19 ديسمبر 2013 بقلم
مولاي عبد الصمد صابر قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:في هذه الأيام، وبعد النهاية المأساوية التي شهدتها التجربة الديموقراطية الفتية في دولة مصر الشقيقة، نجد ـ في رأينا ـ أنَ حاكمها الجديد "عبد الفتاح السيسي"، الذي سخّر كل مؤسّسات الدولة، بما في ذلك آلة القتل والقمع التي جسدها كلّ من "الجيش" و"الشرطة"، إضافة إلى جهازي القضاء والإعلام، يعيدنا للقضاء على معارضيه السلميين المنادين بعودة الشرعية وبعودة الدولة المدنية، حيث شهدنا هيمنة على الحياة السياسية والحياة العامّة والخاصّة، وكيف تمّ قلب الحقائق وتزييفها، وكيف تمّت تصفية الخصوم السياسيّين ببشاعة، وكيف تمّ اقتياد الناس إلى السجون بتلفيق التهم الجاهزة...أحداث أقلّ ما يمكن للباحث في العلوم السياسيّة أن يقول عنها: إنّها أحداث تدلّ علىتأزّم السياسة.
إن الأمر يعيدنا إلى عهد ليس بقريب، عهد الإغريق، لنتساءل عن ماهية السياسة من جديد؟ وعن ماهية العنف؟ وعن علاقة السياسة بالعنف؟ وهل السياسة هي العنف؟ وبتعبير آخر هل ما قام به الجانب الذي يملك القوة العسكرية والإعلامية في مصر يدخل في مجال السياسة؟ وبالتالي كيف يمكن تفسير العنف، عندما يصل إلى أقصاه ويتحوّل إلى الشرّ الراديكالي؟ هل العنف ملازم للسلطة والمجتمع، أم هو ظاهرة تاريخية متغيرة عارضة مرتبطة بطبيعة السلطة والمجتمع في تركيبته وبنيته؟ هذا ما سنحاول مقاربته في هذا المقال عبر مستويين:
الطغيان المستنير في حوار بين "سيموند" و"هيرون"
نتساءل من جديد هل القاهرة اليوم في حاجة إلى "نظام سياسي طغياني متنور" بعد الأزمة التي عرفتها في الحرب أمامتل أبيب سنة 1967، كما احتاجته أثينا حينما انهزمت أمام إسبارطة، كما في نظر الفيلسوف "سيموند"، في يوم من الأيام؟
في حوار مثير للدهشة والجدل بين الفيلسوف "سيموند" والحاكم الطاغي "هيرون" في عهد الإغريق، كان "سيموند" يرى أن الأزمة التي عرفتها أثينا بعد انهزامها أمام إسبارطة تستوجب مرحليا نظاما طغيانيا، شريطة أن يخضع الطاغي لضوابط سياسية وأخلاقية، منها عدم لجوء الحاكم للعنف الذي هو غير ضروريـ في نظره ـ لبقاء السلطة، ويرى أنالطغيان المطلق لا بد له أن يعتمد على مسالك سياسية، لكي يتحول إلى طغيان متنور وحتى يحظى بسند شعبي، منها: أن يوزع الطاغي الهدايا والجوائز بقصد تشجيع تنافسية الإنتاج، وأن يحمي نظامه بمؤسسات، ثم أن ينفق على رعاياه من ثروته الخاصة، وأن يبني منشآت عمومية بدل القصور، لأنّ ما يهمّه هو المجد والشرف لا الأموال حسب "سيموند".
لكن ما يثير الدهشة والاستغراب في هذا الحوار، أنّ الطاغي نفسه وهو "هيرون"،يرى في أفكار "سيموند" أفكارا خيالية ومثالية غير قابلة للتطبيق، إذ في نظره يستحيل تبرير الطغيان على هذا الأساس، لأنه لا يمكن للحاكم الطاغي أن يحس بالمجد والشرف، وهو يستعبد شعبه، وفي نظره كيف يحس الحاكم الطاغي بالاطمئنان والراحة والسعادة في الوقت الذي يقمع فيه شعبه ويسجنه ويقتله؟ ويضيف "هيرون" في حواره مع "سيموند": إن الأعمال التي يقوم بها الرعايا لا تعبر بالضرورة عن الاحترام والتقدير للحاكم الطاغي، بل هي في الواقعنتيجة الخوف من الاضطهاد والتعذيب.
