Posted on
7 نوفمبر 2010 |
أضف تعليقاً 6. إبستمولوجيا متجاهلة كثيرا : تاريخ العلوم.
سنترك لألكسندر كويري ، الإختصاصي الأكثر شهرة في ميدان الدراسات التاريخية لتطور العلم ، صلاحية تحديد أهمية وضرورة هذا الشكل من أشكال الإبستمولوجيا.
11. لماذا تاريخ التفكير العلمي؟..” إن تاريخ التفكير العلمي كما أفهمه ، وأجبر نفسي على ممارسته ، يهدف إلى فهم صيرورة هذا التفكير داخل حركة نشاطه الخلاق ذاتها. وبهذا الصدد فإن من الضروري موضعة الإنجازات المدروسة في وسطها الثقافي والروحي ، وتأويلها تبعا للعادات العقلية وسلم الأفضليات والمكروهات لدى كتابها أنفسهم. لا بد من مقاومة المحاولة التي يسقط فيها كثير من مؤرخي العلم ، تلك التي تحول الفكرة الغامضة غالبا وغير الذكية ، بل والمتناقضة لدى القدماء إلى فكرة سهلة التناول ، وذلك بترجمتها إلى لغة عصرية توضحها ، لكنها تشوهها في نفس الآن: إذ بالعكس من ذلك ، ليس هناك أفضل من دراسة البراهين المختلفة لنفس المبرهنة والمنجزة من طرف : أرشيمديس وكافالييري وروبرفال وباروو.
ومن الجوهري أيضا أن ندخل في تاريخ تفكير علمي ما الطريقة التي كان يفهم بها هو نفسه ، ويتموضع بها في علاقته بالتفكير السابق له والمصاحب له. إننا لا يمكننا التقليل من أهمية مجادلات مفكر مثل ” كولدن ” أو ” تاكي ” ضد ” كافالييري ” و ” توريشيلي ” ، وسيكون من الخطر عدم إجراء دراسة عن قرب للطريقة التي يقدم بها ” واليس ” أو ” نيوتن ” أو ” ليبنتز ” تاريخ اكتشافاتهم الخاصة ، أو إهمال النقاشات الفلسفية التي أججتها تلك الاكتشافات.
يجب أخيرا دراسة الأخطاء والكبوات بنفس الاهتمام الذي ندرس به النجاحات؛ فأخطاء شخص مثل ” ديكارت ” أو ” جاليلي ” ، وإخفاقات شخص مثل ” بويل ” أو ” هوك ” ليست فقط ذات أهمية تكوينية ، وإنما هي أيضا كشف بالصعوبات التي كان من الواجب الانتصار عليها ، والعوائق التي كان لا بد من تجاوزها.
وإذا كنا قد عايشنا أزمتين أو ثلاثة أزمات عميقة متعلقة بطريقتنا في التفكير ـ ” أزمة الأسس ” و ” اختفاء المطلقات ” الرياضية ، الثورة المرتبطة بنظرية النسبية والثورة الكوانتية ـ ، وإذا كنا قد عاصرنا عملية تدمير لأفكارنا القديمة ، وحاولنا التكيف مع الأفكار الجديدة ، فإننا أكثر تأهيلا ممن سبقونا لفهم أزماتهم والمجادلات التي قامت حولها.
أظن أن عصرنا مؤهل بشكل خاص لهذا النوع من الأبحاث، كما هو مؤهل لتعليم يخصص له تحت عنوان : تاريخ التفكير العلمي. إننا لم نعد نعيش في عالم الأفكار النيوتونية ، و لا أيضا الماكسويلية ، ونتيجة لذلك فنحن مؤهلين لتأملها من الداخل والخارج على السواء، وكذا لتحليل بنياتها واكتشاف أسباب إخفاقها ، كما أننا مسلحين بشكل يمكننا من فهم معنى الخصومات القروسطوية حول مكونات الامتداد [ هو مشكل الانتقال إلى الحد (النهائي) الذي طرحه كافالييري خصوصا بالصيغة التالية : هل يمكن القول بأن الخط يتكون من نقط والمساحة من خطوط . . . إلخ ؟ .. ويتعلق الأمر بمشكلة قديمة شكلها الأول المعروف هو نقيضة زينون الإيلي ] و ” عرض الأشكال ” ، وتطور بنية التفكير الرياضي والفيزيائي خلال القرن الأخير، وذلك في جهوده لخلق أشكال جديدة من التفكير العقلاني وعودته النقدية للأسس الحدسية والمنطقية والأكسيوماتية لصلاحيته”.
ألكسندر كويري
” دراسات في تاريخ التفكير العلمي “
جاليمار 73 ص ص : 14 – 15.
