03 يناير 2015 بقلم
حاتم تنحيرت قسم:
الدراسات الدينية حجم الخط
-18
+ للنشر:إنّ تاريخ الإنسانية هو تاريخ إيمان بالماوراء والاعتقاد في أنّه لا يوجد خواء خلف الكون بقدر ما هو في قبضة كائن أسمى يعد غاية قصوى للإنسان، إذ لطالما آمن البشر بما بعد الطبيعة وخلود نفس الإنسان بعد الموت، وإن اختلف البشر حول ماهية الإيمان، فإنّهم اتفقوا – فيما يُعلم – حول مسألة الإيمان ذاتها، ولعل الطبيعة هي أول ما توجه له الإنسان بالتقديس، حتى عبد آلهة متعددة شبيهة بصفاته وقادرة على رعايته، وإن كان مسار التاريخ غير قابل للاختزال في حِقب منفصلة دون فقدان الاتساق فإنّه يمكن القول إنّ المرحلة الأهم هنا تتمثل في التاريخ السماوي - إن صح التعبير- الذي ينطلق مع بدء التاريخ الديني في ترتيل أحقاب التاريخ مرصعة بالأنبياء والرُسل، المبشرين بإله واحد للبشرية جمعاء.
يبدأ تاريخ الأشياء بالشرارة الأولى لخلق الكون ويبدأ تاريخ الإنسان بخلق آدم، ثم يتدخل الله في التاريخ عبر رُسله لتقويم مسار البشر، إلى أن توقف حبل المدد الإلهي بعد نبي الإسلام، ماذا حدث بعد ذلك؟ لقد انسحب الله من التاريخ
[1]، وإن كان سؤال الغاية والمعنى قد لاحق الإنسان كظله منذ فجر التاريخ فإنّه يمكن تمييز لحظات تاريخية أكثر إثارة فيما يخص سؤال وجود الله، سؤالًا أوليًّا وجوهريًّا، وعليه تبنى وبنيت الحضارات الإنسانية، وهو ليس سؤال ترف فكري، أو سؤالاً ينطوي على إجابته مخفية بين ضلوعه بعناية، أو سؤال العبث الذي لا طائل من ورائه، إنّه السؤال الأم لجميع الأسئلة الوجودية، وأساس العلاقة بين الله والإنسان، بل ويحمل كذلك أبعادًا سياسية، أما الإجابات التي نبحثها هنا، فإنّها امتداد لتاريخ الإيمان، في شقها الذي يراهن على البرهان العقلي أو تضييق مجال العقل لصالح العاطفة والقلب ويحاكي "الذوق" الذي يعجز العقل عن تصوره أو نقله.
إنّ الحاجة إلى الدين، إلى مدد سماوي لا ينقطع بين الله والإنسان، تعرف من جهة النتيجة، أعني أنّ تاريخ الإنسانية يحكي عن حضور الله في التاريخ وحضور الإيمان في النفس البشرية، غير أنّ الأسباب لم تكن واحدة دائمًا، على الأقل عندما يتعلق الأمر ببحث وجود الله كما تقدمه الكتابات الفلسفية. إنّ الله كائن أسمى خارج الإدراك الحسي للإنسان، كما أنّ الاعتقاد الديني المحض عبر الجماعة الإيمانية التي تدين به فيما يقع خارج اعتراف بقية الجماعات، ربما كان هذا مبرراً أساسيًّا لمحاولة إيجاد أرضية مشتركة بين كافة العقول تكون قادرة على توحيد البرهان الإلهي وخلق إيمان كوني يفرض نفسه على جميع العقول، أو مغادرة أرض الاستدلال إلى حوزة القلب والاعتقاد العاطفي الذي يراهن على مشترك آخر بين البشر يتحلل من صرامة البرهان باتجاه التجربة الوجودية العاطفية، فهذه تباينات في مقاربة المسألة، فإن كانت النتيجة واحدة فالأسباب دائمًا متعددة ومتباينة - باستثناء التجربة الإلحادية- هكذا يقدم الوجود الإلهي بوصفه حاجة غريزية في النفس تفرضها الفطرة السليمة، وضمانة للأخلاقية واللٌحمة الاجتماعية، أو استنتاجًا وبرهانًا عقليًّا، وإن ضاق مجال الاستدلال والبرهان انفتح مقام الذوق والعرفان.
إنّ تجربة الفيلسوف الوجودية ما بين لحظتين مستقرتين، ما بين يقين سابق على السؤال ويقين بعد السؤال، تلك اللحظة الفاصلة في تجربة البحث المستقل عن الوحي والمرتبط بالإنسان ذاتًا عاقلة وحرة قادرة على اختيار إيمانها، وبناء تصورها حوله بعيداً، ليس عن الله، بل عن سلطة المؤسسات واستبداد الجموع على الضمير الفردي للشخص الإنساني.
