اللغة
كائن متحرك، يتطور بسرعة مذهلة، وليس بوسع المجمع اللغوي الإحاطة به أو
تقييده. لم يعد المتحدثون باللغة وكاتبوها في حاجة إلي ختم الموافقة لتمرير
كلماتهم وعباراتهم. الأمر لا يتعلق فقط باللغة العربية، بل اللغات
الأجنبية أيضاً، التي طالها ذلك التطور، اللغة المختصرة، الكلمات الدارجة
التي صارت جزءاً من الكتابة. الفارق الوحيد أنهم في الغرب لم يخافوا علي
لغتهم، تعاملوا مع تطورها بمرونة، بينما العرب أصابتهم فوبيا فقدان الهوية،
والقلق علي القرآن نفسه من اللغة اليومية. اللغة تتطور، وعالم الإنترنت
يساعد علي تطورها. المواقع الاجتماعية مثل فيسبوك وتويتر، المدونات، الشات،
حتي رسائل الموبايل، تلجأ إلي اختصار اللغة، الإيجاز في العبارات أصبح
ضرورة. كل ذلك بدأ يؤثر في الكتابة الأدبية، وسيزداد تأثيره مع الوقت، لذلك
كان من الضروري معرفة كيف يرصد النقاد تأثير تطورات اللغة وتقنيات
الإنترنت علي الأدب .
يقول الناقد عمر شهريار: "من الطبيعي أن تظهر العديد من الاصطلاحات
الخاصة بعالم الإنترنت والواقع الافتراضي في النصوص الأدبية بجميع أجناسها،
ذلك أن الأدب يدخل في ثناياه الأوضاع السياسية والسوسيوثقافية الموجودة في
الواقع من حوله، ولو لم يحدث ذلك لأصبح هناك ما يشبه الانفصال عن الواقع
المحيط بالنص ومبدعه، فجزء مهم من اكتساب الأدب لنجاعته وجدواه هو مدي
نجاحه في إدماج ما هو خارج النص إلي داخل النص؛ دون مباشرة فجة بطبيعة
الحال. وقد أصبح العالم الإلكتروني جزءا مهما ومكونا رئيسيا في حياة قطاع
عريض من المصريين وخصوصا من الشباب، الذين نما وعيهم وتفتح علي التعاطي مع
الإنترنت، ومن ثم فإن الأدباء الشباب، في الأغلب، هم الأكثر استخداما لمثل
هذه المصطلحات لأنهم، في النهاية، جزء من هذا الجيل يستخدم نفس آلياته،
وليسوا متطفلين عليه أو "عرفوه علي كبر" وبالتالي فهو جزء من وجودهم ولا
يستطيعون أن ينفلتوا من التأثر به، حتي ولو أرادوا ذلك وقد رأينا نماذج
لهذا الظهور في العديد من الدواوين والروايات في العشر سنوات الأخيرة، أذكر
منها مثلا ديوان "shift delete" للشاعرة لينا الطيبي، وأيضا رواية "حرية
دوت كوم" لأشرف نصر وغيرهما الكثير. ولكن المهم ليس ظهور المصطلحات فقط،
ولكن مدي الاستفادة من الوعي الذي يضيفه لنا الإنترنت، حيث يعطينا منظورا
جديدا لرؤية العالم، ومن الممكن أن نجد رواية ما بها العديد من تلك
المصطلحات، ولكنها تنتمي للوعي التقليدي وليست بنت الوعي الذي يكسبنا إياه
العالم الافتراضي. وهناك العكس، حيث يمكن أن تجد روايات ليس بها أي مصطلحات
ولكنها تنتمي بدرجة ما لذلك الوعي مثل رواية "الألفين وستة" لنائل الطوخي
الحافلة بالسخرية وكأنها "تهييسة" من تلك التي نراها علي الفيس بوك،
ولكنها، رغم ذلك، تفكك وبشكل عميق بعض الأساطير العميقة الموجودة لدينا
وكأنها سرديات كبري، وكذلك في رواية "فانيليا" لطاهر شرقاوي التي يصبح فيها
الخيال الافتراضي بديلا عن الواقع...فالمهم، في ظني، ليس اقتباس
المصطلحات، ولكن الاستفادة من الوعي الذي يتيحه لنا ذلك العالم الفسيح
والديمقراطي، الذي يتيح لكل شخص التعبير عن نفسه بطريقته الخاصة بعيدا عن
أي رقابة أو سلطة كهنوتية".
