النُّخَبُ المغربية وإشكالية حرّية المُعتقد
03 سبتمبر 2014 بقلم
مصطفى النحال قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:ترجمة مصطفى النحال لمقال "النُّخَبُ المغربية وإشكالية حرّية المُعتقد" للباحث محمد الصغير جنجار
يتمحور هذا البحث حول "حرّية المعتقد" في علاقتها بمواقف النّخب المغربية السّياسية والمدنية، وإذا كنتُ قد فهمت جيّدًا طلب "مجموعة الديمقراطية والحداثة"، فإنّ الأمر يتعلق بمُساءلة هذه النخب عمّا تعنيه عبارة "حرّيّة المعتقد" في استراتيجية اشتغالهم ومنطقهم الاستدلالي، وكذلك عن المكانة التي تحتلّها هذه الحرية من منظورهم، ورؤيتهم للحرّيات الأساسية، وللدّين والديمقراطية، ولدولة الحقّ والقانون.
يتعلق الأمر، بعبارة أخرى، بالنظر في السّياق الدقيق للفُصول الأخيرة من الدّستور الجديد الذي هو ثمرة النتائج المحلية لـ"الرّبيع العربي"، كما هو معلوم، إلى ما كان ينقصُ لكيْ لا تتحقّق القفزة النوْعية التي كان من شأنها إدْراج حرّية المعتقد في مشْروع إصْلاح الدّستور. وهذا يؤدي إلى طرْح السؤال التالي: ما الذي أدّى، في فكر النّخب السياسية وثقافتها، وفكر وثقافة المجتمع المدني المغربيّ، إلى أشْكال التردّد والانْحصار على عتبة حرّية يعتبرها الجميع أمّ جميع الحرّيات، وذلكَ بالنظر إلى التجربة التاريخية والسياسية للمجتمعات الغربية التي انتزعتْ هذه الحرّيّة مقابل مآسِ إنسانية كبيرة، وهي الحرية التي هيأَ لها دخول عهد الإصلاحات الدينية وعهد التسامح والتعدّد الرّوحي والدّيمقراطية؟
يمكن للمرء أن يتساءل عن درَجة الانسجام والمُلاءمة في "الاختيار الذي لا رجْعة فيه بخُصوص بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون"، وفق ما تمّ التعبير عنه في "تصدير" الدستور المغربيّ الجديد، بعيدًا عن الاعتراف بالحرّية الأساسية التي تنصّ عليها المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تعلن أنه: "لكلّ شخص الحقّ في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سرّاً أم مع الجماعة." هذا الإعلان الذي يحضر في الدستور المغربيّ مرجعيّةً أساسيةً. كما أنه من الضروريّ التساؤل عمّا إذا لم يكن المغرب قدْ أضاع فرصة تاريخية لاسْتباق التحدّيات الكبيرة التي يتعيّن عليه بالضّرورة مواجهتها، على المدى المتوسّط، بالنظر إلى ما يعرفه المجتمع المغربيّ من تطوّرات وديناميّات على خلفية عوْلمة لا ترحم، تفرض على كلّ المجتمعات المعاصرة، مهما كانت طبيعة ثقافتها، العمل على تدبير عادل وعقلانيّ للتنوع الرّوحي والدّيني. تلكمْ بعضٌ منَ الأسئلة التي أقترح الإجابة عنها في ضوْء السياق الاجتماعيّ والسياسي والمؤسسيّ المغربي.
