قراءة في كتاب في بلاغة النص الشعري القديم
يمثِّل كتاب في بلاغة النص الشعري القديم – معالم وعوالم[1]، للباحث
والأكاديمي المغربي الدكتور محمد الأمين المؤدب، دعوة حقيقية إلى الممارسة
النقدية التي تجعل النص مركز اهتمامها وبؤرة مقاربتها؛ وهي دعوة تنطوي على
رغبة في تأسيس منهج من داخل النصوص لا من خارجها. فهذا الكتاب الذي يجمع
بين النظرية والتطبيق؛ حيث يخوض في إشكال المنهج والتلقي على نحو ما يتلمس
سمات النص الشعري القديم ومعالم جماليته، لا ينكر أهمية مناهج النقد الأدبي
الحديثة وأهميتها في الكشف عن جماليات النص وبلاغته، بل ينظر إليها
باعتبارها وسيلة تساعد في الفهم والتأويل وليس غاية الدرس النقدي. ولذلك
فإن دعوة الباحث إلى التحرر من قيود المنهج تمثل محاولة حقيقية لاستنطاق
النص والكشف عن أبعاده الجمالية.
بيد أن الرغبة في التحرر من هذه القيود لا تعني الدعوة إلى قراءة
انطباعية أو غير علمية للنص، بل تسعى إلى ترسيخ وعي جديد يتفاعل معه في ضوء
معرفة شاملة به وبسياقه الثقافي والتاريخي العام. ولعل حرص الباحث على
الخوض في إشكال المنهج ومفهوم التلقي ووضع النص ضمن ثنائية التماثل
والتمايز، وكذلك التحيز لنقاد مثل النويهي وطه حسين وشكري فيصل وشكري عياد
وعبد الله الطيب ليس سوى تجديد نقدي لمقاربة بلاغية تجعل النص الشعري
منطلقًا لها. لقد انشغل مثل هذا النقد بتفسير النص وتأويله وجعله مدار
التحليل وليس مثالاً لاختبار منهج نقدي معين.
في ضوء هذه الرؤية العامة لمنهج الكتاب وتوجه صاحبه النقدي، يمكن توزيع
مادته وإعادة تلقيها وفق محاور ثلاثة تسهم في تفسير رؤية الباحث وتحديد
تصوره النقدي والبلاغي الذي يروم صياغته في الكتاب.
1. في تلقي النص الشعري القديم: إشكال المنهج
إن أحد الأهداف الرئيسة، التي يتوخى الباحث تحقيقها في هذا الكتاب،
تتمثَّل في تقليص المسافة بين النص الشعري القديم وقارئه المحدث، بقصد
اكتشاف أسراره وفهم عوالمه. وقد دفعته مثل هذه الغاية إلى محاولة الإجابة
على سؤال ضمني وصريح في آن يحرك أفكار هذا الكتاب، يمكن صياغته على النحو
الآتي: ما هي الأدوات والضوابط التي تمكن القارئ من تمثل عوالم النص الشعري
القديم وفك بعض غوامضه؟
ينطوي هذا السؤال على توجه نقدي يجعل القراءة ممارسة حية تقوم على أدوات
بلاغية هامة في تحليل النص الشعري؛ كما تدعو إلى اتخاذ منهج معين
والاستعانة به في المقاربة النقدية. بيد أن معظم القراءات المنهجية السائدة
التي جعلت النص محور اهتمامها، على الرغم من فعاليتها والنتائج التي
حققتها، إلا أنها ظلت أسيرة القواعد التي يصدر عنها أصحابها في تعاطيهم
النقدي، وكأن "المنهج أصبح هو الغاية والدراسة هي الوسيلة"[2].
والحق أن الباحث لا ينكر أهمية الاستفادة من مناهج النقد الأدبي في
تحليل النص الشعري؛ ففي الوقت الذي يناقش فيه التيارات النقدية والمناهج
التي سادت في العقود الأخيرة، يتطلع إلى نمط من القراءة لا يرفض هذه
المناهج، بل يجعلها خلفية نظرية ومعرفية تسهم في فك أسرار النص وفهمه على
نحو صحيح، بحيث يصبح هو الغاية والمركز. ولعل الدراسات النقدية الحديثة
التي أصدرها لطفي اليوسفي وسليم ريدان ورجاء بن سلامة تشكِّل مثالاً لوظيفة
الناقد الحقيقي الذي يتصرف في النظريات ويحورها ويستفيد منها في المقاربة.