من الصعوبة بمكان ، إن لم نقل من المستحيل إعطاء أمثلة عن الدراسات التاريخية ، وذلك بسبب الفضاء الذي تتطلبه تلك الدراسات، ونحن نوجه أولئك الذين يريدون منذ الآن امتلاك فكرة عنها نحو تحليل تكون المفاهيم الجاليلية التي مكنت من التعبير عن قانون سقوط الأجسام.
ومع ذلك سنرى أن منهج الاكتشاف المحدد من طرف كويري ، وأيضا دراسته لتصورات الفيزياء الكلاسيكية ، يقومان على تصور أكثر خصوصية للتاريخ ، تصور هو أبعد عن أن يكون وحده الممكن . لقد أجهد كويري ذاته بالفعل لتوضيح أن الأفكار العلمية هي دائما نتاج أفكار أخرى ، و هو لا يربط أبدا حالة معطاة من حالات المعرفة أو تطور الفكر العلمي بالعوامل الخارجية ( الشروط الاجتماعية ـ الاقتصادية ـ التقنية ) ، و لا يركز إلا على العوامل الإيديولوجية ، ولهذا يمكننا القول إن إبستمولوجيته هي إبستمولوجية داخلية Internaliste ، ما دامت تقرر وجوب البحث عن أصل الفكرة العلمية بداخل نسق الأفكار في عصر محدد. النص الوالي يظهر أن إبستمولوجيا فينومينولوجية كهاته ، أي وصفية ، لها حدودها ، وأن موقفا خارجيا Externaliste يعطينا نظرة أكثر تكاملية عن تاريخ العلم.
12. تصوران لتاريخ العلم : وجهة النظر الداخلية ووجهة النظر الخارجية.
” لماذا ولد العلم ” المعاصر ” في أوربا في القرنين 16 و 17 ؟ .. إن السؤال مغر لكنه صعب( . . . ).
وكما هو الحال ، فإن التأويلات المقترحة من قبل الاختصاصيين عديدة ، وغالبا متباعدة ، وهذا يرتبط جزئيا بالثغرات المتعلقة بالأخبار التاريخية ، والتي كثيرا ما تم إهمالها ، ولكن ليس فقط بها وحدها ، إن الصراعات العنيفة أحيانا والتي تظهر بين مؤرخي العلوم يقوم وراءها سبب عميق : هو اختلافهم حول طبيعة ” العلم ” ذاتها. وهذا من جهة أخرى سبب لأهمية هذه المناظرات ، والتي في بعدها عن أن تكون تقنية خالصة ، فهي تتعلق مباشرة بالصورة التي نكونها عن النشاط العلمي ومكانته في حياة المجتمع. علينا أن لا ننسى أبدا أن أفكارنا الخاصة حول الثقافة والمعرفة والعمل والحياة هي التي توضع على المحك من خلال الاختلافات العالمة حول حضارة عصر النهضة.
إن العلم ، بالنسبة لبعض المؤرخين ، هو بشكل جوهري تكوين وبناء عقلي ، والتشديد منصب على خصوصية النشاط العلمي ، وعلى الإجراءات المنطقية المتداولة عن طريق ” المنهج ” ، وعلى الإنشاء التدريجي ” لمحتوى ” العلوم، والمشكلة ذات الأهمية البالغة هي مشكلة المعرفة بوصفها كذلك. إن دراسة تكون العلم ( العلوم ) معناه ممارسة تاريخ للأفكار والتصورات التي مكنت من ولادة مختلف النظريات، بعض التأثيرات الآتية من الخارج ( وبشكل خاص التأثيرات الفلسفية ) تؤخذ بعين الاعتبار ، ولكن العلم يعتبر عمليا ميدانا مستقلا ، علاقاته بعالم الفعل علاقات هامشية بمعنى الكلمة. إن المؤرخ يتخصص بشكل ضيق ، وبذلك يحفر هوة عميقة بين هذا النموذج من تاريخ العلوم وغيره: أي تاريخ التقنيات وتاريخ الفنون وتاريخ تقسيم العمل والتاريخ السياسي. . . إلخ، وهذا ما نسميه بشكل دارج ، وجهة النظر ” الداخلية “.
