التصديق والتخييل في القول التاريخي
19 أغسطس 2014 بقلم
توفيق فائزي قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:التصديق والتخييل في القول التاريخي*
نضع عادة علم التاريخ ضمن العلوم التي تسعى إلى مطابقة واقع منفصل عن الأذهان، ويتعلّق الأمر في حالته بواقع الماضي الإنساني. ولكن ما الذي جعل البعض ينسب القول التاريخي إلى جنس الأقاويل التخييلية؟ ما الذي يجعل قولاً ما مخيِّلاً؟ وبأيّ معنى يكون القول التاريخي مخيّلاً؟ ما الدواعي التي دعت إلى اعتباره كذلك؟ وهل يستلزم كونه مخيّلاً ألا يكون صادقاً؟ وهل يعني كونه مخيّلاً ألا يُنتظر منه إعادة إحضار الماضي وتمثيله؟ هل للحقيقة معنى واحد معيارها المطابقة؟ أليس اعتبار معيار آخر للحقيقة في النظر التاريخي يجعلنا نغيّر من أفق ما ننتظره من الأقاويل التاريخية؟ هذه الأسئلة سنحاول الإجابة عنها في هذا القول الذي يسعى بالأساس إلى امتحان الحدود التي يبدو أنها تفصل التصديق عن التخييل في القول التاريخي.
إنّ من المتعارف عليه أنّ القول التاريخي منسوب إلى نوع الأقاويل التصديقية، إذ يرجى منه تصديق واقع محال عليه هو واقع الماضي، لا إلى نوع الأقاويل التخييلية التي يكون القول فيها هو الغاية، فليس يُلتفت إلى ما يسعى القول إلى تصديقه بل يُلتفت إلى القول ذاته. إنّ الوظيفة التخييلية آتية من أن يصير القول ذاته معتنى به، لا من أجل أن يصير وسيلة لإبلاغ رسالة عن أمر خارج القول وهو الأعيان الماضية (في مثال القول التاريخي)، هذا ما بيَّنه استنباط رومان ياكبسون Roman Jakobson الوظيفة الشعرية (التخييلية) من عامل الرسالة التي هي أحد عوامل التواصل الإنساني.
لو كان القول التاريخي قولاً تخييلياً لاكتسب قيمته من هيأته وتأليفه، وإذا كان التصديق كما يبين ابن سينا إذعاناً فأنت تذعن للقول الصادق المطابق للواقع، فإنّ التخييل إذعان لأنّك تتعجّب وتلتذ من القول نفسه
([1]). لا يُلتفت بذلك إلى ما قد يُفترض أنّ المؤرخ قد اعتمده من الآثار التي قام بنقدها ولا إلى ما تدلّ عليه تلك الآثار من الأعيان الماضية من باب أولى، ولا إلى طور التفسير بالبحث عن علل الأحداث، بل يُلتفت إلى طور الكتابة وتحويل الطورين السابقين ـ إن وُجدا ـ إلى أثر مكتوب هو القول التاريخي ذاته. اختيار من هايدن وايت Hayden White ألا يُلتفت إلا إلى ما تركه المؤرخون من آثار مكتوبة، إلى الأقاويل التاريخية ذاتها، هذه العوالم التي تعتبر مكتملة مغلقة مكتفية بذاتها حاملة لدلالة مستقلّة عن الواقع الذي يفترض أنها تمثله أو تقوم مقامه.
([2])ونجد أنّ من مستندات هذا الرأي ما انتهت إليه الدراسات اللغوية الحديثة من اعتبار القول حاملاً لدلالة مستقلّة عن الأعيان، فليس القول مولِّداً للدلالة إلا بسبب وجود اختلاف بين وظائف عناصر بينها علاقات يمكن الكشف عنها داخل القول. إنّ القول كاللغة ذاتيّ الاشتغال ولا يحتاج إلى وجودٍ خارجَه من ذات واقعية متكلّمة تحمل مقاصد، أو واقعٍ يُتحدث عنه.
وفق النموذج الذي يعتبر أنّ القول التاريخي يكسب شرعيته من المطابقة، مطابقة واقع الماضي، تكون المفاضلة بين الأقاويل التاريخية بالاستناد إلى معيار المطابقة، ولكن كيف يمكن تمييز ما الذي سنفاضل بينه في الأقاويل التاريخية؟ هل هي الأقاويل التاريخية ذاتها أم هي الأجزاء/العبارات التي تتشكّل منها الأقاويل؟ ولكنّ تلك الأجزاء لا تحمل معناها كاملة إلا داخل الأقاويل. اللجوء إذن إلى تحليل للأقاويل من الداخل، والمفاضلة ستكون بين أساليب للكتابة التاريخية، يتحوّل المفاضِل إلى شبيه ناقد للشعر مفاضلاً بين الأقاويل الشعرية لا ليبيّن أيّاً منها أكثر مطابقة لواقع مستقل، بل للمفاضلة واختيار ما هو الأحسن تخييلاً وتأثيراً، وهذا ما صنعه هايدن وايت في كتابه "ما بعد التاريخ، التخييل التاريخي في أوربا القرن التاسع عشر".
