ناحية، وحول مشروعية اندراجه في إطار الدراسات البلاغية من ناحية أخرى. فالمراجع للأهداف التي يسعى المشروع إلى إنجازها سواء أكانت عامة أم خاصة ربما يلاحظ أنها هي ذاتها أهداف توجهات مثل تحليل فوكوه للخطاب والتحليل النقدي للخطاب. وفي ظل غياب تحديد لموضوعات خاصة بمشروع البلاغة النقدية، أو مادة خاصة بها، أو مقاربات أو مناهج أو أدوات خاصة للتحليل يصبح السؤال حول مبرر إعلانها مشروعا معرفيا جديدا أمرا ضروريا.
لقد رفض مكرو إعادة موضعة البلاغة، واختار تحويلها إلى ممارسة جديدة. فقد ذكر أنه للهرب من تأثير أفلاطون «فإن المهمة لا تقتضي إعادة موضَعة البلاغة، بل إعلانها ممارسة نقدية»(23). إن إعادة الموضعة تتضمن الاحتفاظ بالخصائص الأصلية للمُمَوضَع. ويؤدي افتقاد هذه الخصائص إلى تحويل البلاغة إلى ممارسة معرفية أخرى. وأظن أن مشروع البلاغة النقدية كان محاولة لتحويل البلاغة إلى تحليل فوكوهي للخطاب. وهو أمر نبيل وأخلاقي، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار طبيعة الدراسات البلاغية الأمريكية -والتي تُعنى بالأساس بمد المؤسسات المسيطرة بما تحتاجه من أدوات بلاغية لإنجاز الهيمنة والسيطرة على مخاطبيهم- لكنه لا يترك للبلاغي النقدي، كما لاحظ تشارلاند، أرضية خاصة يقف عليها.
يمكن القول إن ممارسة البلاغة النقدية هي التي سوف تحدد أي أرض يقف عليها، وأي تسمية يجدر بنا أن نطلقها على ممارسته. وعند هذه النقطة تظهر مشكلة حقيقية للبلاغة النقدية، تتمثل في أن معظم المشاركين في الجدل النظري حول البلاغة النقدية، بمن فيهم مكرو، لم ينخرطوا في ممارسة تطبيقية لها. وفي الواقع فإن الببليوجرافيا التي يوردها مكرو لكتاباته في البلاغة النقدية تخلو من أية دراسة تطبيقية تتضمن تحليلًا تفصيليا لخطاب أو نص ما استنادا إلى مشروعه. وبعد 18 عاما من إعلان مشروع البلاغة النقدية فإن كم الدراسات التطبيقية التي قُدمت يبدو هزيلا مقارنة بالكتابات النظرية عنها أو حولها. وقد لاحظ كلارك أنه «بينما أدى تعاطف العلماء مع المشروع البلاغة النقدية إلى إحداث تطويرات نظرية دالة، فإن اختبار إمكانية تطبيق النظرية لم يتحقق بعد»(24). وبعد عشر سنوات من مقولة كلارك فإنها تظل صحيحة إلى حد كبير، حيث إن معظم المشاركين في الجدل النظري حول البلاغة النقدية لم ينخرطوا في ممارسة تطبيقية لها. بينما تم تقديم دراسات متعددة تهدف إلى إثراء الأساس النظري، سواء من خلال محاولة الإفادة من الفلسفة اليونانية القديمة (كلارك 1996)، أو الفلسفة الأوروبية الحديثة (زومبتي 1997 (Zompetti و (هاريمان 1991).
6. الأهداف والوسائل: تكامل أم صراع؟
لقد وضع مكرو أهدافا اجتماعية طموحة تتعلق بمقاومة الهيمنة التي يمكن أن يمارسها تحالف المعرفة والسلطة على المجتمع. لكن هاريمان أوضح أن هناك تناقضا جذريا بين هذه الأهداف وبين طريقة عمل البلاغة النقدية، المعنية فحسب بشحذ القدرة على التأويل. وهو ما يجعل من خطاب البلاغة النقدية، خطابا أكاديميا بشكل خالص. خطاب يجرد بعض الخطابات من سلطويتها، ليحوزها هو(25).
