[rtl]قراءة في كتابي التصميم العظيم والمصمم الأعظم[/rtl]
وأنا أقرأ كتاب "التصميم العظيم"؛ كنت أشاهد صراعا خفيفا بين العلم والفلسفة ويجتهد هوكينغ وزميله لإثبات أن العلم لا يحتاج إلى الفلسفة، والعكس تماما عندما قرأت كتاب "المصمم الأعظم"؛ حيث كان الصراع أكثر حدة لصالح إعادة الاعتبار للفلسفة وأن العلم تالٍ لها في المرتبة. وهذاالصراع قديم بين الأم الفلسفة وولدها العاق العلم، وهو وإن كان شبه محسوم لصالح العلم؛ غير إن الفلسفة ما تزال تقاتل في بعض المناطق من العالم كالعالم الإسلامي لصالح إثبات اللاهوت الإسلامي في صورته الكلامية؛ والذي لا أشكّ أبدا أنه منذهل أمام إنجازات العلم التي لا تتوقف. وأنا كقارئ عادي ينتمي لمنطقة عربية اخترقتها العولمة بأدواتها الهائلة؛ يبحث عن موقف في هذا التدافع بين فلسفة ثابتة وقديمة وبين علم متغير ومتحرك في جميع الاتجاهات، في ظل حراك مجتمعي قوي يشهد خصومة؛ تزيد وتنقص؛ بين الحفاظ على الأصول والثوابت وبين الانغماس في منتجات الحضارة الحديثة؛ ذات الطابع الغربي؛ بكل تفاصيلها.
أكثر ما يعيب كتاب هوكينغ – كما أرى - أنه يتحدث عن نموذج علمي لا يزال غير مكتمل وكأنه نموذج نهائي أو سيكون هو النهائي، وما عدا ذلك فهو كتاب ثقافة علمية عادي، يذكرني بكتابات إسحاق عظيموف وكارل ساغان. تعليقات كتاب "المصمم الأعظم" تنتمي إلى نفس الجو الذي يفرضه هوكينغ المليء بالتحدي تجاه مسألة وجود الله، وإن كنت أميل إلى أن هوكينغ وزميله كانا أكثر تماسكا وإقناعا في عرضهما للمادة العلمية التي تثبت وجهة نظرهما في عدم حاجة التصميم إلى مصمم. على العكس من كتاب الدكتور حسن اللواتي الذي بدا لي أنه يخوض معركة خاسرة حسمت منذ أكثر من قرن ونصف لصالح العلم على حساب الفلسفة. قد يظن البعض أنه لا توجد معركة، وأن التعليقات هي مجرد محاورة بين نصوص موضوعية، ولكن ما أراه هو صراع حقيقي تعيشه المجتمعات المسلمة بين الهوية الإسلامية وبين نتاجات العلم المعاصر التي لا تعترف بأي موروثات أو مقدسات؛ مالم تخضع لأدوات العلم ومناهج التفكير فيه.
من السهل جدا على هوكينغ أن ينكر فكرة الخلق والخالق في مجتمعه البريطاني الذي مرّ بقرون من التحرّر من قبضة الموروث الديني المسيحي، ولكن ليس من السهل على مسلم ينتمي إلى مجتمع يمثل الدين بالنسبة له مبررا للوجود والهوية؛ أن يفكر في تبني رأي هوكينغ ويصرح به علانية. وقد يتبادر لذهنه بأن قضية الكون والوجود هي قضية موضوعية يمكن أن يكون الإنسان حياديا فيها ويحكم بعقله ما يراه صحيحا ومقنعا أكثر، ولكن ما هو على أرض الواقع يختلف تماما عن ذلك، إذ أن الاندماج الكامل بين الإنسان والدين في مجتمعاتنا يجعل من نظرية كنظرية هوكينغ تشكل فعلا تهديدا قويا لاستقرار وانتظام هذا المجتمع. وهنا يحق لي أن أشك في نفسي أولا وفي غيري؛ أنني أستطيع فعلا أن أقرأ كل من كتاب "التصميم العظيم" للبروفيسور ستيفن هوكينغ وزميله ليوناردوملودينو، وكتاب "المصمم الأعظم" للدكتور حسن اللواتي وزميله الأستاذ محمد بن رضا اللواتي؛ أن أقرأهما بحيادية تامة. وربما هي مغامرة غير محسوبة أن أسجل انطباعاتي هنا في هذا المقال عن تجربتي مع الكتابين وأنا أدعي هذه الحيادية.
أول ما لفت انتباهي وأنا أقرأ كتاب المصمم الأعظم هو اعتماده الكلي على الفلسفة في التعليق على ما اعتبره الفكرة الأساسية في كتاب هوكينغ؛ وهي نفي الحاجة إلى الخالق في نموذج علمي لا يزال غير مكتمل. ولا أخفي استحساني لذلك؛ أي لاستخدام الباحث للفلسفة فقط، إذ أن الاستعانة بالعلم لإثبات الخلق للخالق بدون الاعتماد على قاعدة فلسفية ناضجة وتم اختبارها بنجاح كالفلسفة الإلهية؛ تعتبر مجازفة خطيرة. وما يجب الإشارة إليه هو أن المحاجات الفلسفية التي قُدّمت في الكتاب يمكن أن تقنعنا هنا في مجتمعنا المسلم، ولكنها لن تقنع هوكينغ الذي حكم من البداية بموت الفلسفة، ذلك أنه يعتبر الرد على العلم بالفلسفة هو عمل فارغ. فالفيزيائي أمام أجهزته وفي مختبراته يريد أن يكمّل نموذجه العلمي، وعندما نقول له توقف ولا داعي لذلك لأن النموذج مكتمل تماما فلسفيا فإنه لن يعبأ بنا مطلقا، ?ننا لا نضيف له شيئا. هو ينتظر منا ما يساعده على تكميل النموذج الذي يرى نقصه عيانا. وأي شيء غير ذلك هو عمل فارغ. فالفلسفةتنفع في أوجه حياتية أخرى ولكن ليس لإيقاف العلم عن الحركة، بل وحتى جسارة العلم في إلغاء دور الله؛ لا يقبل العلم بتفنيده والرد عليه إلا بالعلم نفسه، أما الفلسفة فلتسترِح جانبا وتنتظر كعادتها.