حرّيّر المُعتقد: عودة المكبوت
لنبدأ بتوضيح المعطى التالي: إنّ النقاشَ العامّ حوْل قضيّة حرّية المعتقد لم يتمّ دون شكّ نظرًا لانعدام الشّروط السياسية والفكرية اللازمة. فالبعضُ يريد إدراجَ مبدأ حرّية المعتقد في مقتضيات القانوني المغربي رغْبة منه في إصلاح سريع من شأنه تفادي نقاش فكريّ وسياسيّ صعب وغير متوازن. بينما يجد فيه البعض الآخر فرصة إضافية لتوظيف المشاعر الدينية من أجل تحقيق هدفيْن اثنيْن، هما؛ مضاعفة آيات الولاء والحصول على ثقة "أمير المؤمنين" من جهة، توسيع مساحات حضورهم السّياسي في أفق الانْتخابات التشْريعية القادمة السّابقة لأوانها، من جهة أخرى.
سأحاولُ أنْ أركّز حديثي حول اعتراضيْن اثنيْن كبيرين استعملهما الجانب الثاني لرفضه تبنّي حرية المعتقد والطابع المدني للدولة، وذلك خلال الأيّام الأخيرة التي تلتْ تقديم النسخة النهائية من الدستور. أما الاعتراض الأوّل، فذو طابع مؤّسّسي: وهو يستند إلى القول بأنّ حرية المعتقد ليستْ ممكنة، ولا يمكن التفكير فيها إلاّ في إطار دوْلة مدنية، محايدة وعادلة ومنصفة في علاقاتها مع مختلف الدّيانات والفلسفات والتصوّرات الرّوحية التي يعتنقها مواطنوها. ومنْ ثمّ، فإنّه إذا تنازلت الدولة المغربية عن صفتها الإسْلامية، فإنّ ذلك قدْ يقوّض بصورة آلية المبْدأ الذي تتأسّس عليه شرْعية إمارة المؤمنين.
ما هي المسلّمات المتحكّمة بهذه الحجّة التي تتكرّر بصورة مطّردة كلّما تعلّق الأمر بالتقدّم على طريق التحديث المؤسساتي؟ لنؤكد أوّلاً أنّ هذه النظرة للأمور تعتمد على قراءة معيّنة للبيْعة يطلق عليها عبد الله العروي اسْم "القراءة الهوبزية"1، التي تتعارض مع قراءة أخرى، موجودة بدوْرها في الثقافة السياسية المغْربية، والتي يمكن وصفها بـ"القراءة الرّوسوية"2. وهكذا، فإنّ البيْعة، بالنسبة لأصحاب القراءة الأولى، معناها "احتفال استعاديّ لفعْل بدْئيّ وهبتْ الجماعة بواسطته نفسها جَسَدًا وروحًا مرّة واحدة إلى الأبد". ومن ثمّ فالتعاقدُ السياسي الذي تمثله البيعة يصبح نوعًا من التكرار اللانهائيّ لفعل تأسيسيّ ضارب في القدم، فعْل لاتاريخيّ وغير مكتمل. هذه المسلّمة القائمة على بيْعة رمزية، باعتبارها محضَ استذكار واستعادة للفعل التأسيسيّ الأوّل، والمتمثّل في "بيعة الرّضوان"3، قدْ تكون منْسجمة إلى حدّ ما في سياق النّظرية الكلاسيكية للإمامة أو الخلافة، كما هو الحال في خُطب هيئات يُفترض فيها تمثيل رجال الدّين التقليديين؛ من مثل الحكومة ناتجة عن انتخابات، والمجلس الأعلى للعلماء. غير أنّ مثل هذه المسلّمة تفضي إلى الباب المسدود في خطاب الفاعلين السياسيين، أمثال حزْب العدالة والتنمية، الذين يطالبون، بدورهمْ، بتحقيق ديمقراطية سياسية، وبإعادة التوازُن إلى سلطات الملك.