يوجد تناقض آخر بين الممارسة التي يقترحها مشروع البلاغة النقدية والطموح الذي يعلن عنه كهدف لهذه الممارسة. لقد ذهب مكرو إلى أن مقاومة السلطة يمكن أن تتم من خلال إنتاج معانٍ متعددة للخطابات، لكن إنتاج معاني متعددة للخطاب لا يؤدي إلى تجريد السلطة من ممارسها. فتعدد المعنى لا يقوض سلطوية الخطاب. على العكس من ذلك، يمكن القول إن سلطوية خطاب ما قد تُدعَّم بواسطة قدرته على خلق خليط من المعاني التي يسعى للتمويه بها. وربما كان ذلك وراء صفة الغموض التي تميز بعض أكثر الخطابات سلطوية، مثل الخطاب السياسي. إن تعدد المعنى لا يمكن أن يمثل وحده آلية لمواجهة الخطاب السلطوي، لأن الخطاب لا يمارس سلطويته بواسطة عملية إنتاج المعنى فحسب، بل يقوم بإنجاز الهيمنة والسيطرة والتمييز والمقت..إلخ بواسطة أفعال الكلام Speech Acts. فالمعنى ليس حاصل الخطاب، وليس أهم ما يتكشف عنه، أو يسعى إليه. وأخيرا، فإن مشروع البلاغة النقدية لم يُطوِّر وعيًا خاصًا بالعلاقة بين الخطاب والسلطة، ولم يقدم أدوات أو إجراءات يمكن الركون إليها في تحليل خطاب ما، ولم يقدم أدوات للتمييز بين السلطوي وغير السلطوي من الخطابات. وتؤدي العوامل السابقة، في المحصلة النهائية، إلى صعوبة الإفادة منه في سياق مقاومة الخطاب السلطوي. وربما كان ذلك وراء الانتشار المحدود الذي حظي به بالقياس إلى مقاربات أخرى شبيهة مثل التحليل النقدي للخطاب.
يبدو أن مكرو كان يدرك حدود ما يمكن للمشروع الذي يقدمه أن يقوم به على أرض الواقع، وهو ما جعله يقصر توقعه لما يمكن أن تقوم به البلاغة النقدية بالفعل على «تغيير الممارسة الأكاديمية» داخل حقل البلاغة، وهو هدف رآه كافيا في حد ذاته. ومع ذلك لم يدفعه إدراكه لحدود ما يمكن أن يقدمه مشروعه إلى إعادة صياغة أهدافه وغاياته، أو إلى إعادة صياغة بنية مشروعه لينسجم مع أهدافه. وهو ما أدى في المحصلة النهائية إلى ظهور هذا التناقض الجذري بين الأدوات والوسائل من ناحية والأهداف والغايات المعلنة من ناحية أخرى.
7. خاتمة: ما الذي يمكن أن تفيده البلاغة العربية من مشروع البلاغة النقدية؟
قد يكون من الضروري في سياق التعريف بتوجه معرفي ما أن نحدد الأهمية الفعلية أو المحتملة لهذا التوجه بالنسبة لمن يقدَّم لهم هذا التعريف. بصياغة أخرى أكثر تخصيصا نقول إنه قد يكون من الضروري تحديد الفائدة التي قد تجنيها البلاغة العربية ودارسي البلاغة العربية من الاطلاع على مشروع البلاغة النقدية.
