08 أكتوبر 2014 بقلم
العربي إدناصر قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:يرد مصطلح القيم في هذا النص بمعنىً يشي بذلك النزوع الإنساني نحو الوسطية والاعتدال والاستقامة، وبعدم التعدي وحب الخير وأعماله مطلاً على الجمال والعزة والكرامة، والمقاصد المبثوثة في كتاب الله، لا تخرج في مضمونها عن هذه القيم، ولذلك سمي الدين بدين الفطرة والدين القيم. وتجدر الإشارة إلى أن الدين موضوع يأتي بعد وضع القيم، وهو بذلك دال عليها، ولذلك ظلت هذه القيم شديدة الصلة بمصالح الفرد والجماعة، والتكاليف الشرعية العملية جزء من منظومتها، ولو أن بعض القيم تتمظهر في صيغ تكليفية وتشريعية، والتكاليف على مستوى العادات والعبادات، إنما هي آليات موصلة للقيم التي فرضتها الشريعة وألزمت بها، ولذلك من عادة الرسالات السماوية أن تتضمنها لأنها قيم إنسانية عامة مشتركة.
ويظهر الفرق بين التأسيس للقيم والإرشاد إليها بالنسبة للدين في كون التأسيس يعود إلى الإرشاد، بمعنى أن الحكم الشرعي الجديد، إنما هو مشدود إلى قيمة من تلك القيم، فالإرشاد هو الأصل والأحكام التأسيسية ليست سوى معايير وآليات تفصيلية موصلة لتلك القيم، وبذلك تكون العلاقة بين القيم الإنسانية العامة وبين القيم الإسلامية هي علاقة تساوق وتواشج، وتشكلان معًا آليات موصلة إلى الحق والعدل والخير وبقية القيم الصالحة، عند قيام البينة والحجة الدامغة على ذلك، وهنا تبرز الحرية مناطًا للنظر والبحث والتفكر بالمعارف الدينية والإنسانية لفهم الذات والوجود. لذلك فإن الاختلاف في الدين لا يعود إلى المقاييس البشرية بل إلى ما يحرف هذه المقاييس، فالإنسان لو خليَ وميله الفطري الإنساني العام لالتزم بالقيم الإنسانية، ولكن وبسبب تصادم هذه القيم مع الأهواء الشخصية ينحرف الإنسان عن هذه القيم، فيقوّمه الدين بعملية تحصين وتزكية مستمرة تحميه بالارتباط بالله اعتقادًا بالتوحيد وبالعمل الصالح خدمة للشأن العام، وهذا ما يجعل الأديان متفقة في الجوهر، أما التمايز فهو بسبب قدرة الدين على إحداث تغيير في السلطات الزمكانية تدريجيًا لتخليص الإنسان من المؤثرات السلبية، وهذا ما يجعل مهمات الأنبياء في تكامل لا تباين فيه مع منجزات العقل البشري المسدد بالتجربة والعلم.
والفكر الإسلامي مدعوّ، تأسيسًا على عالمية القيم الإنسانية، إلى أن يحوز إلى معارفه ثقافة العصر، مضافة إلى حصيلة المنجزات البشرية في مجال القيم والعلوم الإنسانية التي لا تتعارض مع جوهره، ما دامت في مجملها تراكمات كونية في البحث والدراسة وفي تعقب الحقيقة الوجودية. ولذلك فقد ولد لديه انكفاؤه على ذاته في فترات عديدة من تاريخه أوجاعًا فكرية ومنهجية، أبعدته عن ساحة التداول في المناهج التعليمية وداخل مراكز البحث والمختبرات العلمية، زد على ذلك القطيعة المحيرة مع عالم التقنية والمجال التداولي الآتي من الآخر المختلف، حتى أضحى العالم الإسلامي في جزيرة معزولة عن التأثيرات الجانبية، فلا هو أثبت خصوصيته الحضارية فيكون في موقع التحدي، ولا هو متفتح على مجريات الكون فيأخذ ما به فيدعم وجوده وكيانه.