عندما أقول لرجل العلم:إنك تسأل السؤال الخطأ؛ كما ذكر الباحث في معرض استعراضه لأسئلة هوكينغ الثلاثة؛ فإن أول ردة فعل له ستكون هي: ما هو السؤال الصحيح؟ وهل الخلل المنطقي في السؤال - على فرضه - يجعل من طرحه غير مشروع وغير ذي جدوى؟ عندما لا تكون لديّ المصطلحات: اللون والوردة فلن تكون هناك مشكلة أن أسأل عن ناتج جمع 2 و2 لمعرفة لون الوردة. بمعنى آخر أن مشروعية السؤال تأتي من كوننا في حاجة ماسة للإجابة، وسواء كان السؤال منطقيا أو غير منطقي؛ فالحاجة هي التي تجعل السؤال مشروعا أم لا. عندما يسأل الطفل والديه سؤالا ساذجا فليس من السليم انتقاص السؤال بحجة أنه غير منطقي؛ بل يجب النظر في الحاجة الملحة للطفل لمعرفة ما حوله. على مستوى العلم؛ من المشروع جدا أن نسأل: لماذا هناك شيء بدلا من لاشيء؟ والسبب أن السؤال ناظر لأن كل من الشيء واللاشيء مبهمان للعلم، ولا توجد بعد مصطلحات دقيقة وواضحة يمكن وضعها محل الشيء واللاشيء. بمعنى آخر؛ ما يزال العلم لم يصل لمفهوم اللون ومفهوم الوردة، وبالتالي هو يسأل عن لونها بطريقة ما كناتج جمع 2 و2.
بالمثل مع المناقشة الخاصة بتقسيم الوجود إلى مادي تختص به الفيزياء ومطلق تختص به الفلسفة أو البحث العقلي؛ فهذاالتقسيم فيه قفز ومصادرة على العقل. هناك مفاهيم كثيرة كانت فيما سبق من مختصات الفلسفة ولكن العلم أثبت فعلا أنه أقدر منها ويقدم إجابات أفضل. العلم لا يعترف بالوجود المطلق لنقول إنهليس من مختصّاته. العلم لا يبحث عن الله، بل كلما جعل هدفه البحث عن الله ينتهي إلى أنه بعيد عنه. العلم غايته أن يفهم الإنسان هذا العالم. ويسيطر عليه ويسخره لخدمة نفسهولصالح رفاهيته واستمراره. عندما نقول للفيزيائي اترك اجهزتك لأنها لن تُفيدك في معرفة هذا الوجود؛ سيقول لك: حسنا؛ اجلس في الظل وسترى. العلم لا يقوم له مقام لو أذعن بوجود مطلق لا يبلغه. الفلسفة التي تختص بالوجود المطلق لا تُكمّل الصورة التي يتطلع إليها العلم، بل هي تصادره بمنهجيّتها العقلية الصارمة، والعلم يتمرّد حتى على مناهجه هو نفسه. لتستمر الفلسفة في تصوراتها وتفسيراتها، ولكنها لا تطلب من العلم أن يتوقف، فالتجارب تعلمنا في كل مرة أن الفلسفة تخطئ في مصادراتها والعلم ينجح ويقدم لنا المعرفة التي تعود الفلسفة من جديد للإذعان لها وإعادة إنتاج نفسها في ضوء نتائج العلم. وليس أسهل لإثبات ذلك من النظر إلى تطوّر أسئلة الفلسفة من توما الأكويني إلى برونو إلى ديكارت ثم كانط وبيركلي وصولا إلى هايدجر وسارتر وفوكو وهابرماس.
إن البحث عن الله؛ كما يُقرّر صاحب المصمم الأعظم؛ هو فعلا بحث فلسفي وليس علميا، وأحسب أن هوكينغ لا يبحث عن الله، وما قوله بأن الفلسفة ماتت إلا لأنه فعلا لا يبحث عن الله، وادعاؤه أن هذا الكون لا يحتاج إلى إله موجدٍ له؛ مشكلته ليست في كونه يُقحم الفلسفة في العلم؛ بل لأنه يقطع بنتيجة علمية لم تُثبت حتى الآن.هناك وجه منطقي في ادعاءه عندما نعلم أن العلميهدف إلى التأكد من أن الكون نظام مغلق يفسر نفسه بنفسه. مسألة وجود الله هي مسألة يتركها هوكينغ للفلاسفة الميتافيزيقيين. قد يكون من الجرأة لدرجة الغرور فعلا أن ينفي الفيزيائي وجود الله؛ إذ أن العلم ليس معنيا بذلك؛ فهذا اختصاص الفلسفة، ولكني لست متأكدا أن هوكينغ نفى وجود الله في كتابه، وإن حصل فهو على الأرجح غرور قادم من اللاعقلانية التي تنتشر في فلسفة العلم المعاصرة، وخصوصا أن الحدود الفاصلة بين العلم والفلسفة في العصر الحالي لم تعد بتلك الدرجة من الصرامة القديمة. وهنا من المفيد أن نقول إن البحث العقلي المجرد لإثبات وجود الله أو نفيه يجب أن يكون منفصلا تماما عن العالم المادي الطبيعي، فإثبات وجود الله عقلا شيء؛ وكون له دور ما في تفسير وفهم هذا الوجود شيء آخر. فالميتافيزيقيون الذي يثبتون وجود الله عقلا عليهم أن يصرفوا جهدا آخر ?ثبات أن الله لعب دورا ما في الخلق. ولا ينتفي ذلك إلا إذا قلنا بعدم انفصال عالم البراهين العقلية عن المشاهدات المادية؛ ففي هذه الحالة فقط سيكون إثبات الله عقلا هو في نفس الوقت إثبات أن له دور مادي، ولكن لكي يتحقق ذلك يجب على الفلسفة أن تقدم تنازلا آخر للعلم وتأخذ بالنتائج التي يقدمها عن عدم حاجة الكون إلى خالق؛ ليس تنازل الاستسلام وإنما تنازل للجلوس على طاولة واحدة للحوار واستفادة كل طرف من الآخر.
