عبد السـلام حيدوري
التساؤل عن راهنية فوكو لا يكون إلا بأسئلة فوكو ذاتها، ذلك إننا إزاء فيلسوف جعل من الراهنية إشكالاً وموقفاً قائماً في الفلسفة، ومن التفلسف تشخيصاً للحاضر وانفتاحاً على الصيرورة، فمن أركيولوجيا المعرفة (الحقيقة) إلى جنيالوجيا الممارسات الخطابية وعلاقتها بالسلطة الحيوية (السلطة) إلى أنطولوجيا ذواتنا (الذات)، تخرج الفلسفة مما يعرف باللافلسفي أو غير الفلسفي بعبارة فوكو إلى الراهن الذي يمثل حقل التفلسف بامتياز.
إن الانشغال بالراهن ليس اهتماماً بالتاريخ، بل يتم عبر مساءلة التاريخ على نحو إشكالي لاستجلاء ما يتصل بقضايا الحاضر عبر تفكيك التاريخ بما هو أرشيف الحاضر، التاريخ الذي يساعدنا على معرفة من نكون وما نحن عليه لنتمكن من التفكير في صيرورتنا الأخرى، في آخر للذات وعالم مغاير لعالم الذات، أي ما نحن بصدد الاختلاف عنه في صيرورتنا التي نطمح أن نكون.
إن مشكل الراهن هو مشكل فوكو راهناً
(*) في حاضرنا بعُدده وخرائطه التي تساعدنا على الكشف عن ألاعيب الحقيقة وممارسات السلطة وكيفيات مقاومتها
(1)،
فراهنيتنا ليست منفصلة عن فوكو راهناً، وليست في منأى عن المعاناة والعجز الذي نعيشه في واقعنا نتيجة هيمنة السلطان وتنوّع أشكال الرقابة الكونية والممارسات الإخضاعية.
إن فوكو لا يسعى إلى كتابة تاريخ الماضي، بل تاريخ الحاضر: «ما أريد أن أكتب تاريخه، هو ذلك السجن مع كل الاستثمارات السياسية للجسد التي يجمعها في هندسته المعمارية. أبمقارنة تاريخية صرف؟ كلا، إذا كان المقصود بذلك كتابة تاريخ الماضي بألفاظ الحاضر. أجل، إذا كان المقصود بذلك كتابة تاريخ الحاضر»
(2)، لا تهدف الكتابة التاريخية لدى فوكو إذن إلى فهم عصر ماض، ولا تشخيصاً لعصر معيناً بأفراده ومؤسساته، ولا معرفة القوانين التي تحكم التاريخ، بل يسعى إلى تشخيص الحاضر بما هو حاضر تعذيب الجسد ومراقبة رغباته وإخضاع الذات والتلاعب بها في إطار إستراتيجيات مخصوصة لسلطة مهمتها تدبير الحياة والتحكم فيها.
إن تشخيص الحاضر هو ما شكل لدى فوكو ودولوز حقلاً لنقد ما يسمّى بالحداثة ليوضح عنفها كتجربة تاريخية، ولاستجلاء قيمها، ومعرفة قيودها وأشكالها التمييزية والاختزالية، أي على إرادة القوة الخاصة بها. هذا التشخيص النقدي هو ما يمكن أيضاً من استشراف الممكن عن طريق الاستعادة والاستحضار النظريين للعبة الأقنعة والقوى التي تحوك أوجه هوياتنا وتحول التاريخ إلى مشهد كرنفالي مضخم
(3)، وعوضاً عن التسليم بعتبة الهويات التاريخية والإبقاء عليها كبداهات، على الفكر النقدي أن يتبين أوجه التشتت والانكسار، ذلك أن الهوية هويات متفرقة ومتكثرة والفصل فيها يكون بمحايثة الفكر إلى الحياة.