إنّه لا مخرج من الاستبداد الديني إلا بالتنبيه على وجود "مبادئ خلقية كونية للإيمان، متقاسمة بين العقول كافة".
[2]إنّ حرية التفكير لا تنفصل عن صميم الوجود الإنساني وإن كان لفيلسوف مثل إسبينوزا ملاحظة مهمة "حينما اختلف مع هوبز حول النظرة إلى الديمقراطية، فأفضل الحكومات تعقلاً تصدر مراسيم سليمة في الأمور الواقعة في نطاق سلطتها، وتكف أيديها في المسائل المتعلقة بالعقيدة والتعليم
[3] [3]. والخوف من حرية المعتقد يبدو أنها ترافق الأنظمة الأقل ديمقراطية عمومًا والتي تمارس سلطتها الاستبدادية على الضمير والاختيار السياسي لمواطنيها عندما تسعى لفرض نمط اعتقادي أو حتى مذهبي خاص على المجتمع وتدعي رعاية "أمنه الروحي" بواسطة القهر، وهنا يبرز مبرر التفكير الفلسفي في مسألة الدين، فليس الهدف هو ولوج بحر بلا شاطئ أو سرد أحاجٍ وجودية محيرة للقلوب قبل العقول بقدر ما يهم أن نلقي نظرة عن الكيفية التي عاش بها الفيلسوف حيرة الاختيار، وكيف مارس حريته في التفكير والتساؤل حول الغاية من وجوده ومصيره ومعناه. فكيف قارب فلاسفة مسألة وجود الله ؟ وكيف تعبر تأملاتهم عن أنّ جوهر الحرية اختيار؟
"قال الجاهل في قلبه: ليس إله
[4]، على هذه الآية بني تصور القديس أنسلم الذي يجعل من التجربة الإيمانية برهانًا عقليًّا استدلاليًّا، وإن كان لا ينفصل عن حقائق ومسلمات الوحي، هنا يصبح إنكار الألوهية إنكارًا لحقيقة تفرض نفسها على العقل وإن كان أنسلم ينطلق من مسلمة تستمد قوتها من الإيمان بالوحي كخطوة أولى فيكشف الرب عن وجوده لأنّه الكائن من تلقاء ذاته، هنا أيضا يحضر سند الوحي ضمانةً مبدئية، فالله نور يكشف عن ذاته من تلقاء ذاته "أنا هو الذي هو أنا"
[5]. إنّه قائم في أذهاننا حتى ولو كنا نجهله، وسيشيد القديس أنسلم برهانه الأنطولوجي الشهير، الذي يعرف الرب بأنه الكائن الذي يستحيل أن نتصور كائناً أعظم منه
[6]، ومن أجل أن نفهم منطق أنسلم دعنا نتصور في أذهاننا أعظم وأكمل وجود يمكن تصوره، كائن يملك من القوة والكمال والعلم.. الذي هو الإله، غير أن مجرد تصوره في عقولنا غير كافٍ إن لم يكن الإله الموجود في العقل موجود أيضا في الواقع، الأمر الذي سيجعل منه أعظم مما لو كان حيا
[7].
الآن يمكن أن نميز طبيعة البرهان الذي سيقدمه فيلسوف الأسس، والبحث عن الأرض الصلبة الخالية من الوحل، حيث سينطلق ديكارت من تجربة الشك بحثًا عن اليقين، ومن أجل ذلك يجب تجاوز الآراء القديمة "لهذا قررت أن أحرر نفسي، جدياً، من جميع الآراء التي آمنت بها قبلاً وأن ابتدئ الأشياء من أسس جديدة"
[8]، وهذا البعد التأسيسي لدى ديكارت هو ما سيدفع نحو البحث عن مركز ونقطة انطلاق تصلح لتشييد بناء الحقيقة، ومن المفيد هنا تذكُر أنّ ديكارت، قد ربط بين صحة منهجه في التفلسف وصحة أعمال كوبيرنيكوس الفلكية التي ستزحزح الأرض عن مكانتها في قلب الكون وتحل الشمس مكانها، فعندما تناهى إلى علمه خبر محاكمة غاليلي عبر محاكم التفتيش الإيطالية عدَل عن نشر تأملاته المسطرة في كتاب "العالم" وهي ملاحظة بجب التفطن إليها أثناء تتبع "نمو" التناول الفلسفي لمسألة الإله من جهة، وعلاقة الفلسفة بالعلم من جهة أخرى "وإنّي لأعترف أنّه إن كان هذا باطلاً فإنّ كل فلسفتي ستكون باطلة، لأنّها تبرهن على حركة الأرض بوضوح، إنّ هذه الأخيرة مرتبطة على نحو وثيق بكل أجزاء رسالتي، بحيث لا أستطيع فصلها عن هذه الأجزاء، دون أن يختل الباقي، ولكن لما كنت لا أريد أن يصدر عني أي خطاب تستهجنه الكنيسة، فإنّي أحببت أن ألغيه على أن أجعله يبدو ناقصًا"
[9]، وبما أنّ منهج ديكارت لم يكن إلا حصيلة اهتمامه بالرياضيات، لِما وجد فيها من يقين
[10] فإنّه سيبحث عن تلك الأرض القادرة على تحمل عبء بناء الحقيقة. "وهل كان أرخميدس يطلب غير نقطة ثابتة، لا تتحرك، لينقل الكرة الأرضية من مكانها إلى مكان آخر، كذلك أنا فإنّه يحق لي أن أعلل النفس، بأكثر الآمال، إذا أسعفني الحظ، وعثرت على شيء ثابت لا شك فيه."