يحدد الدكتور الباحث والأستاذ المعلِّق أن الفلسفة هي التي تُقرِّر هل هناك موجودات أم لا، وهنا أتساءل: ما أهمية ذلك بالنسبة للعلم؟ وما الذي سيتغيّر في العلم فيما لو قالت الفلسفة أن قضية ما ليس لها وجود أو العكس؟نحن نلاحظ أن العلم لا يعترف بذلك، وربما لو اعترف بذلك لما خرج الإنسان من كهفه لغاية يومنا هذا. العقل مدين لدافع التجريب لدى الإنسان؛ إذ لولا هذا الدافع لربما لم يختلف عقل الإنسان عن عقل الشمبانزي كثيرا. الإنسان في ظل دافع التجريب هذا؛ لا يهتم بأن يكون للموجودات رتب في الوجود. هو لا يتعامل مع ثنائيان أو ثلاثيات في الوجود. لا يفهم مبرر التمييز بين الماهية والوجود ولا بين الجوهر والأعراض ولا بين الكلي والجزئي. الإنسان ليس أمامه سوى المادة، وليس له هدف سوى السيطرة على هذه المادة وإخضاعها. التنظير لهذه المادة واستخراج وجود أول وثاني وثالث لها؛ هذا ما لا يضيف كثيرا أو قليلا في تحقيق غاية الإنسان من الاحتكاك بالمادة. الإيمان بالله مع أهميته للإنسان؛ إلا أن علاقته بفهم سلوك المادة لا يتعدى علاقة مريض السرطان بالخلايا الشاذة في جسمه، فهو يدرك أنها جزء منه ? تعمل بشكل صحيح لخلل معين، ويود أنها لو تتوقف عن شذوذها ليخفّ ألمه ومعاناته، ولكنه لا يعلم لماذا تتصرف هكذا! قد يكون هناك رتب معينة للوجود، وقد تكون الكليات والجواهر ذات وجود منفصل يفيض بها الله، ولكن حجم ما يغيره هذا الوجود العقلي في الوجود المادي– من وجهة نظر العلم- يكاد يكون صفرا. لا توجد جسور بين الوجودين، فالفلسفة الأولى تنزع باتجاه القطع مع العالم المادي، والعلم ينزع باتجاه القطع مع العالم العقلي. وهذه الثنائية وإن كانت قد تجاوزتها الفلسفة المعاصرة، إلا أنها ما تزال هي العمدة في الفلسفة الإلهية التي يراد من خلالها تفنيد مزاعم الفيزيائيين وإخراسهم. من حق الفيلسوف العقلي أن يؤمن بالله ويثبت وجوده عقلا، ولكنه يعلم علم اليقين أنه يعيش كل تفاصيل الحياة ماديا، والمساحة التي تحتلها ثوابته العقلية من حياته اليومية تكاد لا تذكر. بل إنه عندما يجرب العرفان والرياضة الروحية؛ يتأكد قبل ذلك أنه لا يعاني من صداع الرأس أو ألم في البطن أو أي عارض يمنعه من التبتل والابتهال للمطلق. لهذا فمسألة تقديم الوجود العقلي على الوجود المادي ليست بذات أهمية كبيرة في القطع والجزم بأن العلم مخطئ ومغرور عندما يحاول إقصاء المصمم من التصميم. لأن التصميم الذي نتحدث عنه هو المادة، والعلم محوره المادة، فإذا ادعى شيئا فإنما يتحدث ضمن دائرته واختصاصه، أما العالم العقلي فلا يضيف ولا ينقص كثيرا في التصميم.
يُحدّد الأستاذ المعلّق محمد رضا اللواتي في بداية تعليقاته أن ما يتغيّر في حالة تقديم الوجود المطلق على المادي أو العكس؛ هو نظرة الإنسان للحياة وكيفية تفاعله معها. باختصار؛ ستختلف الإجابة على السؤال: "كيف يمكن العيش بنحو أفضل؟" بين الحالتين. وهنا يفترض الأستاذ المعلق أن الحياة ستكون في ظل الاعتراف بالألوهية سيكون لها طعم آخر أفضل وأجمل وأكثر واقعية مما لو تم نفي الألوهية عن أصل الوجود. وهنا يجب أن نعترف بأن حجم تأثير ذلك على العلم محدود جدا لدرجة الصفر. ذلك لأن مباحث القيم؛ وهي التي تجيب على هكذا سؤال في العادة؛ انفتحت على العلم بشكل واسع جدا، لدرجة أن كل مبحث من هذه المباحث كالفن والجمال والقانون والسياسة؛ أصبحت هي نفسها جزءا من المفهوم الواسع للعلم؛ لها مناهجها وأدواتها في حل مشاكل الإنسان. بمعنى من المعاني؛ إن الإنسان الغربي أدرك فعلا الميكنة التي يقوده العلم إليها، وبدأ في البحث عن الألوهية من جديد؛ ولكن هذه المرة يبحث عنها في الإنسان نفسه؛ وليس في المطلق الذي كفر به منذ هيوم وفولتير ومونتسكيو. والعلم مرة أخرى هو الذي يقوم بذلك، لهذا نسمع اليوم وبقوة في فلسفة العلم عن العلوم البينية وعن اللاعقلانية واللاحتمية. أوربا تبحث عن الروح من جديد؛ ولكن ليست تلك الروح المفارقة للإنسان والمتقدمة عليه مرتبة ووجودا، وإنما تلك الروح التي هي نفسها الإنسان؛ كما لو أن الإنسان يكتشف نفسه بعد أن تعب من الألوهية المفارقة التي أبعدته عن ذاته وحرمته من الاستمتاع بألوهيته البشرية ذات المفهوم النيتشوي؛ أي الإنسان الأعلى.