إن تفكر راهنية فوكو في صيغة الارتباط بين الفكر والحياة يجعل من شرط الراهنية الإنشداد إلى المحايثة والحياة للوقوف عند الفرق والمختلف، لأن راهنيتنا تقتضي أن نفكر على نحو مغاير وأن نعيش الحياة بأسلوب مختلف، أسلوباً يحدث فرقاً في الوجود. إن هذا الجنس من الفكر ونمط الوجود هو ما نجده متشكلاً بين دولوز وفوكو لأنهما جعلا من الراهن حقلاً للتعدد والاختلاف، ومن الحياة أسلوباً وفناً في العيش، بحيث يتخذ التفكير في الراهن لنفسه إيقاعاً لأغنية الصيرورة والترحال لحظة التماسف بين الذات وآخرها، مسافة بين الذات وذاتها استشرافاً للخارج/Dehors لقول دولوز: «يتكون من مسافات لا تنحل إلى أخرى أبسط منها، مسافات تؤثر بها قوى في أخرى أو تتأثر هي ذاتها بقوى غيرها. ثمة إذن صيرورة قوى تختلط بتاريخ الأشكال، مادامت تعمل ضمن بعد آخر يتعلق الأمر بخارج أكثر ابتعاداً من أي عالم آخر، بل ومن أي شكل خارجية برّانية، يتعلق بخارج قريب كل القرب.إذ كيف يمكن لشكلي الخارجية أن يكون خارجيين بالنسبة لبعضهما البعض لو لم يكن ثمة خارج أكثر اقتراباً وأكثر ابتعاداً؟ انه الشيء الآخر»
(4).
ليس غريباً تفكّر راهنية فوكو باستدعاء دولوز
(*) فما بينهما إرتباطاً فلسفياً وروابط إشكالية متينة وغامضة في الهنا والآن
(5)، وليس قصدنا المقارنة أو المقابلة بينهما، بل معاودة التفكير في العلاقة للتساؤل عن راهنية فكر فيلسوفنا في واقع الإنسانية اليوم وفي حاضرنا من أجل أن نستخلص صورة الفيلسوف ومهمة الفلسفة تجاه ما يحدث في عصرها، وما تعيشه الإنسانية من أحداث وتقلبات جعلت من الحرب والصراع
(**) الحالة العادية التي تسم الراهن
(6)، وما تشهده من أزمات وتوترات تجتاح وجود الذات التي تحتاج فيها إلى عُدد ومخططات ومعايير إستراتيجية ترسم الفعل وتحثّ الذات على مجاوزة حاضرها نحو صيرورتها الأخرى.
يقول دولوز في هذا السياق متحدثاً عن فوكو بعد وفاته: «[…] من أهم نتائج المعايير والمخططات الإستراتيجية Dispositifs تغيير الاتجاه الذي ينصرف عن الأبدية لإدراك اللحظة المتجددة ولا تفترض هذه الأخيرة تحديد الأسلوب، وإنما تقتضي الإبداع الخلاق والمتغير حسب الإستراتيجيات المخططة […] إننا ننتمي اليوم إلى معايير استرتيجية أخرى، نتحرك عبرها وفي ثناياها. راهنية حداثة معيار استراتيجي مقارنة مع سابقيه هي راهنيتنا نحن.الجديد هو الراهن L’actuel. الراهن ليس
ما نحن عليه، و
ما نحن بصدد كونه، ما نحن بصدد صيرورته، بمعنى الآخر L’Autre صيرورتنا ـ الأخرى
(7) Notre devenir –autre، فبواسطة تلك المخططات تمكنت الذات من الخروج عن سيرورات تذييتها لتفكر في مصائرها وكشفت عن مستطاعها على الإبداع الذي تجلى في فعل تحول الذات من الموضعة والإخضاع وانفلاتها من عملية التولد الذاتي بواسطة المقاومات إلى تشكيل ذاتها إتيقياً وجمالياً، بحيث لم تعد الذات تقبل بما هي عليه، بل تفعل وفقاً لمنطق صيرورتها وبما تريد أن تكون. وإذا كان التاريخ هو حقل تمظهر سيرورات التذييت التي ما انفكت الذات تقطع معه، فإن الراهن هو الآخر الذي يشكل صيرورة الذات والذي تسعى إلى التوافق معه. هذا التعاطي مع التاريخ جعل الفلسفة مع فوكو ضرباً من الأرشيف والتفلسف حفراً في الأنساق وتشخيصاً للراهن، بل لعلّ ما جعل من فوكو من كبار الفلاسفة في حكم دولوز لأنه اشتغل بالتاريخ على نحو مغاير «إذا كان فوكو يعتبر من كبار الفلاسفة، لأنه استعان بالتاريخ لفائدة شيء آخر مثلما قال نيتشة :التصرف ضد الزمن وأيضاً على الزمن لفائدة زمن مقبل، وهذا ما آمله. لأن ما يظهر كالراهن أو كالجديد، حسب فوكو، هو ما يسميه نيتشة غير المناسب أو غير الراهني أو اللاراهن
(*)، هو هذه الصيرورة التي تنشطر عن التاريخ وهذا التشخيص الذي يأخذ شكل التحليل بطرق مختلفة»
(8).