إنّ توظيف السّجلّين، التقليدي والديمقراطي، تكذّبه الوقائع، كما اتّضح من الإصلاح الدّستوري الأخير. أَلَمْ يُبرز هذا الإصلاحُ أنّ المَلكيّة، شأنها في ذلك شأن جميع المؤسسات السياسية، تتطوّر وتتكيّف بصورة فعليّة. وينبغي التشديد، على صعيد آخر، على كوْن التجْربة التاريخية للعديد من الأنْظمة المَلكيّة في العالَم توضّح، بصورة لا غُبار عليها، كيف نجحتْ هذه لأنظمة في التلاؤم والتكيّف مع دول ديمقراطية تحترم التعددية الرّوحية وتنوّع الديانات، مع بقائها وفيّة لتقاليدها العريقة التي تسند للملك وظيفة القائد الدّيني الأعلى، المكلّف بتدبير الحقل الديني وتعيين الشخصيات الدينية العليا. تلك هي وضعية كلّ من بريطانيا والدانمارك والنرويج وأيسلاندا.
وبتعبير آخر، فإنّ التطوّر التاريخيّ للمؤسسات المغربية والتجربة السياسية للأنظمة الملكية عبْر العالم، كلاهما يناضل من أجل بناء دولة مدنية تحقّق درجة معينة من الحيادية إزاء الرؤيات المتعددة للخيْر الأسمى المُتنافَس عليه داخل المجتمع.
أمّا الاعتراض الثاني، فذو طابع ثقافي ديني، وهو يزعم أنّ من شأن الإصلاحيْن المشار إليهما سابقًا، أقصد الدولة المدنية وحرية المعتقد، تمهيد الطريق نحو نزع صفة الإسلام عن المغاربة من اللحظة التي لا يصبح فيها الدّين محميًا بقوّة القانون وبالسلطات العمومية. ومن ثمّ، فإنّ أعدادًا كبيرة من المغاربة المسلمين سيستسلمون لغواية اللاأدرية، بل لإغراء الإلحاد، أو سيستجيبون للدّعوات التبشيرية التي تحملها جماعات مسيحيّة يهدف نشاطها الديني إلى خلْق أقلّيّات دينية فوق الأراضي الإسلامية بهدف استعمالها للوصول إلى أهداف سياسية.
وغالبًا ما يجد هذا الاعتراض صدى له لدى فئات شعبية عادة ما يتمّ شحْنها، من طرف وسائل الإعلام العربية على وجْه الخصوص، بأفكار تتعلق بخطابات صراع الأديان وصراع الحضارات. وفضْلاً عن أنّ مثل هذا الكلام ينطوي على ازدراء ظاهر للقناعات الدينية للمغاربة، الذين يُعتبرون ضمنيًّا منافقين لا ينتمون إلى الإسلام إلا تحت الضغط والإكراه، فإنه يعبّر عن جهْل عميق بتاريخ وسوسيولوجية الدين في المغرب. ويقتضي مثل هذا الخطاب المتواتر التوضيحات التالية:
التبشير والدعوة؛ وجهان لعملة واحدة:
أبرزت أبحاث عديدة كيف أن الخطاب التخويفي حول التبشير المسيحي، أو الخطاب الذي راج حديثًا عن التهديد التنْصيري في المغرب العربي بصفة عامة، من جهة، والخطاب الذي ينادي بضرورة تكثيف نشر الدعوة، من جهة ثانية، يعملان وجهان لعملة واحدة. إن الجدالات العرَضية حول مختلف تدخّلات الجماعات التبشيرية في الأراضي العربية، والتي لا ترقى إلى الأهمية التي تعطى لها، تبدو بمثابة العنصر الذي تتجلى وظيفته الأولى في تبْرير النشاط الداخلي للدعوة. وبتعبير آخر، إنّ الخطابَ حول التبشير الذي يقوم به المبشّرون المسيحيّون، يندرج أكثر في استراتيجيات بناء الهويّة أكثر مما يصف وقائع حقيقيّة.