هل أجاب هوكينغ إجابات فلسفية على أسئلة علمية؟ في حدود ما قرأته من كتاب هوكينغ؛ لم ألمس أية إجابات خارجة عن نطاق العلم على أسئلة العلم. لم يستعين هوكينغ بالفلسفة ليجيب على أسئلة علمية، بل هو انتزع أسئلته من جوها الفلسفي وألقاها في ساحة العلم ضاربا على صدره قائلا: نحن لها. كان محيطه ونطاقه هو العلم وفقط العلم. هو من الأساس لا يحب أن يفرق بين سؤال فلسفي وسؤال علمي. السؤال لديه هو سؤال وفقط. عملية تصنيف السؤال إلى علمي وفلسفي هذه ليست واردة في حسبانه. لهذا لا أجد مبررا لاتهامه بأنه يقحم الفلسفة بالعلم أو يخلط بينهما. هو من البداية لا يعترف بأي دور للفلسفة للإجابة على تساؤلاته، لهذا كان مصرا بشدة على نفي أي دور للميتافيزيقيا في دائرة اختصاصه. ولعل من المفيد هنا أن نذكر بأن العلم الحديث لا يضع فواصل حادة بينه وبين الفلسفة المعاصرة. ويجب أن نعرف أيضا أن الفلسفة المعاصرة ليست هي الميتافيزيقا. الميتافيزيقيا القديمة فعلا ماتت؛ على الأقل لدى الفلاسفة الأوروبيين. وأصبحت تظهر في الأفق ميتافيزيقيا جديدة مختلفة كليا عن القديمة. لهذا لجوء الفيزياء للفلسفة إنما هو لجوء للأبستمولوجيا وليس للميتافيزيقيا، فالمقدمات المعرفية للفيزياء ليست من شاكلة وجود مرتبة أسبق من المادة تمنح المادة وجودها؛ بل من شاكلة طبيعة القوانين الطبيعية والمنطقية التي يمكن أن تحدد ماذا نستطيع أن نعرف. من الممكن أن تسدي الفلسفة للفيزياء خدمات كثيرة بالمجان، والفيزياء تذعن لذلك، غير أن أي من هذه الخدمات لا تأتي في صور مصادرات ومطلقات تمنع البحث الفيزيائي وتوقفه. نظرية إم مثلا والتي تثبتها الأجهزة والمراصد والقراءات من التجارب يوما بعد يوم؛ هذه النظرية تقتحم ميادين ما تزال الميتافيزيقا تناضل من أجل احتكارها، وغرضها ليست نفي وجود الله أو عالم العقل؛ وإنما إكمال نموذج علمي يربط بين كل الأحاجي والمبهمات في الكون. الآن عندما نقول إن هناك أجزاء فلسفية في نظرية إم فهو موازي لقولنا إن تفسير قراءات أحد الأقمار الصناعية البحثية لأمواج الجاذبية بحاجة إلى مقدمات أبستمولوجية تعين الفيزيائي النظري على ربط هذه القراءات بما تم التوصل إليه حتى اللحظة، لا أن نقول إن نظرية إم جهد ضائع لأنها تستبعد الميتافيزيقيا من حساباتها.
عندما يقول هوكينغ ان الكون لا يحتاج إلى مصمّم وأن النموذج العلمي لبدايات الكون يفسر نفسه؛ فهل هذا يعني أن هوكينغ يجيب إجابة فلسفية على سؤال ليس من اختصاصه؟ الفلاسفة الميتافيزيقيون يعتقدون أن أي سؤال عن أصل الوجود ليس من اختصاص العلم، على اعتبار أن العلم يتعلق بالمتغيرات الحادثة لا بأصل الأشياء. المادة حادثة كما يشرحون، وبالتالي حدود العلم تقف عند هذا الحدوث ولا يستطيع أن يلاحظ ويراقب ما قبل هذا الحدوث. ما قبل ذلك لا يتأتّى إلا بالنظر العقلي؛ بالمقدمات البديهية التي يجب أن يستلمها العلم من الفلسفة، ويبدأ في العمل في ضوئها. العلم لا يقرّ لهم بذلك، ودائما يسأل: من أين لكم هذا؟ ومن أين لكم أن المادة حادثة؟ كيف عرفتم أنه يوجد زمن قبل الحدوث؟ لماذا لا تكون المادة أزلية؟ وبطبيعة الحال؛ هذا يعني أنه من حق العلم أن يقول: لا توجد علة نهائية، لأنه لا يصدّق بأن المادة حادثة. وبالتالي: عبارة أصل الوجود تستفزّه لأنها تنطوي على تناقض منطقي. كيف يكون للوجود الكلي أصل؟ الأصل للحادثات وليس للوجود الكلي الذي هو مرادف من مرادفات المادة الأزلية، وبالتالي يستطيع أن يفتي ويقدّم فيها رأيا، وفي نفس الوقت؛ يستطيع أن يثبت تهافت آراءه بنفسه. والتجارب علمتنا أن العلم إذا تحدّث فإن الفلسفة تستمع؛ وليس العكس. ومن يريد أن يردّ على هوكينغ؛ يجب أن يشتغل بالعلم وليس بالفلسفة.
مقولة موت الفلسفة ليست من مبتكرات هوكينغ، فهناك تيار فكري عريض وذو حضور قوي في الفلسفة الأوروبية المعاصرة يقدم هذا الطرح، وواضح جدا أن الطبيعيين بما فيهم هوكينغ يتبنون هذه المرجعية باعتبارها مُسلّمة من مسلّماتهم، فهم لا يعترفون بمجال بحث الفلسفة التقليدية. هل الفلسفة ماتت أم لم تمت هذا موضوع آخر، ولكن بما أن هوكينغ ينطلق في كتابه من هذه المرجعية فيجب أن نجاريه لتفنيد أطروحاته. فهو لم يخصص كتابه هذا لمهاجمة الفلسفة، وإنما يذكر موتها استطرادا ليحدّد منطلقاته في كتابه. وإن كنت شخصيا أعتبر أن الفلسفة التي لا تضيف لنا شيئا ولا تغير شيئا هي فلسفة زائفة لا طائل ولا نفع منها، فهي فعلا ميتة.
مصطلح مُعقد ومتشابك كالفلسفة من المهم جدا عدم الإلتزام بتعريف واحد فقط له، إذ أن هذا التخصيص والارتكاز على تعريف واحد يعني أحد أمرين: أن هناك فكرة أحادية تسيطر على عقل الكاتب ويريد جرّ القراء إليها، أو أن المناخ والجو العام للكتاب يفرض على الكاتب الإلتزام بتعريف واحد. وحيث أن الباحث في المصمم الأعظم يلتزم بنقد آراء وأفكار هوكينغ؛ فأتوقع أن يتوسّع أكثر في تعريف مفهوم الفلسفة أو على الأقل يركز على المفهوم الذي يتوقع أن هوكينغ يلتزم به. فلا يحاسبه على تعريف لا يلتزم به. وإن كنت أعتقد أن هوكينغ لم يكن غرضه الحديث حول الفلسفة وتعاريفها ونقدها. وهو وإن كان يعطي الانطباع بأن الفلسفة لديه في هذه الكتاب هي البحث العقلي المجرد لموضوعات الوجود المطلق؛ غير أنه بالتأكيد لا يقصد بها تحديدا "الحكمة الإلهية" بنظامها الشرقي. وربما لو أفصح أكثر فسيقول إن أكثر ما يعيبه على هذه الفلسفة؛ أي الفلسفة الأولى أو الميتافيزيقيا؛ هو نظامها الصارم اللاواقعي مطلقا. وربما كامل الفلسفة الأوروبية منذ منتصف القرن التاسع عشر تقريبا إلى يومنا هذا كفرت بالميتافيزيقيا بسبب نسقيّتها المفرطة وسهولة تأدلج نظامها ومثاليّته المدمّرة.