([3])هناك دواع كثيرة تدعو إلى اعتبار القول التاريخي قولاً تخييلياً، فيبطل بذلك التمييز بينه وبين الأقاويل التخييلية. ويكون الحكم الذي نستسلم له هو اعتبار القول التاريخي إنشاء. فلمّا كان القول التاريخي قولاً فإنه يستدعي نقل ما حدث في القول، وهذا يفتح إمكانيّة اتساع الهوّة بين ما وقع وبين ما هو محكي. إنّ القول التاريخي وقد اكتمل لن يكون تابعاً لما هو خارجه، فهو لا يكون قولاً حتى يستغني بالدلالة التي يستمدّها من اختلاف وظائف العناصر داخله. إن افترضنا كوناً سابقاً للقول التاريخي المؤلَّف يجعلنا نفترض أنّ المؤرّخ اعتمد مادة من الأخبار المتتابعة زمنياً فإنّ هذه الأخبار هي ذاتها أقوال صيغت، وهي بذلك تأويلات لما هي إخبار عنه. إنّ هذا الإخبار يباعد بين ما وقع وبين ما هو إخبار عن ذلك الواقع، وإنّ المؤرخ ملزم باختيار ماض دون آخر يعتبره مستحقاً أكثر للعناية، وبانتقاء أخبار دون أخرى عن ذلك الماضي، أخبار هي ذاتها أَخبرت بصورة دون أخرى، وهي أخبار عن وقائع دون أخرى.
قد يمنح المؤرخ تلك الأخبار صورة حكائية، فهو لن يسرد الأخبار دون أن يسمو بتلك الأخبار إلى مقام القصة (الخرافة، Mythos) فيجعل لها أولاً ووسطاً ونهاية
([4]). رغم أنّ بعض الأقاويل التاريخية لم تبلغ مقام القصص التاريخية، إذ مرّ زمن كانت تسرد الأخبار سرداً، وكانت الوحدة الجامعة للأخبار هي زمن ما، وهذا الذي جعل أرسطو يضع الأقاويل التخييلية فوق القول التاريخي. يقول أرسطو ناصحاً صنّاع القصص ألا يقعوا فيما يقع فيه المؤرخ: "وينبغي ألا يكون نظم الحوادث كما في التاريخ، حيث يلزم ألا يمثل فعل واحد بل زمن واحد، فتستقصى الحوادث التي وقعت في هذا الزمن لفرد أو جماعة.."
([5])وقد يرتقي المؤرّخ إلى مقام طلب أسباب الحوادث وعللها، فلن تهمّه الأحداث وسرد هذه الأحداث بل حتى تحويلها إلى قصّة، وهذا ما حدا بالبعض إلى تغليب أسلوب التفسير في أقاويلهم التاريخية على حساب أسلوب الحكي أو منح مادة الأخبار صورة قصّة. وإذا كان البعض يعتبر أسلوب التفسير مستقلاً عن أسلوب الحكي، أسلوب يستحقّه القول التاريخي كغيره من الأقاويل العلميّة كما هو شأن مدرسة الحوليات Ecole des Annales التي اعتبرت الحكي أسلوباً متجاوزاً، وحطّت من شأن الأحداث التي تقع في ظرف زمني قصير، ومن شأن السياسي وهو الذي أُعلي من شأنه في الأقاويل التاريخية التقليدية
([6]), فإنّ البعض اعتبر أسلوب الحكي مستغنياً عن التفسير إذ هو نمط خاص من التفسير فبمجرد الحكي يبدأ التأويل.(
[7])ويرتقي هايدن وايت سلالم أخرى ليزيل الحدود بين القول التاريخي والأقاويل التخييلية، انطلاقاً من تحليله للأقاويل التاريخية في القرن التاسع عشر، فيتحدّث عن مستوى آخر يرتقي إليه القول التاريخي وهو في طريق كماله، وينكشف في هذا المستوى نوع القصّة التي حبك المؤرخ أحداثها بصورة خاصّة، فالأحداث ذاتها يمكن أن تعرض بصور متنوعة فتجعلها تنكشف إمّا عن قصة تراجيدية أو رومانسية أو كوميدية أو ساتيرية (Satiric)، يتعلق الأمر هنا بكيفية جعل الأحداث حاملة لمعنى كلّي، فتصطبغ بصبغة خاصة.([8])