يوجِّه الباحث إذن نظر قرائه إلى نمط جديد من النقد، يتوسل بمنهج متكامل
يوفق بين النظريات والمناهج المختلفة لصالح عدة الناقد المعرفية
والثقافية. ولأجل ذلك، يتبنى تصورًا جديدًا في مقاربته للنص الشعري، يهتدي
به في فهم بلاغته وأسراره، يمكن إيجاز هذا المنهج في أفكار مثل "قراءة
الشعر بالشعر"[3] واستثمار مقولة "التماسك والانسجام"[4] معيارًا في
التحليل. ويصبح النص وفق هذا التوجه مركزًا ثابتًا لا هامشًا، وتصبح
المناهج أداة للتحليل تخدم مقصدية الناقد وليست غاية في حد ذاتها.
ويستند الباحث في دفاعه عن القراءة النصية التي تجعل النص الشعري غاية
المنهج إلى عدة عوامل منها: مركزية النص في تاريخ تلقيه، وخصوصية بنائه
وأغراضه ومعانيه، وضرورة التعاون بين النقد الأدبي والنظرية الأدبية
والتاريخ الأدبي في التحليل، وكذلك تطور المناهج ونموها، وحاجة النص إلى
الناقد ووظيفته، واستلهام هذا الأخير للمناهج دون التقيد بقواعدها[5]. وهي
عوامل تجعل القراءة النصية مطلبًا جماليًا وبلاغيًا على نحو ما دفعت الباحث
إلى تحديد ثلاث زوايا يصدر عنها في مقاربته؛ واحدة تاريخية والأخرى
إبداعية والثالثة نقدية. ويؤدي استثمار هذه الزوايا إلى الإحاطة بالنص من
جميع جوانبه، رغبة في التواصل معه وتوسيع آفاقه.
2. معالم النص الشعري: بحث في السمات الجمالية
تمثل سمة "الافتنان" أهم المعالم التي بنى بواسطتها الشاعر القديم نصه
الشعري. وتحيل هذه السمة إلى مفهومات أخرى يمكن الاهتداء بها في دراسة النص
مثل التنويع والابتداع والتوليد والتصرف وغيرها. ويشكل هذا المفهوم جوهر
العملية الشعرية وأحد دلائل أسرار صنعتها وجماليتها. فهو يرتبط بالغرض
الشعري والمعاني الشعرية على حد سواء. بيد أن أهمية هذه الدراسة لا تنحصر
في جعل هذا المفهوم سمة من سمات الشعر القديم، بل بالسعي إلى وضعه في
سياقاته النصية المختلفة واستثماره في التحليل؛ بإيراد أمثلة وشواهد شعرية
تنتسب إلى سياقات وأغراض متباينة. وعلى هذا النحو يصبح الافتنان مظهرًا من
مظاهر التميز الشعري وتحديد بلاغة الشعر.
وإلى جانب "الافتنان" يشكل "الغرض الشعري" كذلك أحد الأدوات الرئيسة في
تحليل النصوص الشعرية. وقد سعى الباحث إلى إعادة النظر في هذا المفهوم وفق
جملة ضوابط منها؛ ارتباطه بالمعاني الكبرى في القصيدة في كليتها وليس
بالغرض المعزول، وارتباطه كذلك بتصور نقدي يعمق النظر في التراث، ويدعو إلى
قراءة جديدة تجعل الموروث الشعري والنقدي منطلقًا لها والمناهج رافدًا من
روافدها المعرفية تساعد على الفهم.
وبتواز مع هذا المفهوم، الذي يشكل ثابتًا من ثوابت النص الشعري القديم
وعنصرًا هامًا من عناصر بلاغته، يقترح الباحث سمة أخرى مستمدة من النص
الشعري نفسه وهي "الاستصراخ" باعتباره غرضًا شعريًا، حيث يحدد معانيه
وأصوله التاريخية، كما يعالج تعدد الأغراض فيه من خلال نموذج شعري أندلسي.
إن مفهومات جمالية مثل "الافتنان" و"الاستصراخ"، حين تشكل أدوات وضوابط
تسعف في تحليل النصوص الشعرية وكشف أسرار صنعتها وبلاغتها، تمثل سمات
بلاغية قادرة على تصوير المعنى الشعري الذي يبتغيه الشاعر القديم. لقد كشف
الباحث في سياق تحديده لمعالم القصيدة القديمة عن سمات بلاغية مستمدة من
جوهر الإبداع الشعري ذاته وكذلك من التراث النقدي. وهي معالم غايتها
الرئيسة جعل القراءة أو تلقي النص أحد معايير بلاغة الشعر وفهمه في سياقه
التاريخي والمعرفي والتواصلي كذلك، على نحو ما تروم تمثل العالم الداخلي
للنص الشعري وفهم عوالمه.