وقد سبق للمؤرّخ محمد قنبيبْ الذي اشتغل على الأرشيفات المغربية من عشيّة الحماية إلى ما بعد الاستقلال، أنْ أشار إلى هذه المفارقة: "من جهة، عدم أهمّية الأعداد التي غيّرت ديانتها، ومن جهة أخرى، ثقل السياق السياسي والديبلوماسي والسوسيو اقتصادي للمراحل التي شغلت فيها الظاهرة الساحة العمومية، وكذا ثقل الهيجان الذي أثاره الاهتمام الذي أوليَ لـ"الذين يدفعون الناس إلى تغيير ديانتهم". علاوة على ذلك، أبرز محمد قنبيب تلك المفارقة الموجودة، من ناحية، بين العدد الضئيل للمغاربة، من مسلمين ويهود، الذين اعتنقوا الديانة المسيحية، ومن ناحية ثانية أهمّية العمل الذي قامت به البعثات في ميدان التّمدرس، وتقديم المساعدات الطبية للمرضى، واستقبال الأطفال المُتخلّى عنهم واليتامى، وفي المجال الخيْريّ عموماً.
العولمة ودنْيَوَة الهوّيّات:
أبرزت أبحاث علمية أخرى، أنّ فهم ظواهر اعتناق ديانة أخرى عمومًا، في عالم اشتمالي كعالمنا، لم يعدْ مفهوم "التبشير" كافيًا للتعبير عنها. إن مثل هذه الظواهر باتت تتوافق مع حقيقة معطى اجتماعي أوسع وأعمق يمكن أن نطلق عليه اسم "دنونة الهويات". ومعنى هذا أنّ الهويات القوية من الناحية الاجتماعية، في المجتمعات الحديثة، كالهوّيّات الدينية، لم تعد تعمل باعتبارها نتيجة لإرْث مفروض على الأفراد، بقدر ما باتت تعتبر بصورة متزايدة ثمرة ديناميات متّصلة باختيارات فرديّة. إنّ حركيّة الأشخاص والأفكار، التي تطبع الأزمنة الحالية، والتعددية الملازمة للثقافة الحديثة، نتج عنهما أنّ أيًّا من الديانات الكبرى لم تعدْ تعتبر ديانة أخرى أو خارجة بصفة كلّيّة. وهذا يساهم في فكرة أنّ حركيّة الهوّيات المتداخلة، أو تغيير الديانة، لم يعدْ ينطوي على بُعد القطيعة الخارقة النهائية الشاذة، ولا على الطّابع الدّرامي كما كانَ الأمر في الماضي. إنّ اعْتناق ديانة الآخر، بتعبير آخر، في ضفّتيْ المتوّسط، لم يعدْ بالنسبة للعديد من المسيحيّين أو المسْلمين تغيْيرًا للعالم الثقافيّ أو الرمزيّ.
ألَمْ تبيّن الأعمال المنجزة حول مسألة تديّن المغاربة المفعول العميق الذي تمارسه ثورة تكنولوجيا الإعلام والاتصال على ظهور تعدّدية داخل الإسلام، وكذا على نشوء نزعة فردانية في الاختيارات الدينية، والتراجع المتنامي لدور المؤسسات التقليدية للتنشئة الدينية؟ ومن حق المرء، في مستوى آخر، من حقّ المرء أن يتساءل كيف باتت الأنظار تتجه، بشكل متزايد، إلى بلد، مثل تركيا باعتباره أنموذجًا للدّمقرطة السياسية وللنجاح الاقتصادي والاجتماعي، وذلك دون الرغبة في التفكير بأنّ هذا البلد قد نمط تدبير لاّئكي في علاقات الدولة بالدّين. فهل أصبح الشعب التركيّ أقل إسلامية من سائر شعوب منطقة الشّرق الأوسط؟ وهل استسلم لإغراء "اللاّأسلمة" والتبشير؟ إن حيوية الإسلام في تركيا دليل على تبديد ودحض كلّ الأحكام المغلوطة، سواء أكانتْ صادرة عن حسْن نيّة أمْ بنيّة مبيّتة.