تحدّث الباحث عن القانون العلمي وقانون السببية واستعرض تعاريف لها، ولكن هنا نسأل: إلى أيّ مدى الأبستمولوجيا المعاصرة ملتزمة بالصياغات التقليدية لهذه القوانين؟ إن المتابعة الدقيقة لنتاج الأبستمولوجيا المعاصرة ينتهي إلى أننا دخلنا فعلا في عصر اللاعقل الذي يعتبر اللاتعيّن جزء من الموضوعية؛ عصر الاحتمالات الذي يوسع الحتمية الميكانيكية؛ عصر نظرية الحقل التي توسع المنطق الصوري؛ عصر فيزياء الكم التي توسع فيزياء نيوتن. لم يعد لقانون السببية سلطته المطلقة القديمة. ليس مطلب الأبستمولوجيا المعاصرة إلغاء قانون السببية، وإنما رفض احتكاره ومصادرته لحركة العلم التي غالبا تنبع من دوافع فوضوية لا تخضع لإرادات مطلقة أو قوانين حتمية. وهنا أودُّ أن أشير إلى أسلوب سائد في الفلسفة الإلهية عندما يُراد نقد الطبيعيين من خلال التناقض، وقد استخدم الباحث ذلك في أكثر من مكان في نقده لكتاب هوكينغ.
عندما أقول إن قانون السببية لا يمكن هدمه أبدا، وأستدل على ذلك بأن الدليل الذي أحضره ليثبت الخطأ في قانون السببية هو في نفس الوقت يثبته؛ عندما أقول ذلك فأنا أخلق مشكلة في الوعي؛ أقع في التزييف. ذلك لأني كمن يحاول أن يضحك على طفل يقول إنه يحب الله لأنه يمنحه النعم؛ فأقول له ولكن الله قد يسلبنا إياها أحيانا، فيحتار الطفل ماذا يقول، وفي لحظة هذه الحيرة أدخل عليه مصادرة من النوع الثقيل بأن الله غير موجود أو لا قيمة لنعمه مثلا. الفكرة هنا أن استغلال لحظة حيرة عند الإنسان بطريقة "فبهت الذي كفر"؛ تخرج الإنسان من سياق الحدث والواقع وتجعله يفكر بالمجردات مع إهمال التفاصيل التي يمتلئ بها الواقع. هو يشاهد الكم الهائل من التناقضات في الواقع ولكن لا يستطيع أن يقول شيئا لأني سأكون قد كبّلته بحيث لا يستطيع إلا أن يستسلم لي ويقفز على أسئلته ويتجاهلها لأنه لا يملك لها تفسير ولا إجابة يستطيع أن يقدمها. وهو وإن كان سيذعن لي؛ ولكنه إذعان في عالم المجردات؛ إذعان بسبب نقص المعطيات الواقعية عنده، وليس اقتناعا تامّا فعلا بأحقية ومصداقية ما أقول، إذ ما تزال في نفسه أشياء وأشياء لا يستطيع التصريح بها. أنا لا يهمني أن يكون قانون السببية صحيح أو خاطئ، ولكن عندما أجد استثناء واحد يتوقف عنده هذا القانون عن العمل فلا أستطيع أن أغض الطرف عنه تحت ذريعة أن الرد على القانون هو في نفس الوقت إثبات له. العلم لا يلتزم بمسار معين، ولو كان العلماء والمهندسين والمخترعين ملتزمين بقانون السببية لما ابتكر الإنسان شيئا. إذ أن التفكير الابتكاري يتكبل في ظل قانون السببية. إنه تفكير خارج المألوف. وهذا ما يدفع الأبستمولوجيا المعاصرة إلى إعادة قراءة قانون السببية في ضوء النموذج العلمي؛ سببية نسبية تعمل في إطار نسبي من العوامل والظروف والقوانين الطبيعية، وتتعطل إذا ما انتقلنا إلى إطار آخر، كل ذلك لتفادي المثالية الزائفة التي يضعنا فيها إذا ما تم إطلاقه على الإطلاق.
هل هوكينغ فعلا يقدس قوانينه العلمية؟ هل يعتبرها مطلقة وحاكمة على التفكير؟ إلى حدٍّ ما؛ نعم.فهوكينغ يؤمن فعلا بحتمية احتمالية ستفسر في المستقبل كل شيء، وكذلك يؤمن بأن الإنسان آلة بيولوجية متقدّمة وأنه لا وجود مفارق للإرادة الحرة. وهو بهذا الإيمان يقع في نفس المطب الذي بسببه يرفض تدخل الفلسفة في تقديم تفسيرا للوجود؛ أي يقع في أدلجة العلم، وهذا بلا شكّ سيحرمنا من التعددية في العلم نفسه. بمعنى آخر أن الحزمة الواسعة من النظريات التي تشكل نظرية إم والتي تعطي طيفا أقرب لفهم الواقع؛ يحاول هوكينغ أدلجتها لصالح فرض نتيجة نهائية وحيدة لا محيص عنها. إلا أن ما يهون من ذلك أن الجو العام الذي يتحدث فيه هوكينغ هو جو علمي أكثر ديناميكية وقدرة على تحديث نفسه. فالمطلق العلمي أسهل في إثبات خطأه مقارنة بالمطلق الفلسفي. لهذا لا نتوقع مزيد ضرر من أدلجة الواقع باسم العلم مقارنة بأدلجته باسم الفلسفة التي جرّت وتجر الكثير من التزييف والجمود. إن فكرة نزوع الإنسان الفطري نحو التوحيد تجر ويلات كثيرة عليه، وإحدى أهم وظائف العلم هو إعطاء هذه النزعة فرص التمدد بدون أن تلحق الضرر بالوجود الإنساني، فإذا ما قصّر العلم في هذه الوظيفة فسيدخلنا في نفق ومتاهة لا يمكن التنبؤ بنتائجها الخطيرة، ونقد هذا التقصير لا يكون بتأطير العلم وتقييده باسم المطلق الفلسفي؛ بل بضخ المزيد من الديناميكية في العلم عبر العلم نفسه.