ليصل "هيرون" في نهاية التحليل لهذه المعادلة بين الحاكم الطاغي وشعبه، وفي إطار رده على "سيموند"،إلىأنّه لا السيد سعيد؛ "أي الطاغي"، ولا العبد سعيد؛ "أي الشعب"، فكلاهما مغترب، وهو ما أكده "هيغل" في ما أسماه:"مأساة السيد والعبد"، فهو يرى أن العمل السياسي لا يثير في حقيقته المحبة أو العطف؛ لأنمحبة الشعب للحاكم ليست دليلا على نجاح الحاكم.
نورد هذا الحوار لنبرهن لأولئك المثقفين الذين يدّعون الليبرالية والديمقراطية ويرفعونها شعارا في العديد من المناسبات، وقد وجدوا اليوم أنفسهم فجأة إلى جانب العسكر عبيداً ناقضين كل القيم التي آمنوا بها، أو ربما أوهموا أنفسهم بالإيمان بها في يوم ما، فكان تسويغهم لاختيار طريق العبودية بدل الحرية هو أنّ "مصر البلاد العظيمة" مازالت تعرف أزمة وصدمة بعد تعاقب الاحتلال والأزمات. فبعد الاحتلال العثماني، جاء الاستعمار الإنجليزي وبعده التدخل الإسرائيلي، وبالتالي لابد من نظام طغياني متنور يظهر بمظهر ديمقراطي يحفظ مصر وشعبها العظيم من كل التهديدات الخارجية والداخلية، بالشكل الذي قد لا يقدر عليه نظام يؤمن بالتداول السلمي للسلطة وبالتعاقد الاجتماعي، ويجعل من الشعب مرجعا للحكم، وربما لأن الشعب المصري لا يستحق هذا النظام، لأنه هو المنهزم في الحرب على عكس الشعب الإسرائيلي المنتصر في الحرب.
لكن حتى لا نظلم هؤلاء الذين تحالفوا مع العسكر بمصر وننعتهم بالعبيد، نتساءل عن ماهية العبودية؟ وبالمقابل عن ماهية الحرية؟ ما هي الحدود الفاصلة بين العبودية والحرية؟ نتساءل مع الفيلسوف "اتيان لابويسي": لماذا تتنازل الشعوب عن حريتها وترضخ لحاكم فرد يستعبدها كما شاء، وكيفما شاء؟
تساؤلات حول الحرية والعبودية مع "اتيان لابويسي"
لماذا تتنازل الشعوب عن حريتها وترضخ لحاكم فرد يستعبدها كما شاء وكيفما شاء؟ هو السؤال المحير الذي حاول الفيلسوف "اتيان لابويسي" مؤسس علم السياسية الحديث الإجابة عنه، إنه السؤال الذي حير العقول منذ زمن بعيد، ولم يلق إجابات شافية إلى اليوم. ذلك أن الشعوب بحكم فطرتها تواقة إلى الحرية والتحرر وتنفر بحكم طبيعتها من قيم الطاعة والقبول والانقياد، ويتساءل " لابويسي" : هل توجد دوافع نفسية ما تدفع الناس إلى القبول بالعبودية والطاعة؟
يقول "لابويسي": إن التاريخ يدلّ على القوة غير المتناهية للشعوب في الدفاع عن نفسها، وإن كلفها ذلك حياتها في نضالها ضد الاستعمار، كما أنّ الحرية طبيعة بشرية متأصلة في ذات الإنسان و وجدانه، الأمر الذي يدلّ على أنّ هناك أسبابا خفية ودوافع ما، نجهلها، قد تجعل الإنسان يتنازل عن الحرية ويرضخ للعبودية والإذلال، الأمر إذن طارئ وعرضي على الطبيعة البشرية وغير متأصل فيهاوحالة مرضية تحتاج إلى علاج، كيف يمكن العلاج إذن؟
يذهب "لابويسي" إلى أن السبب ربما في طبيعة الأنظمة الحاكمة؛ فالأنظمة الملكية تنبني علاقتها مع مواطنيها على البيعة وقيم الطاعة والولاء والوفاء، الأمر الذي يجعل من الناس مجرد "رعايا" لا يرقون إلى درجة مواطنين، رعايا يبتعدون عن السياسة ويعزفون عنها فتتغير طبيعتهم ونفسيتهم، وأنّ العلاقات السياسية الحقة ـ ربما ـ هي تلك التي تسود الأنظمة الجمهورية. لكن هل يحق أن نطلق صفة جمهوري على النظام المصري الذي جاء عن طريق القوة، ويحكم بواسطة القوة، ورجع إلى الحكم بالقوة؟ بالطبع لا، فهذه الأنظمة اليوم التي تسمي نفسها بالجمهورية في عالمنا العربي أسوأ من الأنظمة الملكية، من حيث استبدادها بشعوبها أو تسلطها عليها، لأنها أنظمة ذات طبيعة عسكرية، وبالتالي قد يكون "لابويسي" محقا في سببه هذا.