لقد سبقت الإشارة إلى أن البلاغة النقدية ارتبطت بشكل جذري بالطبيعة الخاصة للمجتمع الأمريكي في أواخر القرن العشرين من ناحية، وواقع الدراسات الأمريكية المعاصرة من ناحية أخرى. ويمكن أن نذكر أيضا أن البلاغة العربية تتحرك في أطر مختلفة بدرجة كبيرة عن الأطر التي يتحرك فيها مشروع البلاغة النقدية. لكن كلا الأمرين السابقين لا يعنيان أنه لا يمكن الإفادة من هذا المشروع في إطار البلاغة العربية. ويمكن تلخيص أوجه الإفادة المحتملة من هذا المشروع في أنه قد يكون محفزا على ارتياد آفاق جديدة للبلاغة العربية خارج دائرة النصوص الأدبية والنصوص المقدسة. كما أن الهدف النبيل الذي ينطوي عليه المشروع، أعني مقاومة الخطابات السلطوية، قد يكون ملهما لمشاريع تعمل في إطار البلاغة العربية، تسعى لتحقيق الهدف ذاته، مع إدراكها لخصوصية المجتمعات التي تعمل فيها وخصوصية العلم الذي تنتمي إليه.
تنتمي البلاغة النقدية إلى الحقل المعرفي الواسع للبلاغة. وعلى الرغم من وجود تمايزات حادة بين البلاغتين العربية والأوربية فإن هناك أيضا سمات مشتركة بينهما. ولأن دراستي تقع في إطار البلاغة العربية –بتكييفات خاصة- فإن من الضروري الوقوف على توجه يعمل في حقل معرفي قد يتوازى أو يتقاطع مع البلاغة العربية. خاصة وأن كلا من مشروع البلاغة النقدية، الخارج من عباءة الدراسات البلاغية الأمريكية المعاصرة، ومشروع بلاغة المخاطَب- الذي يقترحه هذا البحث، والخارج من عباءة البلاغة العربية- يتشاركان هدفا عاما واحدا، هو مقاومة الخطاب السلطوي. وقد كان التشارك في الهدف دافعا إلى توجيه مزيد من الاهتمام للخصائص المميزة لكل منهما. وسوف نبدأ بتحديد نقاط الالتقاء بينهما.
يذهب مكرو إلى أن الوظيفة وليست القيمة الفنية هي المعيار الحاسم في تحديد موضوعات البحث. وصرح بوضوح أن بعض خطابات الثقافة الشعبية تمارس في الوقت الراهن، تأثيرا يفوق تأثير كل الخطب العظيمة لعظماء البلاغة الراحلين. وأنه لهذا يعتبرها الأجدر بالدراسة. وقد عدد مكرو نماذج للخطابات التي يمكن أن يهتم بها محللو البلاغة النقدية، مثل البيانات الحكومية، والبرامج الإذاعية، والتحقيقات الصحفية، والمقابلات التليفزيونية التي تعنى بمسائل اجتماعية وسياسية. والملاحظ أن هذه الخطابات تنتمي جميعا إلى الخطاب الإعلامي. و أنها تمثل ما يُعرف ب «الخطابات الجماهيرية». ويبدو أن اختيار مثل هذه الخطابات موضوعا للبحث في إطار أي توجه معرفي يسعى لمقاومة الخطاب السلطوي هو أمر طبيعي، فالمحللون النقديون للخطاب يركزون على الخطابات الجماهيرية مثل خطابات وسائل الإعلام مثل الصحف والإذاعة والتليفزيون وتصريحات السياسيين وخطبهم، وأشكال الدعاية التجارية والسياسية..إلخ. وربما يرجع ذلك إلى أن هذه الخطابات هي الأكثر شيوعا، وربما الأكثر تأثيرا وسيطرة، ومن ثم سلطوية. وهو ما يجعلها الأولى بالمقاومة ومن ثم بالدراسة. ولا يعني ذلك أن الخطابات المتخصصة أو النخبوية أقل سلطوية في ذاتها –وهذا ما لا يستطيع أحد القول به- بل يعني أن الخطابات الجماهيرية العامة يتسع النطاق الذي تمارس فيه سلطويتها، وهو ما يجعلها أولى بالدراسة.