ربما من أغرب الردود في الكتاب هو المناقشة المتواضعة التي قدمها الكاتب على تساؤل أورده هوكينغ في آخر سطر من الفصل الثاني من كتابه، وأجاب عليه في الفصل الثالث والمعنون: "ما هو الواقع؟". مردّ الغرابة هو أن ناقد كتاب هوكينغ تمسك بالسؤال وأغفل الإجابة التي قدمها هوكينغ بالفصل الثالث. فهوكينغ يقدم الواقع من خلال النموذج الذي نصفه فيه، وهي فكرة في غاية الأهمية استطاع هوكينغ من خلالها أن يتجاوز الكثير من مشكلات المعرفة النسبية وتفاوت الملاحِظين واتساع المعرفة. فالضوء ذو الجسيمات عند نيوتن أصبح ذو طبيعة موجية لاحقا، ومع مجيء آينشتاين أصبح الضوء يحمل الطبيعتين في نفس الوقت. إن فكرة الواقع المبني على النموذج لا يمكن تشبيهها بالأفكار السفسطائية التي تنفي وجود الواقع مطلقا أو نسبيا. فنسبية الواقع إلى الملاحِظ أو الأداة هي نتيجة طبيعية لاختلاف الملاحظ وتحسُّن الأداة وتراكم الخبرة. الأرض التي كانت مسطحة لدى القدماء بسبب الملاحظة؛ أصبحت كروية لدى التالين، وهي اليوم ليست كروية تماما وهذا في غاية الأهمية. فكرة واقع النموذج تقدم إطارا للربط بين مختلف أوجه النظر إلى الواقع، بحيث أن فهم أية اختلافات في الرؤى سيتعلق بشكل مهم بالخلفية المعرفية التي انْبَنت الرؤية عليها. ربط الواقع بنموذج ليس نفيا للواقع. نعم؛ قد يكون النموذج خاطئ، ولكن الخطأ فيه لا يؤثر على موضوعية الواقع الخارجي، والتجريب اللاحق والمتراكم سيوسع النموذج الحالي أو يقدم نموذجا جديدا. فلا توجد مشكلة كبيرة في هكذا تصور وطرح.
وفي مسألة الوجود المادي والمعنوي فيفرد الباحث فصلين أو ثلاثة لمناقشة وإثبات هذه الثنائية، وربما لفت انتباهي المحاجّة التي أوردها الباحث في الفصل الخامس، وهي المقارنة بين الرقم خمسة المكتوب في ورقة والرقم خمسة المنطبع في الذهن. مناقشة مسألة الوعي والمعرفة بطريقة الرقم خمسة المكتوب في ورقة والذي يمكن تمزيقه والرقم خمسة المطبوع بالذهن؛ والانطلاق من ذلك لإثبات أن الوعي والمعرفة والفكر ليست قضايا مادية؛ هذه المناقشة– كما أرى - هي من الجدل السفسطائي الفارغ الذي يحذّر منه الكاتب في بداية القسم الثاني من كتابه. فهذه ليست محاجة حقيقية للانتصار لوجود عالم معنوي متقدم على أو مفارق للوجود المادي، بل هي أقرب لتكون تصوّرا واهما ناتجا من نمذجة عقلية لفهم الواقع المادي. لنتخيل العالم قبل ابتكار الصفر حيث لا يوجد بعد وعي لدى الإنسان بالصفر، ثم ونتيجة للمشاهدات ومحاولة حل مشكلات معينة؛ ابتكر الإنسان مفهوم الصفر ومع الزمن ترسخ هذا المفهوم حتى أصبح واقعا. نسأل هنا: هل هذا الصفر الذي ابتكره الإنسان وسك له مصطلحا وأعطاه ترميزا؛ هل ينتمي إلى عالم مادي أم إلى عالم معنوي؟ هل له وجود قبل ابتكار الإنسان له؟ وبالمثل مع المصطلحات التي نجدها في لغة دون لغة أو مع المفاهيم التي توجد لدى شعب دون شعب؛ هل تنتمي لعالم مادي أم معنوي؟
لم تعد الفلسفة المعاصرة تعترف بهذه الثنائية العجيبة، وهي؛ أي ثنائية العقل والمادة؛ وإن كانت تقدم تصورا لفهم ما حولنا؛ ولكنه تصور مرحلي تطوّر إلى تصورات أكثر واقعية وإقناعا. ذلك لأن مفهومنا عن المادية اليوم ليس هو نفس مفهوم المتقدمين مثل ديكارت عنها. الكليات التي يريد بعض الفلاسفة فصلها وعزلها في عالم آخر افتراضي لا يفنى ولا يستحدث، ولا يتحرك ولا يتغير، ولا يتقادم ولا يتجزأ؛ هذه الكليّات هي من مبتكرات الإنسان للتعبير عن الواقع، مفهوم الإنترنت المنطبع في الذهن لا يتجزأ ولا يتكثر ولا يقدم ولا يتحرك؛ فهل هذا يعني أن هناك عالما آخر يسكن فيه هذا المفهوم؟ القانون الطبيعي يُصاغ بلغة معينة وصفية أو رياضية؛ وهذا لا يُخرج هذه الصياغة من كونها مقاربة عقلية للواقع المادي. العالم المعنوي ليس عالما موازيا للعالم المادي؛ لا يوجد سوى هذا العالم الواقعي الذي نعيشه بتفاصيله الكثيرة التي من بينها اللغة. اللغة هي حركة الوعي؛ ولا توجد فاصلة بين اللغة والوعي، فابتكار اللغة جاء متوازيا ومنسجما مع تشكل هذا الوعي. العالم المعنوي للغة ليس مقابلا للعالم المادي، بل هي جزء لا يتجزأ منه. نحن نبتكره ليقابل تطوّر حركتنا وصيرورة النمو لدينا. لهذا عندما يضع هوكينغ كامل ثقله في العالم المادي فذلك لأنه لا يرى أي مبرر لفصل عالم الذهن عن عالم المادة، بل إن هذا الفصل يراه كارثة على الإنسان، إذ ينفصل الإنسان عن الواقع الذي يتحوّل إلى مُجرّد ظلّ وشبح بالنسبة لعالم العقل الذي هو العمدة في الوجود، ومجددا نقول لو كان الأمر كذلك؛ لما بارح الإنسان كهفه. لا أحتاج لكي أفهم الوعي أو المعرفة أن أفترض وجود عالم آخر غير مادي، هذا سيُعقد المسألة أكثر. الوعي نفهمه في حدود ما نتوصل إليه في هذا العالم الذي نعيشه، ولا نحتاج إلى صورة نهائية مكتملة مفترضة وقابعة في عالم افتراضي آخر. نحن نبني فهمنا عن الوعي بأنفسنا عبر صيرورة البحث العلمي وحركتنا في الواقع. وسواء كنا مخطئين أو مصيبين؛ بعيدين عن الفهم أو قريبين، فذلك لا يعني أننا نمشي في طريق خطأ، بل هو الصح، كون المعرفة تراكمية وبحثنا مستمر ولا يتوقف ونحن نتعلم من أخطاءنا بدون الحاجة لافتراض عوالم غيبية.