لكن حسب "لابويسي" كيف يمكن لفرد أن يستعبد الملايين من الناس، إذا لم تكن هذه الملايين هي نفسها راغبة في العبودية؟ وبالتالي كيف يمكن أن نقبل بسكوت الشعب المصري على حكم العسكر طوال هذه الفترة؟ يحكمه كيفما شاء، ويستبد به كما شاء. هل كانت تلك الأحداثالتي قام بها الشعب المصري سنة 2011 أحداثاً عابرة وطارئة؟ هل فعلا تعبر هذه الأحداث عن فعل الثورة المدنية السلمية التي عبر عنها "لابويسي" كوسيلة للتخلص من الحكم الطغياني ومن الحاكم الطاغي؟ وبالمقابل، كيف لهذه الملايين من الناس أن ترغب في العبودية مع أنّ طبيعة الإنسان الأصيلة عاقلة تتطلع إلى الحرية؟ يتساءل "لابويسي".
لكن كيف لحاكم عاقل يتمتع بمواصفات الإنسان السليم أن يستعبد شعبه ويستبد به؟ هل يعتبر الحاكم المصري الذي يحكم ضد إرادة شعبه حاكماً سوياً يتصف بمواصفات إنسانية؟
يجيب "لابويسي" : إنه لا يمكن للحاكم العاقل والحر استعباد شعبه إلا إذا كان يعيش حالة الاستعباد ذاته؛ فهو شخص غير طبيعي، في خوف دائم من شعبه، يلجأ إلى الترهيب والعنف لقمع الاحتجاجات والتمردات، ويسعى إلى تقوية سلطته بالقوة والحيل والكذب والإعلام الفاسد والمهرجانات المنحطة والحفلات الشعبية السخيفة لتخدير الناس وتنويمهم، يعيش في عزلة دائمة عن الناس، لا كرامة له ولا أخلاق، يمتاز سلوكه بالتعالي والاستعلاء، يحث الناس على تقديسه والركوع له وعبادته، فهو فوق القانون وفوق التاريخ، ولا يمكن محاسبته أو مساءلته، وكأنه إلهيسمو فوق البشر.
والحاكم الطاغي ـ كما يذهب "لابويسي"ـ ليس سيد نفسه، بل سجين طغيانه، ولا يستطيع التحرر من سجنه، فلا يمكن أن يغيّر سلوكه الطغياني والاستعلائي، و إن آمن بالحرية، لأن ذلك يغضب حاشيته والطبقات المنتفعة من طريقة حكمه الطغياني، فهو يخاف على نفسه من حاشيته من جهة، ويخاف من الشعب، ويخاف من ضعف أو فقدان سلطته من جهة ثانية.
لذلك، فاستمرار حكم الطاغي وسلطته رهين بمدى العمل على إفساد المجتمع وتفكيكه إلى طبقات متطاحنة، يستطيع أن يكون الحكم فيها بنشر الرشوة والفقر والفساد الأخلاقي والمالي والإداري والسياسي.