النخب المغربية والمسألة الدينية:
إن الثقافة السياسية للنخب المغربية مسؤولة، في جانب كبير منها، عن غياب حوار مجتمعيّ واسع حوْل قضيّة حرّية المُعتقد، وحوْل مكانة الدين في الآلية الاجتماعية والسياسية بصفة عامّة. وتبيّن العودة إلى التاريخ السياسيّ الحديث، بالفعْل، أنه بُعَيْدَ الاستقلال أصبحتْ الشؤون الدينية، أو السياسية الدينية، حكْرًا على الشريحة التقليدية لنُخب مراقَبة ومُسيَّرة من طرف السلطة المركزيّة. لنذكر، على سبيل المثال، بعض اللحظات الأساسية والمفْصلية التي نُسجتْ خلالها خيوط السياسي والدّيني:
-وُضعت أوّل مدوّنة للأحوال الشخصية سنة 1957، وباستثناء بعض المقترحات التي قدّمها علال الفاسي، ولم تؤخذ بالاعتبار، ما تعلّق منها بتعدّد الزوجات والنفقة خاصة، فإنّ مختلف مكوّنات النّخبة الوطنية ظلّت غيْر مكترثة ولا مبالية بما كان يُهيَّأ داخل اللجنة المكلفة بتحرير المدوّنة. وممّا زاد في غرابة هذا الوضْع أنّ الجناح اليساري لحزب الاستقلال والحزب الشيوعيّ حَضَرَا، في تلك الفترة بالذات، مراسم تطبيق قانون تحديثيّ في تونس بتأثير وإيعاز من الرئيس بورقيبة.
-قرّر محرّرو أوّل دستور مغربيّ تضمينه الفصل 19 سنة 1962، والمتعلق بـ"أمير المؤمنين" دون أدنى مقاومة، وذلك على الرّغم من التبعات السياسية المحتملة، والمشاكل التّيوسياسية الكبيرة التي يخلقها هذا الفصل للتقليد السّنّي.
-نُشرتْ نتائج أشغال اللجنة الخاصّة بالتربية والتكوين سنة 199، التي أفضتْ إلى "الميثاق الوطني للتربية والتكوين". وقدْ تجنّب هذا الميثاق أنْ يحسم بشكل واضح وصريح في شأن القيم واللّغات أو المضامين الثقافية، وبالتالي لجأ إلى وضع اختيارات متضاربة بعضها إزاء بعض. ومرّة أخرى يتغلّب الإجماع الضبابيّ على الاختيارات السياسية والثقافية الواضحة. وبعد عقْد من الزّمان، اتّضح أنّ الطريق التي سلكناها لا تفضي إلى مخْرج، وبالتالي اضْطُررْنا إلى اعتماد مخطّط استعجاليّ.
ويمكن، في ضوْء التاريخ السياسي للمغرب المستقلّ، وفي سياق تحليلات عبد الله العروي، اعتبار أنّ المسألة الدينية ظلّتْ، منذ بداية الستينيات، الحقل الخصوصيّ للسلطة الملكية. إن المسألة الدينية، التي صارت للنّخب المغربية، سواء أكانتْ في السلطة أمْ في المعارضة، ملتزمة داخل الأحزاب السياسية أم ناشطة في المجتمع المدنيّ، ظلّت لمدّة طويلة داخل المسكوت عنه واللاّمفكّر فيه، وداخل إطار المكبوت بعيدًا عن أيّ نقاش أو تفكير سياسييْن. وأمام انعدام مواقف سياسية واضحة، يسود نوع من الإجماع الرّخْو، بلاغة جوفاء تتغنّى بخصوصية دينية مُتخيّلة، في اللحظة ذاتها التي يبدو فيها أنّ العولمة تنتج وتنشر فَوَرَانًا دينيًّا غير مسبوق، يتخطّى الحدود والتقاليد الثقافية القديمة في الآن ذاته.
