"إنّ
بناء حركة تنويريّة عربية أحسن هديّة لأولادنا ولفلسطين" : بهذا القول
الحكيم حاول الأستاذ أحمد الأتاسي أن ينهي سجالاً احتدم مطوّلاً على خلفية
مقالي المنشور بموقع الأوان : الله والأنوثة.
لا أريد أن أصادر على المطلوب. والمطلوب دائماً نقاش هادئ ومنفتح،
نقاش لا ينطلق من أنّ الحقيقة سرّ يمتلكه البعض دون الآخرين، أو أنّها
مركونة في إحدى الخلايا الدماغية لبعض الموهوبين. وإنّما هي ثمرة إبداع
تواصليّ ونقاش توافقيّ بين أشخاص يجمعهم عيش مشترك في السرّاء وفي
الضرّاء، وهي أيضاً محصّلة تواصل مفتوح بين أجساد فانية. وفي ذلك يكمن سحر
السياسة، بعض آمالها وكثير من آلامها.
لا تنكشف الحقيقة إلاّ للجماعات المنكشفة أصلاً، وللوجوه المكشوفة بلا
قناع أو برقع أو حجاب أو نظّارات سوداء أو قبّعات للاختفاء. قد تكون بعض
الحفلات التنكّرية فرصة لممارسة الحرية في أقصى تجلّياتها الاستيهامية، من
غير أيّة رقابة ذاتية، من غير مسؤولية أو مساءلة للذات، ومن دون أيّ
التزام بأيّ شيء أمام أيّ كان.
لنبدأ بالحديث عن أيّ سؤال آخر، وبمحض الصدفة سنتطرّق للبرقع عموماً و"البرقع الإلكتروني" على وجه الخصوص.
لا تكمن مشكلة البرقع في أنّه يَحُدُّ من حرّية المرأة كما يوحي بذلك
المظهر العامّ. بل هو بخلاف ذلك يمنح للمرأة تفوّقاً سحرياً على الآخرين
وحرّية أكبر من حرية الجميع. تفوّق لا يدركه إلا من عاشروا هذه الظاهرة
حيناً من الدّهر : فتلك المرأة المنقّبة في إحدى شوارع أمستردام أو دبي
ترى جميع المارّة أمامها وترصدهم واحداً واحداً لكن لا أحد من المارّة
يراها، تحدّد هوية الآخرين أجمعين لكن لا أحد يستطيع أن يحدّد هويتها،
إنّها ليست موضوعاً لرؤية الآخرين ولإدراكهم، لكنّ الآخرين هم موضوع
لرؤيتها ولإدراكها، إنّها مثل عيون الشبح الخفيّ يعرف الآخرين ولا أحد من
الآخرين يعرفه. هل بالغت؟ إنّ تلك المرأة السعودية التي تخفي وجهها خلف
البرقع الأسود وتمضي مع سائقها الفلبّينيّ إلى حيث تشاء، أمام رقابة شرطة
مرور يغضّون الأبصار، إنّما تتمتّع بحرّية الوجه غير المرئيّ. إنّ تلك
المرأة التي تنزل بالبرقع في مطار الدار البيضاء ثمّ تزيح عنها برقعها بعد
أن تمتطي سيارة الأجرة، إنّما تعبّر عن انتقالها من مجال الحرية "المطلقة"
إلى مجال الحرية المكشوفة. إنّ البرقع لا يمحو حرية المرأة، لكنّه يمحو
فقط مسؤوليتها طالما أنّها تتصرّف بلا هويّة معلنة.
فمتى كان إخفاء الوجه يعلّمنا كيف نحاسب أنفسنا؟
بعد الحفلة التنكّرية أو الجولة بارتداء البرقع، قد ينظر الشخص إلى
نفسه عبر المرآة، ثمّ يتساءل : هل كنت مقتنعاً فعلاً بكلّ ما فعلت؟ أم
أنّي كنت فقط خارج المسؤولية، طالما كنت أتصرّف من وراء حجاب؟
حين يتجرّأ الشخص على طرح هذه الأسئلة، فإنّه بذلك يصير خارج النسق
الأخلاقيّ الذي يقول : من ابتلي منكم فليستتر. يصبح منتمياً إلى نسق
أخلاقيّ مختلف : أخلاق الواجب الكانطي والالتزام السارتري : أخلاق الحداثة
والتنوير. لكنّ هذه الصحوة الأخلاقية نادراً ما تحدث في مجتمع يأتمر
بالستر وينتهي بالفضيحة.
في السجال الذي أثاره مقالي "الله والأنوثة" ألحّ عليّ أحد المساجلين
أيّما إلحاح بأنّ أردّ على ردوده الحادّة. لم يقتنع بأجوبة الآخرين، منهم
الأساتذة: يحيى بنطالبة ومحمد نصيف الرويمي ولحسن الشباني. إلاّ أنّه ظلّ
مصرّا على أن يسمع منّي كيف أردّ. تفاديته ما وسعني ذلك، ليس كبرياء ولا
رياء، كما ظنّ وغاظه ما ظنّ، لكنّني تفاديته لاعتبارين : أوّلهما أنّ نفس
الإلحاح تمّ التعبير عنه بأسماء مستعارة كثيرة، ما جعلني أقف أمام مشكلة
البرقع الإلكتروني. وثانيهما أنّ هناك حكمة واضحة، ربّما تعود إلى برتراند
راسل وتقول : لست مستعدّا لأن أضحّي من أجل آرائي طالما أنّها قد تتغيّر.