يلح مؤرخون آخرون على العلاقات التي توحد مختلف قطاعات النشاط الأساسي ، باتهامهم بالضيق وجهة النظر الداخلية، وهم يعترفون بأن العلم بحث عن المعرفة ، لكنهم يرون أننا لا نستطيع الوقوف عند هذه النقطة؛ فالعلم هو ذائما تاريخي بالمعنى التام للكلمة ، بمعنى أنه ينشط في ظروف أكثر تنوعا واختلافا ، ظروف يجب تفحصها عن قرب كل مرة ، كي نفهم ببعض الدقة بأي معنى هو مجهود يتحرك نحو المعرفة. ورغم أن هؤلاء المؤرخين يفردون مكانا للتاريخ الداخلي للعلوم ، فإننا نسميهم ” خارجيين “.إنهم بالفعل أكثر حساسية إزاء تعددية الأشكال والصور التي تتزيا بها العلوم في مختلف الحضارات ، وهم مهمومين بشكل خاص بتحليل اندماج ” المعرفة ” بالمعنى العام في هذه السياقات المختلفة. إن أهل الغرب وهو يعتبرون ضمنيا أو صراحة أن علمهم أرفع من كل العلوم الأخرى ، يتحدثون دائما عن العلم للإشارة بذلك إلى العلم ” المعاصر ” ، العلم ” التجريبي ” المولود منذ عصر جاليلي، وهذا يدعو إلى الاعتقاد بأن العلم متعال ، وأنه ليس هنالك إلا علم واحد ـ علم هو بمعنى ما لا زمني ، وقادر على كشف الحقيقة للناس ـ لكن كيف يمكن تفسير أن هذا العلم قدر له أن يولد في بعض دول أوربا في نهاية القرن 16 ؟ ..
إن جوزيف نيدهام في أعماله المتميزة ، يضع نفس السؤال بصيغة أخرى : لماذا لم يولد العلم المعاصر في الصين ؟ .. يجيب المؤرخون الداخليون مثلا بأن الثورة العلمية انقدحت شرارتها بفعل ” ثورة فلسفية ” ، أما بالنسبة لمؤرخ خارجي فهذا التفسير المزعوم مأخوذ عن المثالية؛ ذلك لأنه يتموضع على مستوى الأفكار وحدها ، ويحور السؤال بدل أن يجيب عنه ، ويجب بالفعل أن نعرف لماذا كان من حق مجتمع ما هذه الإشراقة ” الفلسفية ” ولم تكن من حق مجتمع آخر. إن المؤرخين الداخليين ، حسب نيدهام ، يتعثرون دائما أمام هذا العائق طوعا أو كرها ، بصراحة أو بكلمات ملتوية ، ولذلك لا يستطيعون غير التوسل بالصدفة أو التسليم بتأويل ” عنصري “.
وفي الواقع ، يؤكد نيدهام ، يجب اللجوء إلى دراسة سوسيولوجية وتاريخية ، وإذا لم يكن ” العلم ” قد ولد في الصين ، فإنه من غير المجدي الاعتقاد بأن ذلك راجع لكون الصينيين لم يكن بإمكانهم تكوين فكرة عن التجربة ، أو نظرا لغياب المخيال لديهم بفعل قدرية نجهلها. إن ذلك راجع اجتماعيا إلى أن الشروط والظروف لم تكن ملائمة ( ” الفيودالية البيروقراطية ” ، انعدام وجود طبقة التجار . . . إلخ ) . ولقد كان الصينيون خلال عصرنا الوسيط مع ذلك متقدمين على أوربا في ميادين علمية وتقنية متعددة ، وإذا تمسكنا بالحديث عن الأفكار ، فإنه يستطاع ، بل يجب الاعتراف ( بمعنى عام جدا ) بأن العادات الثقافية والفلسفية لدى الصينيين ، كانت أقل تأهيلا لإحداث فكرة ” ميكانيكية “. غير أن هذا يظهر فقط أن على الدراسة السوسيولوجية التي يتحدث عنها نيدهام أن تحيط بشكل تام بدراسة العقليات والتصورات التي تتطلب بدورها أن تؤخذ بعين الاعتبار. إنه لن ينفعنا فتيلا الحديث المجرد عن الروح الأوربية وعن الروح الصينية ، وبالمقابل ، يجب إرغام النفس على ربط أشكال التفكير بالأوضاع التاريخية في مجموعها ( الوسط الجغرافي ، وسائل الإنتاج ، البنيات الاقتصادية ـ الاجتماعية ـ السياسية ، اللغة والمؤسسات الثقافية . . . إلخ).