مسألة الإرادة الحرة من المسائل الفلسفية العويصة التي لم يحلها بعد لا العلم ولا الفلسفة. من يعتقد أنه وصل إلى نتيجة نهائية وقاطعة فيها فهو على الأرجح واهم أو متأدلج. نفي الإرادة الحرة مثلها مثل تثبيتها؛ من القضايا التي لا يمكن البت فيها؛ على الأقل في الفترة الحالية، وهذا ما يعترف به هوكينغ. وهو يميل؛ دون أن يقطع بذلك؛ إلى توقع ولادة نموذج علمي في يوم ما يفسر هذه الإرادة التي تتخذ طابع مجموعة ضخمة من الاحتمالات يتدخل فيها عدد هائل من المتغيرات. وميوله هذا نحو اعتبار الإرادة الحرة مجرّد وهم؛ نابع من هذا النموذج العلمي الذي يتنبأ به، وهو أمر لا يمكن استبعاده فعلا. ولا نغفل هنا أن اعتبار الإرادة الحرة وهما؛ لا ينفيها مطلقا، وإنما يوسِّع فهمنا عنها، وهذا دور العلم. قد نشعر نحن بالصدمة للوهلة الأولى لأننا نعتقد بأن الإرادة الحرة فعلا ليست من جنس المادة، ولكن إلى أي مدى تختلف هذه الصدمة عن صدمة القدماء عندما اكتشفوا أن خسوف القمر ليس بسبب دابة أسطورية تأكله ويجب قرع الطبولوتقديم الأضاحي لها لتتوقف، وإنما بسبب توسط الأرض بين القمر والشمس؟ بمعنى آخر؛ دور العلم الذي يريد هوكينغ أن يركز عليه هو أن يوضح لنا ماهية الإرادة الحرة لكي نفهمها، وهو مبرر منطقي جدا حتى لو قطعنا يقينا بأن الإرادة الحرة لا تخضع للعلم التجريبي. لننتظر العلم؛ فربما سينتج لنا نموذجا علميا يفسر الإرادة الحرة بصفتها مزيج من كهروكيمياء ومعادلات رياضية من جهة، وكموميات من الطاقة من جهة أخرى، بحيث في ظل هذا النموذج تكتسب الإرادة الحرة مفهوما ماديا أعمق من تصورنا الحالي عن المادة.
لا أستطيع أن أنكر وجود بعد ميتافيزيقي في الإنسان؛ بعد غائر وعميق وهو لغز عصيّ علينا إدراكه، وهذا وحده ما يدفعني لاعتباره بعدا ميتافيزيقيا؛ لا أن هناك مكون آخر في الإنسان ينتمي إلى عالم غير مادي؛ إذ لا أستطيع أن أعتبره عالما آخر منفصل فلسفيا عن عالمنا الواقعي المادي، وواحدة من أكبر أخطاء الفلسفة القديمة هو تقسيم هذا الإنسان وتقطيعه في عوالم متباينة. فهم هذا البعد الميتافيزيقي في الإنسان ليس سهلا، واعتباره جزءا من عالم آخر غير مادي؛ لا يساعدنا على فهمه، بل على العكس؛ هو يزيد المسألة تعقيدا ويفضي إلى نتائج كارثية لا تقل عن النتائج الخطيرة التي تنجم من إلغاء هذا البعد واعتبار الإنسان كائن مادي قح. إن تقسيم الوجود الإنساني إلى جزء مادي وجزء معنوي هو تقسيم ناتج من غموض الإنسان وتعصّيه على الفهم. عندما نسأل: ما هو الإنسان؟ فإن تقسيمه إلى عالمين هو أسهل لنا. القضية ليست متعلقة بمنهج اختزالي أو بعلة كلية وعلة جزئية؛ بل لأن الصورة ما تزال ناقصة. هذه الصورة التي يُطلّق عليها مشكلة العقل-الجسمMind-Body problem؛هي مشكلة ما فتئت تنتج فلسفات وتميت أخرى، واليوم هناك أقساما كاملة؛ تحت مسميات مثل "دراسات الوعي"؛ في الجامعات الكبرى؛متخصّصة فقط لإيجاد مقاربات لحل هذه المشكلة. بل إن الكثير من حلول الذكاء الاصطناعي في مجال تقنية المعلومات تقف وراءها هذه المشكلة العصية. تجزئة الإنسان وتوزيعه إلى عالمين مادي ومعنوي لا يحل شيئا؛ بل على العكس، إذ يجر على الإنسان الكثير من البؤس الذي نراه بسبب العنف الديني والتخلف الفكري والاستبداد باسم هذا العالم اللامادي؛ ناهيك عن أن هذا التقسيم للوجود الإنساني لا يساعدنا مطلقا في فهم الإنسان كما هو. هناك نظريات علمية تقدم مقاربات أفضل لهذه المشكلة وهي تحاول أن تكمل الصورة يوما بعد يوم؛ وإن كان العلماء يعتبرون الطريق ما يزال طويلا للوصول إلى نموذج علمي متكامل لحل هذه المشكلة. ومعالم هذا النموذج - حسبإطّلاعاتي المتواضعة - تؤكد فعلا أن مفهومنا للمادة يتوسع بحيث يمكن فهم البعد الميتافيزيقي في الإنسان بصورة أفضل. ومن المهم هنا أن نؤكد أنه لا يضير العلم شيئا أن يعترف بنقصه، فهذا ليس عيبا، بل هذه طبيعة العلم الذي يحاول دائبا لتكميل الصور الناقصة الكثيرة من حوله، ويرفض النهائيات مطلقا.