[11]، والرهان الكبير هنا هو تقديم حجج تضاهي بل تفوق في اليقين براهين الهندسة، غير أنّه يمكننا استخلاص معرفة عن الله تكون صادرة عن أنفسنا ولا تتوفر إلاّ في أذهاننا، إنّ فكرة الله طبيعية فينا غير مستمدة من الحواس ولا هي بوهم لأنّي عاجز عن أن أزيد فيها أو أنقص، إنّها فكرة ولدت معي كما ولدت الفكرة التي لدي عن نفسي
[12] إلاّ أنّ حضور الله في هذا الصرح الديكارتي سيشكل امتداداً للبرهان الأنطولوجي عند أنسلم- وإن لم يقلها ديكارت صراحة- كيف أنّ فكرة كائن كامل أسمى نجدها فينا وتتسم بقدر من الواقعية، لكن هل هذه الفكرة التي بلغت من الكمال والجلال ما بلغت أنا مصدرها ؟ يجيب ديكارت إنّها لابد أن تكون صادرة عن موجود فائق القدرة والكمال هو علة وجدوها فينا
[13] ومن جهة أخرى ذات صلة، يتساءل ديكارت "من أين يستمد المعلول وجوده إلاّ من علته ؟ إنها نتيجة بديهية نستخلصها بالنور الفطري كما يقول ديكارت
[14].
الله هو جوهر لا متناهٍ أزلي منزه عن التغير قائم بذاته محيط بكل علم، قادر على كل شيء
[15] وفكرتي عن الله هي من الوضوح والتميز ما يجعل منها فكرة واقعية جداً
[16]. فالله مصدر لا يمكن أن يخدعنا بشأن أفكارنا الواضحة والمتميزة، والتي هو مصدرها، هنا يكمن النقد الموجه لديكارت بارتكاب ما يسمى منطقيًّا بالدور أي تكرار الدليل الأنطولوجي والسقوط في حلقة مفرغة.
أجل إنّنا لا نفهم اللامتناهي يقول ديكارت لكن هذا لا يعني أنّه غير حقيقي، إذ من طبيعة اللامتناهي أن تُعجز طبيعتي المتناهية عن المحدودة التي لا تقدر أن تحيط بها
[17]، هنا نجد أنّ طبيعتنا المتناهية تسعى لفهم ما هو لا متناهٍ.
إذا اكتفينا بهذا القدر في عرض التصور الديكارتي يمكننا القول إنّ الاستدلال على وجود الله فلسفياً كان مبنياً على مصادرة تقول إنّ هناك وحدة مشتركة بين جميع العقول مادام "الصواب أعدل أشياء الكون توزُّعًا بين الناس"
[18].
إلاّ أنّ العقلانية الديكارتية في بحثها عن نقطة الارتكاز التي ستمكن الذات من الوقوف على أرض صلبة تعيد تأسيس نظرتها لذاتها ولوجودها، هذه العقلانية لا تنفصل عن لحظة فارقة في حياة ديكارت، وهي التي عرفها في الليلة التاريخية، ليلة العاشر من نوفنبر تشرين الأول سنة 1619من خلال الأحلام التي رآها وأولها بنفسه على أنّ القدر يحتم عليه العمل طوال حياته على توحيد العلوم وتجديدها.
[19]هكذا يمكن القول إنّ الصرح العقلاني الديكارتي لم ينفصل عن شرارة الحُلم.