وهو ما يدل على أن الطغيان لا ينتهي بموت الحاكم الطاغي أو اغتياله، لأن الطغيان يرتكز على نظام اجتماعي متراتب المستويات، كل مستوى مترابط مصلحيا بالمستوى الأعلى منه. هل هذا حقا ما يقصده "لابويسي" بما يمكن تسميتهاليوم في مصر بالدولة العميقة التي بقيت أشهراً معدودة مسيطرة على الدولة والمجتمع، رغم الإطاحة برأس النظام "مبارك"؟
يرى "لابويسي"أنه لا مناص، للتحرر من الطغيان، من اللجوء إلى عصيان مدني والقيام بثورة سلمية تؤدي إلى تفكيك البنى الاجتماعية التي يرتكز عليها الطغيان السياسي، وهذا لن يتأتى إلا بتغيير مستوى الوعي السياسي للإفلات من الطغيان واسترجاع الحرية المفقودة، وهو ما لم تفلح به القيادات التي أوصلتها صناديق الاقتراع إلى الحكم بمصر، فهي لم تكن واعية أو بالأحرى لم تكن قادرة على تفكيك البنى الاجتماعية وبنية الدولة الحاضنة للاستبداد والطغيان. لكن العامل الأكبر في المعادلة، والذي يعتبر القاعدة الصلبة لنجاح أية ثورة سلمية وأي عصيان مدني على أي حكم طغياني مستبد، هو ما أسماه "لابويسي" بالوعي السياسي، وربما هو ما كان ينقص الأحداث التي وقعت في مصر، حتى تتحول إلى ثورة حقيقية، وقد أسماها البعض تسرعا بالثورة، في الوقت الذي أسميناها بتسميتها الحقيقية "أحداثاً سياسية"، لأن الشعب لم يكن مواكباً، ولو أن الثورة قد تحتاج سنوات كما حدث مع الثورة الفرنسية. لكنَ هذا بعيد المنال بمصر، لماذا؟ السبب في نظرنايكمن في أن الدين مازال لصيقاً بالسياسة، وما زال يشكل حصناً حصيناًللحاكم من أية مساءلة، ويظل الوعيالسياسي لدى الشعب في أدنى مستوياته، خاصة حينما يصر الناس على اعتبار شخص الحاكم هو الراعي المنقذ، ويعتبرونأنفسهم مجرد "رعايا" لا "مواطنين". هذا ما تؤكده دراسة التمثلات السياسية لدى الشعوب العربية والإسلامية التي سبق أن قمنا بدراسة عينات منها.
إلا أنّ الملاحظ أنّ "لابويسي" يعارض التغيير عن طريق الثورة المسلحة، ويكتفي بالطرق السلمية لبناء مجتمع جديد، حيث يفهم السياسة على شكل مناقض للعنف، وبالتالي فكل الأعمال التي تتبنى العنف آلية للوصول للسلطة تعتبر في نظر "لابويسي" أعمالا غير سياسية وغير شرعية، ومآلهاالفناء والزوال، وهنا نتساءل هل هذا ما يسلكه اليوم تيار الإخوان المسلمين، حينما يحاول الدفاع عن نفسه بالعنف وما يملكه من قوة؟نتمنى ألا تتحول الأمور إلى حرب أهلية تقضي على كل شيء؛ الإنسان والفكر والحضارة، وأن يجسد الطرف العاقل السياسة النبيلة التي تتبنى خيار الثورة السلمية والعصيان المدني، وتنبذ العنف، ونتطلع إلى أن يتم تجسيد شعار المرشد لتيار الإخوان المسلمين على أرض الواقع، وهو : "سلميتنا أقوى من الرصاص".
في وضعه للسياسة كمقابل للعنف، ينحو "لابويسي" نحو "أفلاطون"، حيث السياسة عنده لا تقاس بالقوة، بل بالتمسك بالفضيلة، وأن غايتها الوصول إلى إسعاد الإنسان، و"الفارابي" في مدينته الفاضلة المتميزة بالعقل، والتي تسودها السياسة الحكيمة التي تؤدي إلى إسعاد الإنسان. أما العنف والقهر والغلبة، فهو من ميزات المدينة الضالة في نظره، هذا في الفلسفة الكلاسيكية، وكذلك نحو "حنا أرانت" التي ترى في السياسة التفاعل والتواصل، وبالتالي فكل فعل يتبنى العنف هو غير سياسي بالضرورة، حيث يدل على غياب الحرية التي تسمح بالقدرة على الفعل في الفلسفة المعاصرة.
بذلك يمثل "لابويسي" نقطة انتقال مهمة في العبور من مرحلة الوعظ والإرشاد التي جسدتها حداثة "ماكيافيلي" إلى مرحلة تنادي بالإصلاح عبر الوعي بشرعية الثورة الشعبية السلمية لبناء مجتمع جديد، وهو ما يمكن أن نقول معه : إنَ الأحداث الدامية التي وقعت في مصر، والتي نفذها وقادها العسكر والشرطة ضد أطراف سياسية مسالمة مهما اختلفت مبرراتها، لا ترقى إلى أعمال سياسية، ولا يمكن إدخالها بأي حال من الأحوال ضمن السياسة بالمعنى النبيل للسياسة.