إن نفي وجود الله هو نفي لكامل هذا الوجود، والإيمان بهذا الوجود هو إيمان بالله في نفس الوقت حتى مع رفض إثبات الخلق لله. ذلك ?نه يستحيل وجود فاصلة بين الله وبين الوجود. لا أحد يستطيع تعريف الله، ولا أحد يمتلك معرفة عن ماهية الوجود المطلق، بل إن مجرد قولنا ماهية المطلق هو خطأ منطقي؛ لأنه لا يمكن أن يكون للمطلق ماهية. تحير العقول وتعجز عن الوصول لذات الله وفهمه. وهنا يتساوى نفيه وإثباته. فمن قال إن الله غير موجود هو صائب ومخطئ، ومن قال إن الله موجود هو صائب ومخطئ. ذلك لأن كلمة الله وكلمة الوجود المطلق ترمزان لنفس العمق الذي يحاول الإنسان أن يصل إليه ولا يستطيع. عندما يقول هوكينغ أن هذا الكون لا يحتاج لخالق مدبر، وفي نفس الوقت يعطي صفة التدبير للقوانين والثوابت في النموذج العلمي؛ هوكينغ هنا لا يفعل شيء أكثر من استبدال مفهوم الله بمفهوم المادة الأزلية التي لا تفنى ولا تستحدث ولا تخلق من العدم. غاية الأمر أن هناك ترتيبات مختلفة على كلا القولين. لا فرق جوهري بين القائلين ببرهان النظم ?ثبات الخالق وبين القائلين بدقة الرياضيات والقوانين الطبيعية التي تجعل المادة تفسر نفسها بنفسها. فهناك دقة وهناك وحدة موضوعية في هذا الوجود، غير أن المؤمنين ينسبونها إلى خالق وصانع والجاحدين يجعلونها صفة ذاتية في المادة. قانون العلية الذي ينتهي للعلة النهائية ينقض نفسه بنفسه؛ بنفس الكيفية التي تنقض فكرة أزلية المادة نفسها بنفسها عندما تحدُث. فكرة فاقد الشيء لا يعطيه إن كانت منطقية فيجب أن تنطبق على المطلق وعلى المادة. ذلك لأن الإيجاد لن يتأتى بدون وجود الشيئية، فإذا كانت المادة لا تملك أن توجد نفسها من العدم فكذلك المطلق لا يملك أن يوجد المادة من العدم. اللغز يكمن في هذه الهوة السحيقة التي تتكسر على أعتباها كل محاولات الإنسان لاختراقها. إن ضمَّ مفهوم غيبي إلى نموذج علمي لتفسير الوجود؛ مسار نسير باتجاهه كما يبدو، ولكن على الأرجح أن المفهوم سيكتسب صفة المادية وليس الغيبية. الصراع بين الميتافيزيقا والعلم سيحسم لصالح العلم، ولكن بعد أن يستوعب العلم فعلا مبررات الميتافيزيقا ويذيبها في نماذجه. القول بأن الإنسان ليس مجرد مادة؛ هو قول صحيح تماما، ولكن ذلك الجزء غير المادي سيتحول إلى مادي في يوم ما. الله سيظل المطلق الذي لا يمكن إدراكه، ولكن بلا شك نستطيع أن ندرك مخلوقاته؛ ولو على المستوى النظري. المطلق يتجلّى لنا تدريجيا كلما تناقص إطلاقه؛ تماما مثلما يتباهَت الموجود كلما ارتفع إطلاقه. فيصبح الثابت الكوني مثلا تجلّيا من تجليات المطلق الذي لو قلنا إنه موجود أو غير موجود؛ ففي الحالتين لا يوجد للعبارة معنى. الجزء الأهم في كل ذلك هو: ما الذي ينفع الإنسان؟ إن كان ينفعه ا?يمان بالمطلق فليكن المطلق موجود، وإن كان ينفعه عدم الإيمان بالمطلق فليكن المطلق غير موجود، كل ذلك حتى يفرغ من الجدل حول هذه المسألة العقيمة، ويلتفت إلى إصلاح الواقع بإصلاح نفسه أولا.
أخيرا أود أن أوجز رأيي في الكتابين بالانتهاء إلى أن اليقينيات التي نستخدمها في فهم الإنسان لا توفّر بيئة فعّالة لفهمه على حقيقته، ففي الغالب تنتهي إلى مصادرات وأحكام مسبقة تعيق فهم الإنسان. وإن كان هوكينغ قد استعان بالأرقام ونتائج التجارب والدراسات وأعطى تصوّرا شبه يقيني عن الإنسان بأنه آلة بيولوجية معقدة؛ فإن صاحبَي كتاب المصمم الأعظم قدما حتميات مشابهة، كالوجود اليقيني لعالم آخر غير مادي متقدم مرتبة على المادة. كذلك الحكم بموت الفلسفة لدى كتاب التصميم العظيم والذي ألغى أي دور يمكن أن تلعبه تلك الفلسفة التي هي في النهاية تفكير بشري لا بدّ أنه يوفّر أجوبة معينة أو في أقل تقدير يجسّد هواجس بشرية لا ينفك الإنسان يشعر بها في كل عصر وكل جيل، فهذا الإطلاق في الحكم بموت الفلسفة يتكسّر أمام التغيير الذي تحدثه هذه الفلسفة في واقعنا الاجتماعي، وهذا ما نشاهده فعلا. وبالمثل مع الدكتور حسن اللواتي الذي يقرر في أكثر من مكان من كتابه يقينية القوانين العقلية التي يجب أن يخضع العالم المادي لها، وأنها مما يستحيل نقضها مطلقا، فهي حتمية تقود – كما أعتقد – لنفس الميكانيكية التي ينقدها في أطروحات هوكينغ. إن التطوّر والصيرورة يفرضان أن البديهيات والماقبليات يُعاد النظر فيها بشكل دائم؛ إما للتأكد من دقتها أو للتأكد من كيفية تأثيرها على البعديات.