ويتحدّث هايدن وايت عن مستوى آخر يُفسَّر فيه سبب كون الأحداث بتفسير خاص، فيمنح للأحداث صورة منطقية، وليس هذا المستوى سوى مستوى التفسير الذي سبق أن ذكرناه، إلا أنّ هايدن وايت يتكلم عن أنماط كثيرة، ويميّز أربعة مثالات للصورة التي يأخذها التفسير التاريخي باعتباره قولاً استدلالياً: الشكلي والعضوي والآلي والسياقي.([9])
وأمّا المستوى الذي يبرز منه الموقف العملي للمؤرخ فهو الذي سمّاه هايدن وايت بالتفسير من خلال الاستلزام الإيديولوجي، ويعرّف الإيديولوجية بأنها مجموعة من الأوامر قصد اتخاذ موقف في حاضر عالم الفعل الاجتماعي والتأثير فيه
([10]). وهنا تبرز خاصيّة من خصائص القول التخييلي عامة، فالقول المخيل، لأنّه مخيل، يبعث على الفعل أو الترك، ولسان حال القول التخييلي: ما دام الأمر كما أخبرك به فوجب أن تفعل كذا ولا تفعل كذا، والأمر ليس كما يخبر به بل كما يخيّله. ويميّز هايدن وايت بين أنواع أربعة من المواقف التي يمكن أن تُتخذ إيديولوجياً: الفوضوية، وإيديولوجية المحافظة، والراديكالية، والليبرالية
([11]). وهو يستند في هذا إلى كتاب كارل مانهايم: "إيديولوجيا ويتوبيا".
وأخيراً يشتدّ تخييل القول التاريخي بالصور البلاغية المستعملة، وهي ليست صوراً لمجرّد التزيين، وليس معنى القول التاريخي مكتملاً قبل استخدام هذه الصور، فهي تسهم في إيجاد المعنى وتكوينه([12]). وتتحوّل ذات المؤرخ بالقول التاريخي إلى تابع لغوي: ضمير من الضمائر اللغوية لحكاية القصة، فإمّا أن يستعمل ضمير المتكلم في الحكاية، أو يبتعد تاركاً ظله، فيختار ألا يتحدث عن نفسه بذلك الضمير.
تلك إذن بعض الدواعي التي تدعو إلى اعتبار القول التاريخي قولاً تخييلياً، واعتباره كذلك يستند إلى حمل تصوّر خاص للحقيقة لا يعتبرها مطابقة، والنموذج المستوحى هو النموذج الخطابي لا البرهاني للحقيقة، وتعتبر الحقيقة بذلك إنشاء وليست إخباراً، وليست تعيد إحضار أمر كان حاضراً خارج الأذهان. المعيار هو التأثير البالغ في النفوس. وهو الإقناع لا اليقين. والغاية البعث على الفعل أو الترك. ولكن هل يستلزم هذا ألا صدق في القول التاريخي المخيل فيكون التقابل بين التخييل والتصديق تقابل الأضداد. يمكن أن نتحدث عن صدق في التخييل ليس بمعنى مطابقة واقع مستقل عن الأذهان (الأعيان الماضية)، بل صدق وعمق التعبير عن الحقيقة الإنسانية أو تصديق معنى إنساني نكتشفه بصورة بعديّة في الأحداث، وهذا يجعل القول التاريخي متناسباً مع الأقاويل التخييلية الأخرى (الرواية والقصص المسرحي...)، وهذا الذي جعل أرسطو يعتبر القصص التخييلي أشرف من التاريخ وأقرب إلى الفلسفة. ونجد حديثاً من اعتبر من الباحثين كمارك أوجي Marc Augé أو الروائيين ك ستوندال Stendhal الرواية أصدق من التاريخ
([13]) ولكن هل يستلزم هذا أنّ الإخبار عن واقع الأعيان الماضية لا يضيف شيئاً إلى ما نحمله قبلاً من الصيغ التي تحمل معنى مستقلاً عن "الوقائع" فنحملها هذه "الوقائع" ليكتمل المعنى أكثر؟ أليس التصديق بمعنى المطابقة مراعى في القول التاريخي ليتميز عن الأقاويل التخييلية الأخرى أو يتميز عن الأقاويل التخييلية فيكون قولاً تصديقياً؟