إلاّ أنّ ديكارت وضع أسسًا جديدةً ستنفصل بالتفكير عن تلك السائدة في القرون الوسطى، عندما سيؤسس للكوجيطو ووجود الإله وانفصال النفس عن الجسد، وهذه الأرضية الصلبة للفلسفة الديكارتية سيرافقها نمو وانفصال حثيث عن عالم القرون الوسطى والدخول المتوج للعصر الحديث، حيث سيسهم النمو المتواصل لسيطرة الإنسان على الطبيعة من خلال تصعيد المعرفة العلمية.
غير أنّ ديكارت كان متواضعاً في طرحه بحيث قدم فلسفة لا تعرض إلا طريقة الفيلسوف في التأمل الفلسفي، وهو يوضح كيف أمكنه حُسن استخدام عقله الخاص دون ادعاء آخر.
أما مسألة الإيمان بالنسبة إلى فيلسوف الأخلاق ايمانويل كانط فستعرف منعطفاً أكثر إثارة سيضعنا أمام ثورة كوبيرنيكية في ميدان الأخلاق بحسب تعبير كانط نفسه، من خلال ربط الأخلاقية بالذات الإنسانية ومن خلال وضع فصل بين الدين والأخلاق، "فالأخلاق من جهة ما هي مؤسسة على مفهوم الإنسان بما هو كائن حر [..] ملزِم لنفسه بنفسه من خلال العقل بقوانين لا مشروطة هي لا تحتاج إلى فكرة كائن آخر فوق الإنسان حتى يعرف واجبه [..] على الأقل إنّ الذنب ذنبه، حين يجد حاجة من هذا النوع [..] وهكذا فإنّ الأخلاق لا تحتاج أبدًا في ما يتعلق بذاتها إلى الدين... بل بفضل العقل المحض العملي هي مكتفية بذاتها"
[20] هذا الفصل يلقي بحجر ثقيل في بركة التساؤل حول علاقة الأخلاق بالدين ومكانة الضمان الإلهي ضمنهما - إنّها محاولة لتأسيس "دين الأحرار" الذي يؤكد صلة الدين بالطبيعة الإنسانية
[21] إنّه الاستعداد الخلقي فينا الذي هو الأساس وفي الوقت نفسه المؤول لكل دين
[22].
لقد "بين كانط في »نقد العقل الخالص «أنّ من المستحيل في إطار العقل النظري إثبات وجود الله بالحجة العقلية. غير أنّ النشاط التأملي للعقل الخالص يترك بالفعل مجالاً لفكرة وجود الله. ولكن العقل العملي هو وحده الذي يزودنا بأساس عقلي لهذا الاعتقاد. بل إنّنا في الواقع ملزمون في اﻟﻤﺠال العملي بقبول هذه الفكرة ما دام من المستحيل بدونها أن يوجد نشاط أخلاقي بالمعنى الصحيح. ذلك لأنّه يرى أنّ إمكان السلوك بناء على الأمر المطلق للقانون الأخلاقي يلزم عنه من الناحية العملية أن يكون الله موجودًا."
[23].
فسطر في كتابة "الدين في حدود مجرد العقل" رؤية للدين المجرد عن غطاء العقائد التاريخية حتى لا يبقى منه غير دين راسخ في الفطرة البشرية، لذا فإنّ الأخلاق التي يقول بها كانط تبتعد عن مجال أيّ عقيدة دينية جامدة، وإن كان قد اعتقد أنّ المسيحية هي العقيدة الوحيدة المتماشية مع القانون الأخلاقي، ومع ذلك فإنّ آراءه في الدين أدت بالحكومة البروسية إلى أن تفرض عليه حضراً رسمياً.
[24]هنا يتضح مرة أخرى مدى ارتباط التفكير المتجرد والحر مع سلطان السياسة العامة للدولة التي تفرض سلطتها على مسائل الإيمان وتبرز أنّ هكذا تأملات ليست منعزلة أو بلا تأثير كما يُظن عادة، بل إنّ قضايا الاعتقاد وتأملها تتعالق مع السيادة والسلطان، بغض النظر عن طبيعة التأمل الفلسفي مادام يهدد التصور السائد المرعي من طرف السلطة.
للحفاظ على "الأمن الروحي" لمواطنيها، وضمان أمنها السياسي، وبالتالي ينفتح بنا الكلام عن مجال الدين والدولة، السيادة والديمقراطية التي تلامس المجال الروحي للفرد الإنساني "ولكن من يشاء أن يضع الدين في القلب والعقل بالقوة والتهديد فما يضع ديناً بل إرهابًا"
[25].