ينجلي البعد الفكري لهذه الأزمة عند التشريح، إذ يتضح أن هذا الجانب منبثق أساسًا من خلل في الرؤية والمنهج، ذلك أن افتقاد الفكر الإسلامي إلى معانٍ كلية ويقينية وقطعية، أحدث اضطرابًا في التصورات واختزالاً في الاقتناعات، التي لم تجرِ على مقاس العلم الحديث، ولم تبلغ أوج العطاء الفكري والحقوقي الذي وصلت إليه المجتمعات الغربية. فكيف يمكن أن تسهم صياغة الفكر الإسلامي وفق رؤية القيم الكلية في صقل روح الحداثة والمعقولية في جسم التفكير الديني للمسلم المعاصر، وإلى أي حد يمكن أن يقدم إجابات حاسمة في قضايا كبرى وفلسفية في الحياة، ترتبط بجوهر الإنسان في حقوقه الأساسية في المعتقد والانتماء والحرية والتعبير وغيرها، فضلاً عن مداه في تثبيت أواصر الاختلاف الفكري بين الأمم، وتعزيز مكانة الحوار بوصفه حلاً لمشكلة الاقتتال والنفي بين الشعوب؟
ونعثر من خلال عبورنا من بوابة الإيمان عن معنى سامٍ في الوجود، وعن حياة إنسانية كريمة، فالإيمان يمنحنا حوارًا متعدد العناصر موجه إلى عديدٍ من المخاطبين، ومنفتح المشارب والتيارات، حوار مع الذات، وحوار مع الطبيعة والكون، وحوار مع التاريخ الماضي والممتد، وحوار مع الإنسان بشقيه الأنا والآخر. فالحوار الداخلي وحده يفرز انغلاقًا في الأفق، وكائنًا انطوائيًا يتغنى بعزلته وشروده وعدميته ولا ينصت إلا لذاته، والإنصات للآخر وحده كذلك لا ينتج إلا الانسحاق والتبعية له في حله وترحاله، والوقوف بالحوار عند أطلال الماضي يصيب الذات بالإعاقة والاجترار والتكلس والعجز عن العبور إلى المستقبل، والهروب نحو المستقبل بالقطع مع الماضي والقفز على الموروث يدمر الماضي ويجتثه، ولا يصنع مستقبلاً حقيقيًا متعدد المنافذ.
فلا يمكن، إذن، أن يمارس الإنسان حياته الطبيعية ضمن انسيابية واعية، إلا ضمن هذا الكل الحواري الذي لا يقبل التجزئة والتشظي، بقدر ما يروم لمَّ شتات الفواعل الداخلية والخارجية وتعزيز التواصل المتعدد المداخل.
والإيمان الحق يركز على مفهوم النقد، النقد الذاتي تحديدًا؛ أي النقد المزدوج بتعبير عبد الكبير الخطيبي، نقد يقوم على مراجعة الذات وفحص ما عند الآخر، لبناء معرفة نقدية وتركيبية تتجاوز مظاهر القصور والأحادية والوثوقية، بتفعيل أدوات العزم والتوبة والمراجعة والتصحيح والتزكية الإيمانية، قصدَ إذكاء دينامية التجدد المستمر والتغيير الدائم والعمل الدؤوب الذي لا ينتهي بالموت البيولوجي. لأن الأعمال الجليلة لا تموت ضمن معطيات الدين القيم أبدًا، ولا ينقطع عائدها المعرفي وثوابها الأخلاقي، ولا ينتهي بقيام الساعة وأفول البشرية، فالواجب الديني يحتم على الإنسان القيام بمهامه ثم يمضي مع القدر متناغمًا ومنسجمًا، ولا يسأل عن النتيجة إن تحققت في العاجل أم في الآجل، كالفلاح يغرس البذرة ولا تهمه نتيجة الغرس ولا حاصل الغلة في السوق. ويمنح هذا الإيمانُ الإنسانَ فرادة أنطولوجية وجودية تضفي على نوعه خصائصَ مائزة وتعزل أصله عن بقية الموجودات، في تميز عن باقي الأنواع الخلائقية بالهيئة والعقل والكينونة والمصير، فلإن كان إنسانًا منذ البدء فسيبقى كذلك إنسانًا إلى الأبد، عبر سيرورة تاريخية تتغير فيها وسائل الإنتاج وتتطور فيها القوى المتحكمة فيها، ويرتقي من خلالها الإنسان من طور حضاري أدنى إلى آخر أعلى.
ويبقى الإنسان إنسانًا بالفطرة والطبيعة والخلقة والتدبير، تتجسد فيه الكرامة الإنسانية بما له من حقوق وما عليه من واجبات تجاه النفس والآخرين، وفي هذا الاعتقاد يتكرس مفهوم الأنسنة مع ما يصاحبه من مفاهيم فلسفية تحفظ الوجود الإنساني من التشيؤ والاستلاب. ويحررنا الإيمان من كل خوف وافد علينا من تاريخ سحيق، أو حاضر كئيب، أو آتٍ ينذر بالدمار، أو نفس تخشى من أوهامها، إنه ينتشلنا من أن نكون أشباحًا لا ظلَّ لها، تأسرها سلطات متعسفة بعضها فوق بعض، تنتج التدجين والانبطاح والتواطؤ وتضع الذات في قوالب جاهزة.