3. عوالم النص الشعري: حوار النصوص
يشكل حوار النصوص أحد السمات الجوهرية لبلاغة النص الشعري القديم وأداة
رئيسة من أدوات الناقد في تواصله مع النص. فهو يمثل امتدادًا لمفهومات أخرى
يحيل إليها الباحث من قبيل: التماثل والتمايز، والاتباع والابتداع،
والتشاكل والاختلاف، وهي جميعها تجعل منهج "قراءة الشعر بالشعر" سبيلاً إلى
الفهم والتأويل وتحديد جمالية التشكيل الشعري الذي يبنى على التشابه
والاختلاف في آن.
في هذا السياق الحواري والتواصلي بين النصوص، عمد محمد الأمين المؤدب
إلى تحليل "هاشميات الكميت" وإبراز خصوصيتها الجمالية وإلى استحضار نصوص
شعرية سابقة عليها ومعاصرة لها، والكشف عن بنائها الذي قدم فيه المدح على
الرحلة مما يجعلها نمطًا متفردًا يخالف تصور ابن قتيبة لبنية الشعر. كما أن
تلاحم المكون الحجاجي مع المكون الأدبي بداخلها يسهم في تكوين بلاغتها
النوعية. ولعل أهمية هذا التحليل لهاشميات الكميت تتمثل في ربط النص الشعري
بواقعه الاجتماعي؛ حيث كشف الباحث عن تماثل بين تغير الواقع الاجتماعي
والسياسي والثقافي وتحول في بناء الشعر العربي؛ فالمضامين الجديدة التي
طرقتها الهاشميات استدعت تغيرًا جديدًا في البناء والشكل ترتب عليه تفاعل
بين ما هو خاص ونمطي، أو بين ما هو قديم وما هو جديد.
على هذا النحو يصبح منهج قراءة "الشعر بالشعر" أو حوار النصوص أداة من
أدوات الكشف عن بلاغة النص الشعري القديم، والتسلل إلى عوالمه الفريدة
والخفية. إنه صيغة من صيغ التحليل النصي الذي يستثمر أدوات أخرى مثل الغرض
والافتنان وغير ذلك من السمات البلاغية من أجل تفسير الصنعة الشعرية، ورغبة
في فهم ما يسميه الباحث بـ"عوالم النص". كما استثمر الباحث مفهومًا آخر
يميز بلاغة النص الشعري القديم هو "التماسك الشعري" الذي يسعى من خلاله إلى
محاولة تحديد العلاقة بين المقدمة والأغراض في بنية النص. وكذلك دراسة
الإيقاع باعتباره عنصرًا من عناصر تشكيل الصنعة الجمالية ورافدًا من روافد
الانسجام الشعري. فثمة علاقة داخلية بين الإيقاع والمعنى رام الباحث
توضيحها في الكتاب من خلال تحليل نماذج شعرية يؤدي الإيقاع فيها دورًا
حاسمًا. حيث يصبح مكونًا من مكونات الأغراض والمعاني وليس أحد أدوات
التشكيل الجمالي فحسب.
جملة القول، إن الإيقاع والغرض والافتنان والاستصراخ والمعنى الشعري
والتماسك وغيرها من معالم النص الشعري القديم، تشكل سمات بلاغية مستمدة من
داخل النصوص الشعرية ومن التراث النقدي كذلك. وهي آليات تسهم في تحليل
الشعر القديم وفهم أسراره وفك غوامضه. إن البلاغة التي يتوسل بها الباحث في
تحليله للنصوص تعني "الحديث عن الصناعة الشعرية وعن الكيفية التي يتم بها
تشكيل الشعر، في ضوء تلك الصناعة، وما يستلزم ذلك من عدة معرفية شاملة،
وذخيرة أدبية واسعة"[6]. ولعل الصورة والإيقاع والمعجم والتركيب والمعنى،
جميعها مقومات ضرورية في عملية التشكيل الفني، وليست البلاغة باعتبارها
منهج بحث وتفكير وتحليل سوى القدرة على التنبه إلى الخصائص الفنية التي
تميز النص الشعري القديم وتصنع عوالمه، أو هي بالأحرى استثمار لأدوات
ومعالم تسهم في التحليل، على نحو ما تمثل سمات تساعد في بناء مركزية النص
الشعري وإدراك غناه وتمثل عمق بلاغته. إن الكتاب في المحصلة إذن، يمثل دعوة
حقيقية وأصيلة إلى تأمل الشعر من الداخل بتحديد سماته الجمالية وقيمه
الفكرية.