على الرغم من أن الخطابات الجماهيرية، في المجتمعات المختلفة، ربما تمارس تأثيرا أوسع من الخطابات المتخصصة فإن نوعية هذه الخطابات ووسائل نقلها قد تختلف من مجتمع إلى آخر. فعلى سبيل المثال تمارس ملصقات الشوارع وخطب المساجد والنكات في المجتمع المصري تأثيرا أكبر مما تمارسه التحقيقات الصحفية أو بيانات الحكومة.. إلخ. كما أن هذه الخطابات لا تنقل، بشكل أساس، عبر وسائل الإعلام، بل عبر وسائط أخرى، ربما تتسم بالحميمية، وإتاحة الفرصة أمام مزيد من التفاعل.
يشترك مشروعا البلاغة النقدية وبلاغة المخاطَب في كونهما يطمحان لأن يدرجان في سياق مشروعات اجتماعية أوسع تستهدف -بطرق مختلفة، ودرجات مختلفة- تغيير نمط علاقات السلطة القار. وكلا المشروعين يرى في النقد -وإن اختلفا في مفهومه- أداةً مهمة لإحداث هذا التغيير. كما أن المشروعين يستهدفان بشكل معلن تغيير الممارسات الأكاديمية في الحقل المعرفي الذي ينتميان إليه، نتيجة وجود قصور أو مواطن خلل في الممارسات القائمة. بالإضافة إلى وجود بعض الأصول النظرية التي تشترك توجهات نقد الخطاب السلطوي في الاستناد عليها -ومن بينها المشروعان البلاغيان- مثل مدرسة فرانكفورت.
الهوامش
1- انظر، Jasinski, j. 2001. Sourcebook on Rhetoric: Key Concepts in Contemporary Rhetorical Studies. Thousand Oaks, Calif: Sage Publications.، ص 116. ولابد من التنويه إلى أنه توجد أطروحات مختلفة تحمل اسم «البلاغة النقدية». وعلى سبيل المثال خصصت مجلة Janus Head، نصف السنوية -(مجلة أمريكية تعنى بتقديم دراسات عبر نوعية في الأدب والفن والفلسفة وعلم النفس)- عددا خاصا عن «البلاغة النقدية Critical Rhetoric» صدر في ربيع عام 2000. ومع ذلك لم يتضمن العدد أية إشارة إلى المشروع الذي قدمه ريمي ماكرو قبل صدور هذا العدد بأكثر من عقد من الزمان، والذي نعرض له في هذا الدراسة، وذلك على الرغم من أنه يحمل أيضا اسم «البلاغة النقدية». وفي الواقع فإن اسم ماكرو لم يرد في أيٍ من الدراسات الست التي قدمتها المجلة، والتي جاءت جميعا تحت مظلة «البلاغة النقدية». يمكن الاطلاع على هذا العدد الخاص على الإنترنت، عنوان الموقع:
www.janushead.org. 2 - انظر،McKerrow, R. 2005. Critical Rhetoric Biblio List (not exhaustive). oak.cats.ohiou.edu/~mckerrow/CRbiblio. ، تاريخ الدخول إلى الموقع 5 أكتوبر 2005.
3 - تختلف دلالة مصطلحات «بلاغي، بلاغة، علم البلاغة» في السياق العربي عن دلالتها في السياق الأوروبي أو الأمريكي. وربما أدت مجموعة من العوامل إلى ارتباط هذه المصطلحات بدلالات ومعانٍ إيجابية عند العرب. من هذه العوامل ارتباط صفة البلاغة بنصوص عربية مقدسة مثل القرآن الكريم والحديث الشريف، وإطلاق الوصف «بليغ» على شخصيات مقدسة مثل النبي (ص). إضافة إلى أن التراث العربي لم يفصل فصلًا حادًا بين البلاغة والأدب أو بين علم البلاغة وعلوم أخرى مثل علوم القرآن التي تشمل تفسيره وإعجازه ومعانيه. بل اعتُبر علم البلاغة من العلوم الضرورية التي يجب أن يتقنها من يتعرض للقرآن بالشرح أو التفسير. وقد أدت هذه الارتباطات جميعا إلى الاحتفاء بالبلاغة علما ونصا. ولم ينقطع هذا الاحتفاء على مدار القرون الخمسة عشر الماضية.