والإنسان ليس كائنًا منسحقًا غارقًا في عقدة الذنب الفردية، كما تحاول أن تصوره الميتافيزيقيا الإكليروسية المتحالفة مع الاستبداد السياسي والإقطاع الاقتصادي، وليس كائنًا متعاليًا ومتألهًا كما تحدده بعض الفلسفات المتخاصمة مع اللاهوت، التي اعتبرته سيدًا على الكون مع تجريده من كل قيمة معنوية، حتى صار أداة أو شيئًا من بين كل الأشياء الموجودة، ليصبح الحديث بدلاً عن الإنسان الكامل كما بشرت بذلك فلسفة الأنوار، إلى إنسان يحتضر كما تبشر بذلك الفلسفات العدمية وفلسفات ما بعد الحداثة، التي أعلنت موت الإنسان بل أتبعته بموت الإله ضمن مقولات نيتشه وغيره من الفلاسفة. وما أبعد الإنسان في جوهره عن تلك التصورات، فقد خلقه الله كائنًا متوازنًا، فحينما نفخ فيه من روحه لم يرفعه إلى مقام الألوهية بقدر ما وضعه في درجة من التكريم والتشريف والمسؤولية، ثم أودع فيه نوازع الخير والشر وهداه النجدين إما شاكرًا وإما كفورًا، فقابل التشريف بالتكليف والتكريم بالمسؤولية.
وقد قدم الإسلام أنموذجًا فذًا في العلاقة بين المطلق والنسبي في حياة الإنسان، فبقدر كونه منتميًا إلى السماء من خلال الوحي والنص المقدس، فهو ملتصق بالأرض بالرسالة والبلاغ المبين، ويمثل الاجتهاد والتفسير والتأويل وسائل لردم الهوة بين المطلق والزمني، وبين الوحي والتاريخ، وهذه الحقائق لا يمكن أن يدركها إلا من تحرر من ذاته من جهة المادة، ودخل فيها من جهة الروح والفطرة. وتمثل لحظات الإيمان الواعي لا الساذج لحظات الانفلات من أسر القهر، كل قهر ولو من قهر الإيمان المغشوش، إذ لا يضيف الإيمان الساذج إلا قيودًا جديدة على حركة الإنسان المنطلق في سعيه نحو التحرر، لأنه يختزل سعيه في قشور تخفي الحقائق، وفي مواقف عدمية تبرر الكراهية والتمييز، وفي اقتناعات دوغمائية تغتال الشراكة الإنسانية وتختزلها في الذات الغارقة في قصورها وشطحاتها الفكرية. وكل بداية مع الإيمان تظل بداية متجددة تستأنف سيرورتها الوجودية، وكأننا أمام بدايات مفتوحة في الزمان والمكان والإنسان، لأن النهاية في الإيمان ليست نهاية فانية، بقدر ما هي بداية أخرى تنداح بنا إلى أبواب بدايات غير متناهية في سلسلة مفتوحة وخالدة.
ووحدها الفلسفات العدمية من يبشر بزمن النهايات، ووحده التدين الفاقد لبوصلة الإيمان من يلغي إرادة الحياة ويجعل من الموت قطب الرحى، ويحيل التوكل إلى تواكل مفضٍ إلى الخنوع، والاعتدالَ في التعبد إلى انعزال بالتعبد، يلغي قيمة الفاعلية ويعطل طاقة الحركة ويجعل الوجود في جملته قيمة سلبية. ومتى أدرك الإنسان هذه الحقيقة، فإنه حتمًا يكون باستطاعته أن يقوّم نفسه بوصفه مستخلفًا ومأمورًا بتزكية كيانه الذاتي، لأن المستوى الأول الذي هو التعلق بمحراب الإيمان، يستتبع تنزيل معاني ذلك المستوى على النفس، من حيث تزكيتها وتصفيتها وتنقيتها من براثن النفس والفكر والعمل، التي تنزل به من درجات التكليف والتشريف إلى منازل البهيمية والضلال. لكن هذا الإنسان إذا تمكن من تحصيل معاني الاستخلاف والرسالية، فإن ذلك من شأنه أن يولد لديه شعورًا بالامتياز على بقية المخلوقات، ووفق ذلك سينتج حاسة جديدة تذكي اليقظة والمسؤولية والأمانة، لأن التشريف يقابله التكليف دومًا، فبالقدر الذي سيستمتع بحجم الاستحقاق والتنويه، يستطيع أن يستشعر قدر المسؤولية والتكليف، حينئذ لن يواجه الاستحقاق بالاستخفاف، إنما بقدر كبير من الاستحسان والاستعظام والتفاعل الإيجابي.