إنّ الأمر يتعلّق برجاء، فالمنتظر أن يكون القول التاريخي تابعاً لما يفترض أنه كان في الماضي ولم يعد كائناً ولم يترك وراءه سوى آثاره الدالة، وتلك الآثار تشير إلى ذلك الحاضر أثراً والغائب عيناً، فاستنباط المعاني العميقة يكون منه لا من ماض مختلق. وهذا يعني أنّ المعاني العميقة المستنبطة والصور التي نُحمِّلها لا يُتوصّل إليها خارج الأخبار عن الماضي الذي اخترنا أن نجعله للنظر، وهذا يجعلنا نكتشف معنى دون آخر ونجد صورة لتصويره أنسب دون صور أخرى. هل لأنّ الواقع يتضمن في ذاته معاني مستقلة لا نسعى إلا إلى الكشف عنها أم أننا نحن من نحمله معاني ونصوره في صور سابقة؟ قد يكون الاتفاق على أنّ حدثاً ما صادق أو كاذب مما لا يستدعي خلافاً، وقد يكون تفسير وقوعه مما لا يستدعي خلافاً كبيراً، ولكن كلّما توغلنا في التأويل والغوص على المعاني العميقة اتسع الخلاف واحتجنا إلى منطق مشتبه، لا يُصدِّق ولا يُكذِّب وهذا هو التخييل نفسه. إنّ اعتبار معيار التصديق بمعنى اختيار أحد الحكمين: صادق أم كاذب يجعلنا نميز أفضل ما ينتسب إلى القول التاريخي مما لا ينتسب إليه. وهذا لا يعني أننا سنقيم حدوداً فاصلة (في أذهاننا) بين أجناس الأقاويل، ونفضل أن نتحدث عن برازخ بدلها، وعن صيرورات داخلها تجعلها غيرها.
ويمكن بهذا أن نجعل الصدق بمعنييه بغية الأقاويل التاريخية إلا أن ما منها كان قصده أكثر أن يقرّ بالوقائع الماضية كان الصدق بمعنى المطابقة هو المقتضى، وهذا لا يعني أننا لا نجد نسبة للتخييل في ذلك التصديق ومخالطة له إياه منذ البدايات، فالتأويل لا ينفك عن القول حتى ما هو عبارة عن أخبار عن وقائع، وكلّما كان الأثر مشيراً للعين الماضية مباشرة دون توسط القول كان مصدقاً أكثر. وكلما كان القصد أن نمنح المعنى لما افترضنا أنه واقع الماضي، وأن نصور مادة الأخبار صوراً نختار تحميلها تلك المادة، وأن نصوغ مادة الأخبار صياغات ترتقي في تحميل معنى شمولي فيرتقي القول التاريخي ليصير فلسفة للتاريخ، كان الصدق الناتج عن إصابة معنى إنساني عميق هو المقتضى. وفي كلتا الحالتين لا ينفك القول التاريخي من الحثّ على فعل في الزمن الحاضر، ولذلك يرتبط بالقول التاريخي آثار عملية، ويُنتظر منه الدفع في اتجاه إقرار عدالة غائبة بوساطة إعادة الاعتبار لماضي جماعة تعاني من ظلم حاضرها. ويبقى السؤال: ما الذي يجعلنا ننشئ أقوالاً تاريخية، هل من أجل الحقيقة؟ ولكن بأي معنى؟ إذا كان مجرد خبر كافياً لأخذ العبرة للحاضر كان تصديقه يحمل كلّ ما ننتظره من القول التاريخي، فتستلزم الحقيقة أن نعيد إحضار ذلك الماضي، ويكون العمل الشاق للمؤرخ هو تحقيق الخبر، وقد يشقى المؤرخ بعد التحقيق للتفسير. إلا أنّ الحقيقة تكون أحياناً أخرى بعمل شاق لاستنباط دلالة من كلٍّ نفترضه مكتملاً لأنّ له بدايةً ووسطاً ونهاية، وهنا تكون الفاعلية للمؤرخ المؤول ولمفاهيمه وللأشكال التي يصوغ بها مادة الأخبار. ويرتقي المؤرخ ليصير فيلسوف تاريخ، ويكون بذلك المؤرخ منشئاً لقصة ولتأويل قد يصل إلى تأويل شامل لتاريخ الإنسانية. تصير الحدود بذلك مشتبهة بين القول التاريخي والأقاويل التخييلية، ويكون للحقيقة بهذا المعنى مقتضيات تجعلنا لا نكفّ عن تأويلِ ما نفترض أنه أعيان ماضي الإنسانية الذي يمدنا في كل حاضر بمعان جديدة، لنمنح له وجهة أفضل.