ويقول الدكتور حسام عقل:" يلعب الفضاء الافتراضي دورا جذريا في تشكيل
الثقافة الإنسانية الحديثة وصناعة وعيها، وخلق نماذجها، وكان طبيعيا أن
ينعكس ذلك التطور الثقافي الشامل علي الآداب و الفنون، بأجناسها و قوالبها
المختلفة. وفي هذا الخصوص يلاحظ الباحث الأمريكي دانيال هالسي في كتابه
"أجهزة الحاسوب - الماكينات التي نفكر بها" أن تاريخ الحاسوب انتقل من
مرحلة "الحاسوب الأكاديمي" الذي كانت تستخدمه نخبة في البداية إلي مرحلة
"الحاسوب الشعب /الجماهيري" الذي اتسع نطاق تداوله إلي غير حدود وعند هذا
المنعطف تحديدا، بدأ التأثير النوعي الغائر العميق للحاسوب في الذائقة و
الوعي و نمط التفكير. بل في صناعة المزاج الثوري الحاد الذي تسرب إلي
الحضارة المعاصرة بمنسوب كثيف ملحوظ. ويضيف عقل: تجليات التأثير الأسلوبي/
اللغوي ويتمثل في مظاهر عديدة منها تغيير الصورة البنيوية الإملائية فتتحول
"رائع" إلي "رااائع" و هذا التزييد الإملائي بدأ القارئ المعاصر يسوغه
بتأثير "لغة الحاسوب" بإيحاءاتها ومخزونها الوجداني الخاص. فضلاً عن التوسع
في مساحة الحوار في النصوص المسرحية والقصصية تأثرا بنمط "الشات"
الحاسوبي. بل إن ثمة أعمالاً روائية نهضت، بنيوياً، علي محاورات الشات مثل
رواية "ابراهيم عبد المجيد" :" في كل أسبوع يوم جمعة" و يلحق بذلك العامل
ضغط النصوص عموماً ضغطاً كبسولياً شديداً تأثراً فيما يبدو بمدونات الحاسوب
المقتضبة، ما أدخل شريحة كبيرة من الإبداع الأدبي عصراً "إبيجرامياً
جديداً". بل إن "معجم الحاسوب" التقني تسرب إلي لغة القص "السرد تحديداً"
من قبيل "التهنيج" و"الفرمتة" و"التسطيب"..إلخ. و لابد أن نسلم هنا بأن ثمة
تأثيراً سلبياً خطيراً يحيق "باللغة الوطنية" خصوصاً مع ترهل المؤسسات
التعليمية وضعفها. وبينما يحذر عقل من خطورة ذلك يري الروائي والناقد سيد
الوكيل أنه تجريب لابد منه ، فيقول: "هناك أعمالاً أدبية استعارت تقنيات
الإنترنت وبعضها استعار موضوع الإنترنت نفسه، مثلما فعل مازن العقاد في
روايته "الغضب الضائع" التي تحكي عن شاب استطاع تكوين مجموعة تدعو للانتحار
فيفرغ بذلك كثيراً من قضايا المجتمع مثل البطالة وأنظمة الحكم، فالبديل
لديه كان العالم الافتراضي. أما علي مستوي اللغة، فلفت انتباهي عمل لأشرف
نصر عنوانه"حرية دوت كوم" حيث يستخدم لغة الإنترنت ومصطلحاته، كما تغير
مستوي الحوار لديه، عن طريق الشات أو المسدجات، وذلك شكل من أشكال التجريب،
وقد حدث مع السينما من استعارة تقنياتها ولغة المونتاج مثل كتابة "ليل
خارجي"، "نهار خارجي"، ومن حق الأديب أن يستخدمها، لكن تظل اللغة توافقية،
واصطلاحية
فلا أحد يخترع اللغة، لكن بعض المفردات التي كنا نستخدمها في الانترنت
صارت في اللغة الدارجة. وبشكل عام أنا ضد الافتعال، لكن اذا كانت متداولة
فلا بأس أن تدخل الأدب لأنها أصبحت جزءاً من اللغة.