إن الإيمان الحق كما بشرت به الرسالات السماوية، حين اعتبرت الإنسان سيدًا في الكون وليس سيدًا للكون، وبين المفهومين فارق جوهري كبير، فالسيادة هنا نسبية ومحكومة بقيم وضوابط أخلاقية ووجودية، تحفظ الإنسان من الانحراف والشطط في استخدام هذا الحق في السيادة، في حين تظل السيادة في الأخرى سيادة مطلقة عارية عن أي كابح اجتماعي، وغير خاضعة لأي منطق قيمي سوى لميزان القوة وغطرستها وعبثيتها. ولا ينفذ الإنسان إلى أعماق وجوده إلا حين ينفتح شعوره على إحساس بالدوام والأبدية، ويتدعم هذا الشعور بالمجاهدة النفسية، ليخرج الكائن من أسر زمن جامد، ويدخل في إطار زمني منتظم ومتدفق وحيوي، يسافر من خلاله عبر أطوار ومحطات دالة، تبدأ بالولادة ولا تنتهي بالموت الطبيعي، بل يسبح في آفاق المعنى الأبدي من خلال طاقة الإيمان التي لا تنفذ بل تعرج به في الآفاق. لأن الموت في أدبيات الإيمان الذي نعنيه نقطة تفيض بوجود آخر، وجود أكثر امتدادًا وأغنى حياةً وأعمق دلالةً، لأنه يغالب المعنى على المبنى، إذ إن الذي يموت فينا هو هذا الوجود السطحي المسمى جسدًا، يتجدد ويتبدل باستمرار، ثم يتغير من حال إلى حال، وتتنازعه أوضاع المرض والصحة والفترة والشرة والضعف والقوة. أما الروح، فهي ماثلة تخلد بخلود أفعالها الخيرة وتسمو بسمو منبعها الإلهي، ويشع وهج قبسها لا تطفئه رياح التغيير والاستمرارية في الحياة.
وقد تدرجت علاقة الإنسان بالكون من الدهشة الأولى إلى محاولة الفهم والتفلسف، ثم إلى التجربة والتلمس وتوظيف تقنيات العلم، وهنا تجاوز الإنسان العلاقة الجدلية والعدائية مع الطبيعة والكون إلى علاقة التفكير والتسخير، فانتقل وعي الإنسان من ميكانيزمات الصراع إلى طاقات المعرفة، مما جعل الكون مبسوطًا أمام عقله التوّاق إلى الملاحظة والتجريب، واهتدى إلى نسج علاقة مصيرية بالكون تجعله مسخرًا لخدمته، وهذا الوعي جعل من الإنسان الكائن الوحيد المفكر الذي يعقل هذه العلاقات. وهذا الفضاء الطبيعي في علاقاته المتعددة بالإنسان يأتي ضمن منهجيات الإيمان، فالكون هو كتاب الله المنظور المعادل معرفيًا للكتاب المسطور الذي تجسد في الكتب السماوية المنزلة، وقد دعا القرآن الكريم إلى النظر في الكون ونواميسه ونظامه الذي يجري في سياقه، وإلى دراسته وتأمّل ظواهره المادية والمعنوية، وجعل ذلك من حوافز الاعتقاد بالله وتعزيز العقل بآيات الأفاق.
وقد أهملت المدونات الفقهية هذا البعد في مواردها العلمية، وأغفلت التنمية والعمران في الأرض في تحقيق معنى العبادة في الإسلام، ثم إنها لم تبرز مكانة التأمل في مشاغل المسلم، انطلاقًا من مبدأ كون أجر التفكير أكبر بكثير من الانقطاع للعبادات العملية، ومرافقة الصحب الكرام، كما هو شأن أبي الدرداء، أكثر مما ينصرفون للتفكير والتأمل، لذلك فأصالة التنمية والعمل دللت عليها شواهد منتشرة ومستفيضة في نصوص الوحي. ومن زاوية أخرى فإن قضايا التنمية البشرية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية كلها تدخل ضمن مفهوم عريض، هو فقه العمران كما وظّفه العلامة ابن خلدون في مقدمته، وجعله من مقومات النظر في الدين والواقع، وهو فقه مدعم بوظائف الأمانة والمسؤولية والعمل الخير، لأن غاية إنزال الإنسان ليست فقط في مداومة التعبد واستقامة الحال، بل لابد أن يكون له إسهام في التجربة الإنسانية وبناء الحضارة، التي أفرزتها مخاضات العمران البشري عبر تاريخ الإنسانية.