على سبيل الختْم:
في مطلع القرن الواحد والعشرين، وتبعًا للتحوّلات العميقة التي عرفها المجتمع المغربيّ، وللإصلاحات السياسية الكبرى التي تحققتْ، يجدر بالمرء أنْ يتساءل عمّا إذا لم يكن محكوم على النخب المغربية بالرّكون إلى السّبات الدوغمائي للتقليدانية. ذلك أن المسألة الدينية هي من الجدية دون شكّ حتى نتركها بين أيْدي إيديولوجييّن منشغلين بتوظيفها السياسيّ. لذلك، فإنّ النّخب والقوات الحيّة في البلاد ستربح الشيء الكثير حين تتولىّ، من خلال نقاش هادئ وعقلانيّ، إشكالية حرّيّة المعتقد. فهذه الأخيرة ليست على الإطلاق قضيّة مغلوطة، ولا هي مطلب لأقليّة علمانية متعصّبة ومنفصلة عن الواقع الثقافي والشعائريّ للمجتمع المغربيّ، كما تزعم بعض الدعوات المُغرضة.
فبماذا يتعلق الأمر على وجه التحديد؟ وما هي الرهانات الحقيقية لمبدأ حرية المعتقد في السياق المغربيّ؟
إنّ المجتمع المغربيّ، على غرار باقي المجتمعات المعاصرة، يوجد تحت ضغط التأثيرات القويّة للعولمة، وهي تأثيرات تضع على المحكّ الصّعب الصيغ التقليدية للتنشئة الاجتماعية، ولإعادة الإنتاج الثقافية. فالانفتاح على العالم، وثورة وسائل الإعلام والاتصال، وحركيّة الأفراد والأفكار والمنتوجات وأساليب العيش، وارتفاع مستوى تعلّم المواطنين، كلّها عوامل تجعل اليوم من التنوّع الثقافي واحدًا من المعطيات الأساسية للمجتمعات المعاصرة. ومن أجْل بناء أو تعزيز عيْشها الجماعي الديمقراطي، فإنّ المجتمعات الحديثة لمْ تعد تقتصر على تنظيم اللعبة الانتخابية والفعل السلمي المتمثل في المنافسة الانتخابية داخل هذه اللعبة. يتعيّن عليها، كذلك، خلْق وإنشاء الإطار القانونيّ والمؤسّسي الكفيل بإعطاء ضمانة للتدبير العادل للتنوّع الروحي الذي يطبعها.
إنّ الأمواج القادمة لمسار العولمة الذي لا يرحم سيحمل تحدّيات كبيرة، وليس من الضروريّ أنْ يكون المرء باحثًا أنثروبولوجيًّا لكيْ يلاحظ أنّ التعبيرات التقليدية للإسلام المغربيّ، العالم أو الشعبيّ، لمْ تعدْ تغطّي شمولية ومجموع حقل التجربة الدينية للمغاربة. لقد ظهرت في محيطنا الثقافي تعبيرات جديدة: كالصوفية الجديدة، والسلفية، والتشيّع...إلخ. ومن ثمّ فالمغاربة، مثلهم مثل معاصريهم عبر العالم، باتوا يميلون على نحو متزايد إلى تبنّي تمثلات متنوعة في العالم المعاصر، وتبنّي أنماط قيميّة مختلفة غير متوافقة أحيانًا. إن حيوية مشروع المجتمع الحديث ستقاس بقدرة الديمقراطية المغربية على هيْكلة هذا التنوّع، وذلك بالسّماح للمواطنين بتعلّم التعاون من أجل تسوية اختلافاتهم ونزاعاتهم بوسائل سلميّة. بهذه الوسائل يقاس الطابع المدنيّ للدولة، وحياده النسبيّ إزاء مختلف التصوّرات، واحترام الحريات الأساسية، حرية المعتقد والحرية الدينية، على وجه الخصوص، وإعادة مركزة الحياة السياسية حول المصالح المعقولة والمبادئ المُشتركة التي يتضمّنها القانون الأساسي؛ الدستور، وذلك بعيدًا عن أيّة حرب للقيم.