إذا كان حقل التاريخ بما يحتويه من أحداث وتحولات وبما يتضمنه من رؤى وخطابات هو ما يكشف عن لغز الذات في تأزمها وانزياحها، وعن استراتيجيات التحكم فيها وتفريدها ووضعها في حُيوزات تسهل مراقبتها وإعادة إنتاجها بإدارة حياتها وموتها، فإن الفيلسوف الحق هو الذي يجعل من التاريخ الوثيقة Archive، والذي يفرق الذات عن ذاتها، حقل الممارسة التفكيكية التجاوزية للتاريخ في اتجاه الراهن الـذي يجمع الذات بصيرورتها «تحليل الوثيقة يحتوي إذن على جانب مفرد؛ هو في ذات الوقت قريباً من الذات ومختلفاً عن راهنيتها، إنه حافة الزمن الذي يحيط بحاضرنا والتي تشرف عليه الذات وتدل على تغيره، هو ما يحددنا من الخارج. […] فهو يبدد هذا التطابق الزمني حيث نستحب رؤية ذواتنا لتجنب انفصالات التاريخ. إنه يكسر منحى الفلسفات النهائية والمتعالية حيث يساءل الفكر الأنثروبولوجي كينونة الإنسان وذاتيته ويفجّر الآخر والخارج. التشخيص بهذا المعنى لا يؤسس محضر هويتنا عبر لعبة التمايزات. فهو يؤسسنا كاختلاف وإن سببنا هو اختلاف الخطابات وإن تاريخنا هو اختلاف الأزمنة وإنيتنا هي اختلاف الأقنعة»
(9).
يكمن رهان الممارسة الحفرية في حقل التاريخ في استكشاف المفاهيم الباطنية والمتخفية لحقيقة الممارسات والخطابات في الثقافة الغربية واستجلاء ملامحها لبيان كيفيات اشتغالها وإنتاجها للفعل السلطوي ولأنماط التحكم في الأفراد وسترجة (من الاستراتجية) حياتهم وتسخير كياناتهم وأجسادهم تسخيراً سياسياً.
ولا يتسنى للفيلسوف أن يبلغ هذا الرهان ويدرك الحقيقة إلا بنمط مخصوص من الكتابة بما هي تفكيك وهدم وشكل معين من الأسلوب بما هو رسم للخرائط، إنها صورة فوكو، فيلسوف الحفر وتشخيص الراهن، فهو من جنس الفلاسفة الذين يفكرون وهم يتكلمون ويكتبون، الكتابة بما هي بحث في طيات الكلمات في سطحها وعمقها وفي ثنايا الخطاب وفي تفاصيل العبارة، في انكساراتها وخوائها وتموجاتها واقترابها أو ابتعادها من الحقيقة: «إن عملية الكتابة هي تهديم في حد ذاتها، وللكاتب في ممارسته لهذه العملية ذاتها حقّا في الهدم غير قابل للتقادم ويكون الكاتب بالتالي ثورياً، وبقدر ما تكون الكتابة كتابة بقدر ما تتغلغل في لزوميتها وتنتج حركة الثورة […]»
(10)، إن من يكتب بهذا المعنى إنما يقول الراهن ويشكل الصيرورة وينخرط في المغايرة، ويعبّر فعل من يكتب، لقول دولوز، عن رغبة الذات في أن تقول ذاتها وتعبر عن رغباتها وأفكارها.
والإنسان الذي يكتب هو كآلة راغبة
(11) تنكشف لحظة القول والكتابة، إن راهنية الكتابة وأهميتها تكمن في البحث عن مواقع الصراع
(*) والمقاومات بالبحث في تموقعات السلطة المصغرة والمحلية والبؤر التي لا نعتقد أن فيها سلطة
(12): «الكتابة صراع ومقاومة، الكتابة صيرورة، الكتابة رسم لخرائط، “فأنا خرائطي “»
(13).
يستمد فوكو راهنيته من نمط الكتابة التي تروم لقاء الصيرورة واللاراهن، ومن جنس التفلسف بما هو سؤال عن الفلسفة وتشخيص لواقعها، تساؤل فلسفي يخرج عن الفلسفة، بل يخلص الفلسفة مما ليست فلسفة أو غير الفلسفي
(**): «إننا لا نخرج عن الفلسفة ببقائنا داخلها، لا بل بمعارضتها بنوع من الحماقة المندهشة والمرحة، وبنوع من القهقهة التي لا تُفهم والتي هي في النهاية تَفهم، أو على كل حال تكسّر، نعم تكسر أكثر مما تفهم […] إن نيتشة وباتاي وبلانشو وكلوسفسكي مثلوا بالنسبة لي أساليب للخروج عن الفلسفة»
(14).