4 - نستطيع أن نرصد أمثلة لذلك في كتابات تنتمي إلى معارف مختلفة، على سبيل المثال:
Greene, J and Mastrofski, S. 1988. Community Policing: Rhetoric or Reality. New York: Praeger.
Gill, B. P. 2001. Rhetoric versus Reality what we know and what we need to know about vouchers and charter schools. Santa Monica, CA: Rand Education.
O>Toole, E. 2003. Lifelong learning: Empty Rhetoric or Reality? Mature Students> Access to Higher Education. Lancaster: Lancaster University.
5 - نقلا عن: Vickers, B. 1988. In Defence of Rhetoric. Oxford: Clarendon Press; New York: Oxford University Press.، ص 83.
6- انظر: Gronbeck, B., E. 2004. Rhetoric and Politics. In Kaid, L. (ed.) Handbook of Political Communication Research. Mahwah,NJ, USA.، ص 137.
7 - استمر ارتباط كلمة »بلاغة« بهذه الإيحاءات السلبية على مدار قرون طويلة في العالم الغربي. ويذكر (يسلنج 1976IJsseling: ص1) أن البلاغة كانت قد اكتسبت سمعة سيئة في أواخر القرن التاسع عشر إلى حد إلغاء تدريسها في المؤسسات التعليمية الأوروبية. وأن «كلمة بلاغة أصبحت محملة بدلالة ازدرائية، فهي تقترح الخدع الماكرة والاحتيال والكذب، أو تؤلف بين الكلمات الجوفاء والتعبيرات المبتذلة والتفاهات. وكان كونك بلاغيا يعني أنك طنان.»
8- نقلا عن فيكرز (1988)، مرجع سابق، ص 118.
9- ربما تعرض موقف أفلاطون من البلاغة إلى درجة ما من التعميم. وقد حاولت في بحث سابق فحص موقف أفلاطون من البلاغة، كما يظهر في محاورتي «جورجياس» و»فيدروس». وكانت إحدى النتائج الأساسية التي توصلت لها هي أن مفهوم البلاغة التي ينتقدها أفلاطون يشير إلى البلاغة السياسية وبعض أشكال البلاغة القضائية فحسب، وأن نقد أفلاطون للبلاغة هو نقد للخطابات السياسية التي تستهدف السيطرة على الشعوب بواسطة استخدام تقنيات التضليل اللغوية من ناحية ونقد للخطابات القضائية التضليلية من ناحية أخرى. ومن ثمَّ فإن أفلاطون لم يهاجم «البلاغة»، وإنما هاجم بلاغات بعينها، في سياق تاريخي محدد ولأسباب محددة. لتفصيل ذلك، يمكن الرجوع إلى: عبد اللطيف، عماد. (2009). ضد التضليل: صراع البلاغة والجدل في محاورتي «جورجياس» و«فيدروس» لأفلاطون، مجلة جامعة الشارقة للعلوم الشرعية والإنسانية. مجلة علمية محكمة، مجلد 5، عدد 3، ص 227-244.
10- انظر، يسلنج (1976)، مرجع سابق، ص 7. وقد ذكر ألفرد كروازيه في مقدمة ترجمته لمحاورة جورجياس إلى الفرنسية أن البلاغة (البيان) في »جورجياس« تقدم بوصفها «فن الكذب الضار بالدول والأفراد، ولهذا أصبح في الإمكان تسمية المحاضرة »ضد البلاغة««، نقلا عن: أفلاطون. 1970. محاورة جورجياس. (نقلا عن الترجمة الفرنسية التي قدمها ألفرد كروازيه)، ترجمها إلى العربية محمد حسن ظاظا، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر،