مقدمة أن البحث في موضوع
.. كان الشغل الشاغل للعالم منذ ستة قرون خلت ، ولما يزل فاعلاً ومؤثراً –
ألا وهو موضوع النهضة – يعد مسألة جديرة بالأهتمام .. قمينة
بالدراسة ، لاسيما وأن النهضة قد غيرت وجه العالم ونقلته ، من عالم بدائي
ومتخلف الى عالم الصناعة والحداثة والتقدم العلمي .. الذي ننعم جميعاً
بمنجزاته التكنولوجية .. الأمر الذي يملي علينا التعرف على جذور النهضة
وكيف كانت الحضارة الإسلامية الغابرة .. هي المؤسس الحقيقي للعلوم التي
بنيت عليها الحضارة الغربية الحديثة ، والأطلاع على أحداث هذه النهضة
والتطورات التي رافقتها .. والتي لعبت دوراً حاسماً في تقويض النظام
الإقطاعي الذي يعد القاعدة المادية والإجتماعية للنظام الإقتصادي خلال فترة
القرون الوسطى .
ولابد من الوقوف
عند أهم مظاهر النهضة الأوربية ومميزاتها التي نادت بإمامة العقل ومجّدت
كرامة الإنسان .. رغم ما شابها من مثالب .. وما خالطها من مظالم .
أن النهضة
الأوربية عصر قائم بذاته .. فهو عصر الآداب البديعة والفنون الخلاقة .. حيث
تجلى ذلك واضحاً في إيطاليا التي مهدت لها نتيجة عوامل عديدة امتازت بها
سجلت لها السبق على باقي الأقطار الأوربية في مضمار النهضة .. لكن يجب أن
نستدرك بأن عصر النهضة انتهى الى ظهور الموجات الأستعمارية التي حطمت حضارة
العالم الجديد وأبادت ملايين البشر من الأمريكيتين .. فيما مزقت الشرق
ورمت به في دوامة التفرق والتطاحن والتشرذم .. غير أن ذلك لايمنع من أن
نقول بأن ماوصلت إليه الإنسانية اليوم بفضل النهضة .. من تثبيت لأركان
الحرية .. وتشييد لأعمدة الإنسانية العظيمة .. وترسيخ لقيم المساواة
والتآخي .. وكفالة العيش الكريم .. كان نتاج كل العصور وصناعة كل الشعوب .
أننا بحاجة ماسة
الى الإطلاع على أحوال عصر النهضة وسيرورته ونتائجه .. في وقت تمر فيه
البلاد العربية في مرحلة مهمة من التحول والتقدم ، وبالتالي بات من الضروري
أن نعرف انماطاً مختلفة للتفكير ونماذج صالحة للتغييرالقيمي في بلاد أوربا
أبان عصر النهضة .. لعلنا نقتدي بعناصرها الصالحة لبيئتنا لإثراء عملية
التحول النهضوي التي تحياها بلادنا .
الفصل الاول
مراحل الحضارة ..
وجذور النهضة
مراحل
الحضارة الغربية
مرت الحضارة الغربية
بثلاث أحقاب تاريخية .. الحقبة الأولى تعرف بالعصور القديمة .. وكان الفكر
الإغريقي سيد هذه الحقبة بلا منازع .. وقد أخذ الإغريق من الحضارات القديمة
من مصر وبابل وآشور وبلاد الشام وفارس .. من معارفها وخبراتها الشيء
الكثير . لكن لابد من الإذعان الى أن الإغريق هم واضعوالمنهج العلمي ..
فضلاً عن تفوقهم في التأمل الفلسفي .. وإبداعاتهم المتميزة في الأدب والفن
وحيث جاء الشعر الإغريقي وباكورته ملحمتان هما الإلياذة والأوديسا .. وظهر
فنهم متمثلاً بالنحت والنقش والتماثيل البشرية والحيوانية والبناء .
إلا أن ما يؤخذ
على الإغريق انهم ظلوا متأخرين في ميادين الإدارة والأجتماع رغم تقدمهم
المتميز في ميادين العلم والفلسفة والأدب والفن حيث لم يقيموا دولة قوية
ولابنوا مجتمعاً متماسكاً . بيد أن الرومان خلفاء الإسكندر المقدوني تلميذ
أرسطو .. أقاموا إمبراطورية عملاقة وبذلك تداركوا ما فات الإغريق .
العصور الوسطى
أما الحقبة الثانية
فتسمى بالعصور الوسطى (ق٥ – ق١٥ ) ( القرن الخامس – القرن الخامس عشر )
التي إبتدأت بإنتشار المسيحية في عهد الحكم الروماني .. رغماً عنه وبالرغم
من إضطهاده إياها .. إلا إنها إستطاعت أن تنمو وتكبر حتى قضت على الوثنية
وشيدت أعمدت الإيمان وبذلك أصبحت المسيحية دين الدولة في الإمبراطورية
الرومانية ولكن مما يؤسف له أن رافق ذلك إغلاق معاهد العلم وتقييد حرية
الفكر وتحريم الانفتاح العلمي بحجة محاربة الوثنية ، لذا سمى الغربيون
العصور الوسطى بالعصور المظلمة .. حيث كان طابع العلم العام استشراء
الغيبيات والشعوذة والرقى والعزائم .. يرتلونها جيلاً بعد آخر . وكان العلم
حكراً على رجال الكنيسة الذين أقاموا مدارس لاهوتية تزعم انها تُعلي ملكوت
الرب لكنها تلغي ملكوت العقل .
الإسلام والعلم
وفي هذه الفترة جاء
الإسلام يحمل في ثناياه الدعوة لإشاعة العلم بين الناس حيث يقول الكتاب
الكريم : ( هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون ) ، ويقول النبي ( ص ) :
(( اطلب العلم من المهد الى اللحد )) .. فيما دعا الإسلام إلى الاحتكام
إلى العقل ونبذ التقليد .. يقول النبي ( ص ) : (( العقل أصل ديني )) ..
ويدعو الإنسان إلى النظر في حقائق الكون التي هي آلاء الله سبحانه .. في
سبيل معرفة الله عن طريق آلائه .. أي أن العلم فريضة وعبادة في الإسلام .
ومما يلاحظ أنه في
الوقت الذي رافق انتشار المسيحية في أوربا شيوع الجهل ومحاربة العلم ..
نرى أن مارافق انتشار الإسلام هو شيوع العلم والمعرفة بل لم تبنى في الشرق
على امتداد تاريخه حضارة عملاقة إلا مع ظهور الدين الإسلامي وانتشاره .
وتعد الحضارة العربية الإسلامية هي المؤسس لمعظم العلوم العصرية التي قامت
على أكتافها الحضارة الغربية بأعتراف جهابذة علماء الغرب ومفكريه .
عصر النهضة
أما الحقبة الثالثة /
عصر النهضة وما تلاه من تقدم علمي وتكنولوجي .. حيث انتج الفكر الصناعي
المتقدم الذي يحتل اليوم قمة الحضارة في العالم ويقود دفة الحياة الإنسانية
إقتصادياً وسياسياً وإبداعياً . هذا الفكر نما على أكتاف الحضارة العربية
الإسلامية كما ذكرنا سابقاً والتي كانت آيلة الى التفسخ والتهاوي سياسياً
لكنها كانت لم تزل مزدهرة عمرانياً وإنتاجاً فكرياً وصنائعياً . وقد اتصل
الغرب بالحضارة العربي الإسلامية عن طريق الأندلس ثم من خلال الحروب
الصليبية التي استمرت ثلاثة قرون بالإضافة الى نقاط اتصال أخرى كجزيرة
صقلية والقسطنطينية . في نهاية القرون الوسطى نجد الغرب قد تجمع لديه كل
التراث الفكري العالمي .. معظم هذا التراث انتقل الى الغرب عن طريق العرب
لاسيما التراث الإغريقي فضلاً عن الفارسي والهندي والصيني . والأهم من ذلك
هو الإبداع الفكري والعلمي العربي .
وفي عصر النهضة ( ق
١٤ – ق ١٧م ) نجد الغرب قد استوعب هذا التراث العالمي .. لا بل اصبح
بإمكانه أن يطوره وأن ينتج إنتاجاً أصيلاً .. وطفق يدرس هذا الفكر متطلعاً
الى الانتصار على الشرق في مضمار الحضارة وقيادة الإنسانية ، حتى تمكن من
الانتقال من عالم بدائي متخلف ، الى عالم صناعي خلاق .. العامل الفعال فيه
هو العلم .
مباهج الحياة
وفي هذا العصر شرعت
قسمات العصور الوسطى ونظرته الى الحياة بالانحسار فيما أخذت نظرة جديدة تحل
محلها ، ومن سمات النظرة الجديدة الى الحياة ثقة الفرد بنفسه واستقلاليته
وتطلعه للجديد والتجديد ونظرته المتفائلة وحبه للحياة وجمالها وضرورة
التمتع بها . وحب الإنسان للإنسان والفرد للمجتمع .
الجامعات العلمية
في هذه الأثناء إنتشرت
الجامعات العلمية بعد نشوء المدن في إيطاليا . وقد أقيمت هذه الجامعات على
غرار الجامعات العربية في الأندلس في غرناطة وقرطبة . وفي هذه الجامعات وجد
الدارسون في كتابات ابن رشد ما يشبع نهمهم للفهم والعلم والفلسفة .
ومباديء ابن رشد في الغرب تسمى الرشدية وهي تدعو الى سلطان العقل . حيث
استطاع الفيلسوف العربي ترسيخ عقلانيته في التفكير الفلسفي .. مبلوراً
كيفية تلقي العربي للتراث الإغريقي وإعادة ضخه الى الغرب نهضة عقلانية وسط
عوائق وضرورات .
أخذت أركان قيم
المجتمع الأوربية الإقطاعية / الكنسية بالاهتزاز نتيجة لاستقبال أوربا
لمؤثرات مهمة من الشرق وبخاصة من العالم العربي والإسلامي .. حيث انتقلت
اليها مؤلفات الفلاسفة اليونانيين كأرسطو وأفلاطون عن طريق الأندلس وكانت
تحتوي على إضافات جديدة ، وإبتكارات متميزة نابعة من أصول الحضارة
الإسلامية . وأنتقلت العلوم الطبيعية والطبية والفلسفة عن طريق جزيرة صقيلة
.. فيما استقبلت أوربا بكل حفاوة من بدائع الفكر والصنعة العربيين عن طريق
الحروب الصليبية ما كان يكفي لتحريك العقول وشحذها .
العقل واللاهوت
وكان توما الاكويني (
١٢٢٥ -١٢٧٤ م ) وهو يخوض معركة الصراع بين العقل واللاهوت ضد المتزمتين
الذين لم يعترفوا بحكم العقل مثل القديس أغسطين .. كان توما يفعل ذلك
بتأثير اطلاعه على الفكر العربي وإعجابه في قرارة نفسه بالرشدية . كما كان
روجر بيكون ( ١٢١٩ – ١٢٩٢ م ) أول داعية للعلوم التجريبية وكان يشكو من أن
الغرب متخلف بالنسبة الى العرب وقد استوعب الكثير من الفكر العربي وعرف
العربية ويستشهد في الكثير من كتاباته بإبن هيثم ، و إبن سينا ، والكندي ..
وغيرهم من علماء العرب . ثم تطورت الإكتشافات العلمية وكانت التجريبية
نقطة البدء فيها وقد تجدد صداها على يد فيلسوف العلم التجريبي فرنسيس بيكون
.
الكوميديا الالهية
أما دانتي ( ١٢٦٥ – ١٣٢١
م ) والذي يعد المبشر الأول لأفكار النهضة وخاصة من خلال رائعته (
الكوميديا الالهية ) فقد كان متأثراً فيها بأبي علاء المعري في رسالته
الموسومة ( رسالة الغفران ) كما تأثر بإبن عربي في كتابه ( الفتوحات المكية
) .
ومن الجدير
بالذكر أن رائد النهضة الآخر بوكاشيو المعاصر لدانتي كان هو الآخر متأثراً
بقصص ألف ليلة وليلة .
العرب قبل كولمبس
أما رحلات إستكشاف
العالم الجديد التي تمت في عصر النهضة وضاعفت معلومات الناس عن سطح الأرض ،
فقد قالوا أن العرب هم الذين دلوا البحارة الغربيين على البوصلة البحرية .
وقالوا أيضاً أن البحارة العرب قد وطئت أقدامهم أرض أمريكا قبل كولمبس ..
لكن لابد من القول أن محاولات العرب كانت فردية اجتهادية فيما كانت محاولات
الغرب مؤسساتية استعمارية لذلك كتب لها النجاح .
وثمة مجال للقول
أن إبن الشاطر الدمشقي ، قد سبق كوبر نيكوس ومن بعده غاليلو في القول أن
الأرض تدور ، وإنها ليست مركز الكون .. كما نقل الغرب عن العرب طريقة
الطباعة أبان الحروب الصليبية وهي الطباعة بالقوالب .. ثم طوروها الى
الطباعة بحروف متحركة حيث وضعت أول مطبعة متحركة سنة ١٤٩٤ م . ومما أخذه
الغرب من العرب صناعة الورق حيث أنشيء أول مصنع للورق سنة ١٣٩٠ في ألمانيا .
العقلانية
وفي القرن السابع عشر
وضع ديكارت أساس صرح الفكر بطريقته العقلانية حيث جعل العقل ينبوع المعرفة
وهوالحكم في نتائج التجارب .. كما أخذ ديكارت على عاتقه التوفيق بين العلم
والفلسفة والدين . وهو عين ما ذهب اليه قبله الفلاسفة المسلمون ، كإبن سينا
وإبن رشد والفارابي .. وهكذا امتصت حضارة الغرب رحيقها من حضارة الشرق ..
حيث بدأت النهضة في أوربا تحدياً للوصول الى ما وصل اليه الشرق .. وفي
القرن السادس عشر أخذت أعلام حضارة الغرب بالنهوض فيما تراجعت أعلام حضارة
الشرق .. وانتهت حضارة الغرب تعالياً فوق الشرق تخلفاً .
الفصل الثاني
الانتلجنيسيا..
واحداث النهضة الكبرى
بعد إنحسار القرون
الوسطى التي أمتدت الى القرن الخامس عشر الميلادي دخلت أوربا وخاصة الأجزاء
الغربية منها في عصر جديد أصطلح على تسميته بعصر النهضة .. الذي أمتد
ثلاثة قرون من القرن الرابع عشر الى القرن السابع عشر عندها دخلت أوربا في
العصر الصناعي وغيرت وجه التاريخ العالمي من خلال تقدمها العلمي
والتكنولوجي وماتبعه من تغيير في أنماط السلوك والأخلاق والقيم الإجتماعية .
نمو العلاقات
الراسمالية
لقد رافق هذا التحول
تغيرات عميقة في البنى التحتية للمجتمعات الغربية أفضت الى أحداث تاريخية
وإجتماعية وفكرية مهمة جداً ، لعل أسبقها التغير الذي حصل في علاقات
الإنتاج حيث أخذت العلاقات الرأسمالية في النمو وسط المجتمع الإقطاعي ..
مما سهل تفكك القاعدة الإقتصادية للنظام الإقطاعي
تطور وسائل الانتاج
ومما ساعد على هذا
التحول وعجّل فيه حدوث تقدم نسبي في تطور وسائل الإنتاج الحرفي مكن
الحرفيين من تكوين مجموعات لها ثقلها في الوضع الإقتصادي .. بل ساهمت في
تقدم تكنيك الإنتاج فيما راحت أعداد من الفلاحين مستفيدة من التطور الجديد
راحت تتحرر من الاستغلال الإقطاعي وتملك القدرة على التصرف الذاتي .. هذا
التقدم أدى الى عملية تراكم رأس المال بمستويات عالية بالإضافة الى تسريح
المزيد من الفلاحين من العمل .. ذلك شجع أصحاب الورش الحرفية على زيادة
الإنتاج بوتائر عالية بسبب توفر رؤوس الأموال من جهة وتيسر الأيدي العاملة
الرخيصة من جهة أخرى . فأصبحت الحاجة ملحة الى أسواق لتصريف المنتجات
المتنامية مما قاد الى تقدم التجارة الخارجية ..
الطبقة البرجوازية
أن هذه التطورات صارت
تصطدم بأفكار وقيم النظام الإقطاعي السائد بفعل تخلفها وعدم مسايرتها
للتطور وانتهى هذا الصدام الى ظهور طبقة جديدة هي الطبقة البرجوازية التي
لعبت دوراً حاسماً في تاريخ الشعوب الأوربية .. وأخذت على عاتقها مهمة
تطوير وسائل الإنتاج عن طريق الأختراعات الحديثة .. ثم أنتجت النظريات
الإقتصادية الجديدة التي أودت وبشكل نهائي بالنظام الإقطاعي .
وفي هذه المرحلة تكونت
ايضاً طبقة أخرى هي الطبقة العاملة التي تكونت من الفلاحين المعدمين ومن
الحرفيين الذين لفظهم الإنتاج الرأسمالي المتنامي . ورغم ما حصل من تطور
للطبقة العاملة فأنها لم تشكل في عصر النهضة سوى عنصراً إجتماعياً غير واعِ
.. ولم تكن أكثر من مجرد طاقة لتسيير دفة التغيير.
المؤثرات
الاسلامية
ومما ساهم في تكامل
عناصر ميلاد النهضة عوامل خارجية تفاعلت مع العوامل الداخلية .. وأهم تلك
العوامل الخارجية المؤثرات الشرقية ولاسيما الإسلامية التي شرعت أوربا
تستقبلها من طريق الأندلس وصقلية والحروب الصليبية ، ساهمت هي الأخرى في
زعزعة النظام الإقطاعي في أوربا .. حيث تعلّم الأوربيون أهمية التمتع
بالدنيا وملاذها مع اهتمامهم بالآخرة ، تعلموا ذلك بعد عودتهم من الشرق مع
فلول الصليبين المندحرة .. وإذا بالعمران والبناء الشامخ بالتدريج يظهر في
أوربا منافساً ومزاحماً الكنائس والأديرة .
الانتلجينسيا
أن ظهور طبقة التجار وهي
طبقة وسطى بين السادة والرقيق الأقنان .. ولاسيما الفئة المثقفة
البرجوازية (الأنتلجينسيا ) التي أخذت على عاتقها مهمات التطوير الفكري
والاقتصادي والإجتماعي .. لعب دوراً كبيراً في التغيرات السريعة التي
شهدتها أوربا حيث طفق التجار يزاحمون رجال الدين .. واستند التجار الى
العقلانية في التعبير عن أنفسهم على أساس حرية الفكر والتعبير وهو ماشكل
حركة نقدية واعية للجمود الفكري المتمثل باللاهوت الكنسي ، وبذلك يعد ظهور
طبقة التجار من بين أهم الأحداث التي مهدت وأفضت الى النهضة الغربية التي
قامت على ركيزتين أساسيتين هما التجريبية والعقلانية ..
الروح النقدية
ولابأس من الإشارة هنا
الى أن الروح النقدية التي رافقت أحداث النهضة الغربية استلهمت من حضور
الشرق العربي الدائم ، في وعي كثير من الأعمال الأوربية فأننا لو استحضرنا
تلك الروح لدى المعري لألفيناها تتبدى في أعمال دانتي وغيره من المفكرين
الغربيين .. مما يملي علينا الأعتقاد بتفوق العرب على الأوربيين في تلك
الأزمان .
المطبعة المتحركة
ومن الأحداث التي رافقت
عصر النهضة وأفضت الى تغيير جذري في نمط الحياة فكرياً وإجتماعياً ، ابتكار
المطبعة المتحركة .. فخلال الحروب الصليبية التي امتدت عدة قرون ، أستطاع
الأوربيون أن ينقلوا الطباعة بالقوالب من العرب الى أوربا .. ثم أدخلوا
عليها الكثير من التعديلات والتغييرات الى أن طوروها من الطباعة بالقوالب
الى الطباعة بحروف متحركة .. حيث وضعت أول مطبعة متحركة سنة ١٤٩٤م .. علماً
أن الصينيين سبقوا العرب في أستعمال الطباعة في القوالب منذ القرن السادس
في حين نقل عنهم العرب طريقة الطباعة منذ القرن الثامن الميلادي .
صناعة الورق
ومن الأحداث المهمة
الأخرى انتشار صناعة الورق حيث أنشيء أول مصنع للورق سنة ١٣٩٠م في ألمانيا
ومنها انتشرت صناعة الورق في الكثير من البلاد الأوربية ومن الجدير بالذكر
أن الشرق ولاسيما العرب قد سبقوا الغربيين في صناعة الورق .. وهو مما أخذه
الغرب من الشرق .
وكان تيسير الطباعة
وصناعة الورق عاملين حاسمين في قيام نهضة علمية وفكرية وتربوية واسعة حيث
انتشرت مدارس ومعاهد العلم على أثرهما .
عقلنة التعليم
والى جانب ذلك قامت
دعوات صارخة للتجديد في أساليب التعليم ومناهجه .. وبدا واضحاً أن التعليم
الكنسي / اللاهوتي أخذ يتعرض الى موجة من النقد العقلي المستوحى من التراث
العربي ممثلاً بالرشدية والتراث الإغريقي ذي العبقة العربية – حيث أن
التعليم الأرسطي في أوربا أعتبر ولمدة طويلة من قبل آباء الكنيسة فلسفة
مشكوكاً فيها ، نظراً لنزوعه المادي – فضلاً عن استلهام المنهج العقلي من
التراث العربي فقد جرى التأكيد على التعليم المستمر من المهد الى اللحد .
تحرير المراة
كما ارتفعت الأصوات
المطالبة بتعليم المرأة وتحريرها ، وساد جو يدعو الى محاربة التلقين وبناء
التعليم على أساس التجربة والعقل ، وفيما أستمر التعليم باللغة الأم تزايد
في الوقت نفسه الأهتمام باللغات الشعبية ، ومن الجدير بالذكر أن دانتي كتب
كوميدياه باللغة الشعبية الإيطالية .
صناعة الاسلحة
أما إنتشار البارود في
هذا العصر فقد صار سلاحاً يهدد حصون السادة ويزعزع النظام الإقطاعي .. ومع
تطور صناعة الأسلحة شرعت أوربا بالتطلع للسيطرة على العالم من خلال الكثير
من الموجات الاستعمارية التي من خلالها بنت عالمها المتطور ولكن على حساب
الشعوب المقهورة التي تعرضت للنهب والسلب من قبل الدول الأوربية .
الاصلاح الديني
كانت الكنيسة لاتزال
تهيمن على الفكر والحياة الإجتماعية والسياسية في هذا العصر .. حتى ظهرت
حركة الإصلاح الديني التي أفضت الى تغيير جذري في كل مضامير المجتمعات
الأوربية وأنماط الحياة فيها . وقد بدأ هذه الحركة لوثر حيث قام في عام
١٥١٧ بعمل ثوري يدعو الى الإصلاح الديني .. تلك الحركة طالبت بمنع صكوك
الغفران التي كانت تمنحها الكنيسة .. بل وطالبت بأيقاف محاكم التفتيش وما
تجريه من قتل وحرمان على العلماء وأصحاب الفكر الحر المتعارض مع الفكر
اللاهوتي .. وهكذا أدت هذه الحركة الى انقسام الكنيسة التي أخذ نجمها
بالأفول تدريجياً .. ووضعت حداً لهيمنة الكنيسة .
العالم الجديد
ولقد كان لرحلات استكشاف
العالم الجديد التي بدأت في القرن الخامس عشر .. أثراً مدوياً في الغرب ..
إذ أمّدتهم بقوة هائلة معنوية ومادية استشعروا من خلالها العظمة والقدرة
على النفاذ في المجهول لأكتناه أسراره وفك طلاسمه .
ما كان لكولمبس ثم
ماجلان ومن سبقهما وتبعهما أن يطأوا أرض أمريكا لولا البوصلة البحرية التي
ظلت سراً مصوناً بيد البحارة العرب .. ولابد من الذكر أن البوصلة صنع صيني
استعمله العرب .. وقيل أن البحارة العرب قد سبقوا كولمبس في الوصول الى
أمريكا .
تدمير الحضارات
الاخرى
أن إكتشاف العالم الجديد
ساهم بشكل خطير جداً في الإسراع بعملية النهضة والتقدم لما حصلت عليه
أوربا من خيرات وفيرة من هذا العالم .. لكن أدى ذلك في الفترة ذاتها الى
تدمير حضارة السكان الأصليين في أمريكا الشمالية وأبادتهم .. في حين تصدعت
حضارة السكان الأصليين في أمريكا الجنوبية بفعل الغزو الأوربي للقارتين .
الاختراعات العلمية
ومن أحداث هذا العصر ما
حصل من تطور علمي خاصة في مضمار العلوم الطبيعية .. التي كانت البرجوازية
بحاجة ماسة الى تقدم مثل هذه العلوم لتطوير إمكاناتها الإقتصادية من خلال
الاختراعات العلمية من جهة وتوظيفها في نسف الأسس الواهية للفكر الأقطاعي
من جهة ثانية .
ففي علم الفلك شاعت
نظرية كوبر نيكوس ( ١٤٧٣ – ١٥٤٣ ) القائلة بأن الأرض تشكل إحدى توابع الشمس
وتدور حولها في حين كانت الكنيسة تعتقد أن الأرض هي مركز الكون والشمس
تدور حولها .
تحرير العقول
وهكذا في مجال علم الطب
حيث تقدم علم التشريح كثيراً .. بالإضافة الى التقدم الحاصل في علوم
الرياضيات والجيولوجيا والتعدين ، الأمر الذي ساهم في تحرير العقول من
الخرافات والجهل . هذه بعض أهم الأحداث التي رافقت عصر النهضة وكانت الأساس
الذي شيد عليه العصر الصناعي والتكنولوجي الذي غير وجه التاريخ العالمي .
الفصل الثالث
الطبيعة الخلابة جعلت
ايطاليا رائدة النهضة الاوربية
النهضة
الأوربية عصر قائم بذاته .. فهو عصر الآداب البديعة والفنون الخلاقة .. عصر
أنهيار القيم القديمة وتصدع جدران التقليد والأتباع .. عصر العلم الجديد
والقيم الجديدة .. عصر المغامرة والإستكشافات الجغرافية .. عصر التحول
والأنتقال من العصور المظلمة الى عصور الحداثة .. والأنوار .. عصر النبل
والوفاء والمرح والجدية .. ولكنه أيضاً عصر الأستبداد والغدر والخيانة ..
وعصر الآلام والتهكم .
تباين مظاهر
النهضة
أن مظاهر النهضة
لم تقتصر على بلد أوربي دون سواه ، ولاجرى تطورها أو ذبولها بذات الوتيرة
ونفس النمط .. فقد تباينت هذه المظاهر بحسب ظروف كل بلد من تلك البلدان ..
إلا أنه يمكن القول بوجود نوع من الإجماع العام على اعتبار إيطاليا مهد
النهضة الأوربية ، وفيها بدأت الحركة الأنسانية التي رفعت راية النهضة
وجعلت من الأنسان محور الآداب والفنون والعلوم والفلسفة والأخلاق .
مهد النهضة
مهدت للنهضة
في إيطاليا عوامل عديدة ، سجلت لها السبق على باقي الأقطار الأوربية .. حيث
كان لها من الخصال المهمة ما تمثل في حركة أحياء العلوم والآداب القديمة
.. وظهور اللغة الإيطالية الحديثة .. مع رغبة عارمة في التجديد خاصة في
مجال الآداب والفنون الجميلة ، الأمر الذي أمتد الى غرب أوربا الذي نهد الى
معارج النهضة حتى بزّ إيطاليا فيما بعد في رحلات استكشاف العالم الجديد ،
والأصلاح الديني ، والتفوق العلمي والسيطرة على زمام أمور العالم غير أن
إيطاليا تبقى الأرض التي ظهرت فيها أفكار النهضة قبل غيرها بفعل مجموعة
عوامل متفاعلة ومتداخلة .
الأحد يونيو 27, 2010 3:35 pm من طرف سميح القاسم