1.يعتبر هوبزْ العقدَ الاجتماعيّ، نسبةً إلى الفيلسوف الإنجليزي طوماس هوبز (1588-1679)، تعاقدًا وهميًّا نشأ عن اتفاق بين الأفراد أو بين البعض منهم. وبموجب هذا الاتفاق يتنازل الأفراد عن جميع حقوقهم لفرد واحد. وهذا الفرد حرّ التصرف في استخدام القوة. والأفراد يفعلون ما هو مطلوب منهم ومرغمون على عمل ذلك، لأن الفرد الذي تنازلوا له عن حقوقهم يملك وسائل القوة والقهر، ومن يخرج عليه يقابل بالعقاب. وبذلك يستطيع فرض سلطته وتحقيق الاستقرار في المجتمع. وبهذا يصبح الفرد، الذي يملك القوة والقهر "ليفياثان"، أي الرئيس الأعلى للجماعة الذي يجمع بيديه جميع السلطات ويدين له الكل بالطاعة المطلقة، فهو الملك المستبد الذي "لا يمثل طرفًا في العقد"، له الحق في أن يفعل ما يشاء دون حساب وليس لرعاياه الحق أن يسلبوه ما قد وهبوه آو نزع السلطة منه تحت أي ظرف من الظروف.(المترجم)
2.نسبة إلى جان جاكْ روسو الذي يعتبر الحرية هي مصدر الحق، وإذ إن النظام الاجتماعي ليس هبة الطبيعة للإنسان، لذلك فالحرية المنبثقة من الطبيعة البشرية لابد أن تصبح من سمات الحالة الاجتماعية، لذلك لا يمكن لأيّ حكم أنْ يقوم على حق الأقوى، إذ إن القوّة طاقة جسدية لا تؤدي إلى الحق. ومن ثمّ فالأساس الذي يقوم عليه الحق هو الاتفاق والميثاق. فعن هذا الاتفاق ينشأ المجتمع، ولذلك فإن العقد الاجتماعي، بالنسبة لروسو، هو الشرط الأساسي لكل سلطة تريد أن تكون شرعية. وهذا يدل على انتقال التطور التاريخي من حالة الطبيعة إلى المجتمع المدني، فـ"إن ما يخسره الإنسان من جراء العقد الاجتماعي هو الحرية التي كان يتمتع بها في الطبيعة والحق اللامحدود...وما يربحه بالمقابل هو الحرية المدنية, فيكتسب بذلك الحرية الأخلاقية" (المترجم)
3.بيعة الرضوان هي البيعة التي بايع فيها الصحابة النبي محمد عام الحديبية على قتال قريش، وألا يفروا حتى الموت، وسببها ما أشيع من أن عثمان قتلته قريش حين أرسله النبي إليهم للمفاوضة، لما منعتهم قريش من دخول مكة وكانوا قد قدموا للعمرة لا للقتال، وسميت بيعة الرضوان لأن الله رضي عنهم بها، وكان عددهم نحو ألف وأربعمئة صحابي، وهذه البيعة هي المذكورة في النصّ القرآني: "لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً" "سورة الفتح:18" (المترجم).
4.لقد فضّلتُ النحت اللغوي "دنْيوة"، مقابلاً للمصطلح الفرنسي « sécularisation »، الذي يترجمه البعض خطأً بـ"علمانية" أو "لائكية". وذلك لأنّ المصطلح الفرنسي يشير إلى كل ما له علاقة بالزمان والوقت والدهر والدنيا، ومن ثمّ يعني تلك العملية التي تجعل العالم والتاريخ والمؤسسات خاضعة لمنطق دنيوي بدون مرجعية دينية واحدة وموحّدة. (المترجم)