إذا حمل كتاب كانط "نقد العقل الخالص" عبء وضع حدود للمعرفة من أجل إفساح مجال للإيمان.
[26] فإنّ فك الارتباط مع الحجج العقلية والتعويل عليها في تأمل التجربة الإيمانية للإنسان سيأخذ منعطفًا دراماتيكيًّا عندما سيرفع يده عن العقل مبديًا اهتمامًا أكبر بالعاطفة والمشاعر الإيمانية المشتركة بين الناس والتي تبدو غير قابلة للتطويع العقلي وأطره الجامدة، فهذا باسكال يعلن بؤس الإنسان بدون الله، غير أنّ الإيمان يختلف عن البرهان فأحدهما بشري والآخر هبة من الله، إنّه إيمان يضعه الله في القلب وغالبًا ما يكون البرهان أداته، ولكن هذا الإيمان قائم في القلب، فلا يجعلك تقول "أعرف" بل "إني أؤمن"
[27] وإن كان باسكال يقر أنّ نبذ العقل والاقتصار عليه كلاهما فيه غُلو لكنّه مع ذلك يرى أنّ العقل يعمل ببطء ويتطلب مبادئ يجب أن تبقى حاضرة أبداً فلا يقدر على استحضارها جميعاً بفعل كثرتها، بخلاف الشعور الذي يعمل بشكل فوري ودائم، لهذا يستنتج أنّه يجب أن نضع إيماننا في الشعور وإلا ضل أبداً في تأرجح
[28]، على أنّ باسكال لم يتحلل كلية من كل ما هو عقلي حيث يقر بضرورة العقل حتى لا يستحيل الإيمان إلى مجرد سخرية، إلاّ أنّ الخضوع الكامل لما هو عقلي سيجعل الدين يخلو من كل عنصر فوق طبيعي
[29]، لهذا ربما وجه اهتمامه إلى الرهان الشهير المعروف برهان باسكال والمتعلق بالإيمان المتأرجح بين حجج العقل والتصديق الديني، فيبدأ بهذه النقطة: "الله إما أن يكون أو لا يكون" ولكن إلى أي جهة نميل ؟ وعلامَ نراهن ؟ والحال أنّنا خائضون في الميدان ولا يسعنا إلا الرهان لكن أليس عقلنا لا يضره أي الاختيارين، إذا كان الأمر كذلك فماذا عن سعادتنا ؟ فلنوازن - يقول باسكال - بين الربح والخسارة، ولنعتبر هذين الواقعين: إذا ربحت فقد ربحت كل شيء وإذا خسرت فإنك لا تخسر شيئاً، هنا ينتهي رهان باسكال إلى القول: راهن إذن على أنّه موجود ولا تتردد.
[30]مع الرهان الوجودي تطرح تساؤلات تبدأ ولا تنتهي، فوضع قضية الإيمان بين يدي إثارة مقامرة على هذا الشكل ربما لا تكفي لتقنع قلوبًا وعقولاً تعتقد أنّ المسألة أكبر من مجرد عملية حسابية، وأن الأمر يتعلق بالوجدان لا بالذكاء والفطنة والمنفعة ولعل رهان باسكال أحد الإرهاصات الأولى لفكرة النفعية وجعل الحقيقي هو المفيد، كما أنّ تجربة الشك لا يمكن أن تعمر في العقول والقلوب كثيراً.
يقول كيركغارد: "لو أنّ وراء الأشياء جميعاً يتوارى خواء لا قرار له، لا يشبع أبدا – فماذا يمكن أن تكون الحياة عندئذ سوى يأس وقنوط، ولو لم يكن ثمة رابطة مقدسة توحد البشرية [...] كم تكون الحياة عندئذ خاوية لا راحة فيها.
[31]هكذا يتوضح أنّه فيما وراء الدليل والبرهان الفلسفي المتعلق بالوجود الإلهي سواء ما ارتبط بالعروة الوثقى للعقل وتمسك بها أو ما تحلل منها متمسكًا بعرى القلب، فإنّها جميعاً سعت لتوحيد الإنسانية على كلمة سواء تفرض نفسها على الوجدان والعقل، والأهم من ذلك هو رهان أعمق يقول بأحقية الإنسان في التفكير العقائدي وحريته غير القابلة للتفويت عندما يتعلق الأمر بالاختيار الحر. وهنا يتجلى الترابط الخفي بين التفلسف والتأمل في مسألة وجود الله مع حرية المعتقد وتداعياتها الاجتماعية والسياسية، والتي تخبرنا أنّنا لم نعد أمام مجرد تأمل ميتافيزيقي منعزل.