لتفسير كيفية ولادة العلم ، لا يكفي أن نحدد أصل الأفكار بالمعنى الثقافي للكلمة ، ويليق أيضا أن نفهم لماذا أولت هذه الجماعة الإنسانية أو تلك اهتمامها وانتباهها بشكل خاص لهذه الأفكار، وكرست مجهودات جبارة لإنشائها. إن المؤرخين الخارجيين لا ينفون أنه كانت بخصوص هذه المسألة تجديدات ثقافية (فكرية ) ، لكنهم يدرسون نموها بإيلاء الظروف التاريخية الأهمية القصوى ، وهم أيضا يرفضون أن يروا في انطلاق ” العلم التجريبي ” في إيطاليا وإنكلترا وفرنسا مجرد منحة ربانية؛ فهذا الانطلاق في نظرهم مرتبط بعمق ، وبشكل جوهري ، بنمو نمط معين من المجتمع ما بعد الإقطاعي : تطور البحرية والتجارة والصناعة والمال . . . إلخ، و لا يجب فصل العوامل الثقافية عن محيطها المشخص : الرأسمالية الأولى وتطور النظام البنكي ، والتسارع الواضح للتقنية ( التقنية البحرية وتقنية النسيج والمناجم والمدفعية والهندسة والطباعة ) ، الرقي الاجتماعي للمهندسين والفنانين ، والاكتشافات الجغرافية الكبرى والإصلاح والإصلاح المضاد.
من البديهي في الحالة الراهنة أن كثيرا من النقط تظل مبهمة : المؤرخون الخارجيون لا مشكل لديهم بهذا الخصوص ، لكن ليس من العدل في شيء اتهام أبحاثهم بشكل فوري بدعوى أن الوسط للاقتصادي والاجتماعي لباحث ما لا يمكن أن يكون ” سبب ” أو علة أفكاره النظرية . طبعا، وكما يشير إلى ذلك السوسيولوجي ر.ك ميرتون، فإن أبحاث ” جاليلي ” لم تكن ” أسبابها ” التطبيقات الممكنة لعلم الديناميك لديه، ولكن هذا لا يمنع من أنه صرح في بداية ” مقالات حول علمين جديدين ” بما يلي : ” يا له من حقل شاسع للتفكير يفتحه فيما يبدو لي أمام العقول المتصارعة ، الإلتصاق الدائم بمصنع أسلحتكم المشهور أيها السادة الفينيسيون ، وخصوصا حي الأعمال الميكانيكية ! ” وبذلك فقد موضع عمله بدقة ضمن منظور نيدهام أو نظام ميرتون. إن السمة النظرية للعلوم لا تنكر \ن لكن تطبيق العلوم هو موضوع على علاقة مع التطبيقات الاجتماعية الأخرى، والمثاليون يعجبهم أن يلاحظوا أنه لا يمكن استنتاج نظرية النسبية لدى إينشتاين من بيبليوغرافيته، وقد تكون تلك طريقة جد ضيقة لوضع مشاكل تاريخ العلوم في الغرب ، سواء بشان موضوعه أو بشأن منهجه، ومرة أخرى فإن الشجرة تحجب الغابة. من المستحسن أن نسلم ، كفرضية عمل ، بأن العلم ليس فقط هو الإنتاج العقلي للنظريات ، ولكنه في نفس الآن ظاهرة حضارية وممارسة اجتماعية غير معزولة عن بقية الممارسات. إننا نعاني من نقص في تصورات معينة تمكننا من أن نحدد بدقة بعض العلاقات ، وليس في متناولنا بعد إطار نظري كاف لإعادة تأسيس وتثمين مختلف مجادلات تاريخ العلوم ، غير أن محاولات وجدت آنفا ، تؤكد مشروعية وخصوبة الأبحاث التاريخية الخارجية.
إن ألكسندر كويري الذي يعتبر من بين أفضل ممثلي التاريخ الداخلي ، يؤاخذ على كل أولئك الذين ألحوا على دور الحاجات العملية ودور العوامل الاقتصادية ، أنهم سقطوا في ” الأحكام المسبقة البيكونية والماركسية ” [الأحكام المسبقة المادية : بيكون أمبريقي رأى أن كل أفكارنا تأتينا من الحواس ، وماركس رأى أن وعينا تحدده حياتنا المادية] غير أنه هو ذاته لم يكن مستثنى بكل تأكيد من الأحكام المسبقة المثالية. بهذا الخصوص ، فإن الكتاب الذي ألفه كويري حول عصر النهضة ( وحول هندسته ) هو أكثر دلالة: فقد استطاع متعمدا في هذا الكتاب تجنب ذكر أو حتى الإشارة إلى ” برو ” و ” نيليشي ” و لا ” ألبيرتي ” و لا ” بيير ديلا فرانشيسكا ” و لا ” ليوناردو دافنشي ” و لا ” ميركاتور ” و لا كبار البحارة ( على سبيل المثال لا الحصر ) ، وبذلك نفهم كيف استطاع نيدهام أن يقول بصورة غير عادلة و لا واضحة في نفس الآن : ” إن الداخليين لا يحبون التسليم بأن العلوم لها أجساد ، أو أنها تأكل وتشرب وتشارك في الحياة الاجتماعية . .