هذه الروح النسبية هي التي تجعلني كثيراً ما أتفادى سجال كسر العظام.
فقد ينكسر لي عظم من طرف مساجل شرس. وقد ينكسر له عظم وتكون معركة بلا شرف
لأيّ أحد منا. لكنّنا في الأخير، وربّما بعد سنوات قليلة، سنكون قد راكمنا
ذكريات مخجلة في عجز المثقفين على بناء العقل التواصليّ وتنمية القدرة على
العيش المشترك. وسنكتشف بعد فوات الأوان أنّنا كنا مخطئين في ما كنّا فيه
مختلفين، أو على الأقلّ أنّ الحقيقة التي لا يشترك في بنائها الجميع لا
مستقبل لها.
لقد أمضيت اختياري الأخير في هذه الحياة الزائلة على هدي واحد : أن
أبحث فقط عن المشترك. ومع ذلك لن يكون لهذا الاختيار أيّ معنى فيما لو لم
يكن ثمّة من ينازعني فيه.
مقصود القول :
إن كان مقال "الله والأنوثة" قد شهد سجالاً مضنياً حول الموقف من
القضية الفلسطينية، فمن واجبي، فيما أرى، أن أعود إلى توضيح ما لم أكن
أخفيه أصلاً خلف أيّ قناع.
لم أكن لأكتب عشرات المقالات في صحف ومجلات لبنانية تصدر في بيروت
لولا أنّي لم أكن أنتمي أوّلاً وابتداء إلى خيار المقاومة. وبالنسبة لي
فأنا لا أزايد بهذا الاختيار ولا أساوم فيه. لكن المقاومة بأيّ معنى؟ هذا
هو السؤال.
أقصد هنا الانتماء إلى المقاومة من خلال مراجعها الفكرية الكبرى :
فرانز فانون، إدوارد سعيد، سمير أمين، طارق علي وغيرهم. إنّها المقاومة
التي لا تختزل نفسها في مجرّد أراض غير مداسة، مساجد غير مدنّسة، ونساء
غير ممسوسة.
إنّما هي المقاومة التي تعني فكّ الارتباط مع التبعية، والتحرّر من
العبودية، والخروج من التخلّف. إنّها المقاومة التي تعني مجالات العولمة
الاقتصادية وأسواق المال والتجارة العالمية، وتعني مجالات الخيال والأدب
والإبداع والفنون الجميلة، وتعني مجالات الرعاية الاجتماعية وحماية البيئة
والصحة وسعادة الإنسان، وأخيراً واجب الوضوح والشفافية والصدق والاعتراف
بدءاً من الدولة وانتهاء بالجسد.
إنّها ليست المقاومة الفصامية على طريقة : الماكدونالد الحلال وزمزم
كولا والمايوه الشرعيّ. ولا هي المقاومة التي تحتفي بالنصر والتمكين حين
نجعل هاتفنا المحمول يرنّ بالآذان، أو يجعله آخرون كذلك فتحاً مبيّناً
لأسواقنا وأذواقنا وأرزاقنا.
هل هو عصاب الهزيمة؟ لست أدري. لكنّها طرائف لا ترضي عقلاً بسيطاً مثل ما أنا عليه.
وفي الأخير ماذا عن المقاومة الدينية اليوم؟ أليس الواجب أن ندعمها؟
سبق أن قال "النبيّ المسلح"، في مؤلّفه "الثورة المغدورة"، ما مفاده :
إذا حدث أن انهار الاتحاد السوفييتي فسيكون لأصدقائه يد في ذلك. لأنهم
سكتوا عن أخطائه بدعوى أنه في معركة مقدّسة مع الامبريالية. سيصدق هذا
الأمر علينا فيما لو سكتنا عن أخطاء المقاومة الدينية بدعوى أنّ انتقادها
لن يخدم سوى الاحتلال.
ومن باب الصدق في الصداقة للمقاومة يجب أن نقول : بأنّ إضفاء الطابع
الدينيّ على المقاومة قد ساعدها بالفعل على أن لا تتراجع كثيراً، لكنّه لم
يجعلها تتقدّم ولو قليلاً. فموازين القوى ضدّ أمّتنا زادت اختلالاً.
وما العمل في الأخير؟
بناء على أن :
* مواجهة أساطير دينية بأساطير دينية مضادّة لا يمنحنا أيّة ميزة أو امتياز سواء على المستوى الإقليمي أو الدّولي.
* الطابع الديني للمقاومة قد زاد المسلمين انشطاراً والمقاومة انقساماً على خلفية الخلافات المذهبية بين مختلف الملل والنحل.
* الدين هو العمود الفقري للكيان الإسرائيلي.
فإنّ الخيار الاستراتيجي بالنسبة للمقاومة يجب أن يقوم على أساس الاختيار العلماني.
تحتاج المقاومة إذن إلى تغيير جذريّ في الأهداف والوسائل. تحتاج إلى
قيم ثقافية جديدة. تحتاج إلى فاعلين بدماء جديدة.. وهذا أعزّ ما يُرجى
وأحبّ ما يُطلب.