05 مايو 2015 بقلم
زكي الميلاد قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:من التساؤلات المعرفية والنقدية المهمّة المتعلّقة بالحداثة، التساؤل حول مفهوم الحداثة؛ أهو مفهوم خاص أم مفهوم عام؟
بمعنى هل مفهوم الحداثة مفهوم خاص بالغرب يتأطّر بثقافته، وتراثه، وتاريخه، ويتحدّد به، وينحصر عليه، ولا يتعدّاه إلى غيره، فهو المخوّل الحديثَ عن هذا المفهوم دون سواه، وهو المعنيّ بتحديد ماهية هذا المفهوم، وهويته، ومادته، وصورته، وجهته، ومساره!؟
هل هو مفهوم عام ظهر في كلّ الحضارات، وعرفته جميع المدنيّات، وعبّرت عنه مختلف التجارب الحضارية، التي مرّت على التاريخ الإنساني في أزمنته القديمة والحديثة، ومن ثمّ هو مفهوم عام لا يحقّ للغرب أن يحتكره لنفسه، ويعلن تملّكه، ويكون وصياً عليه، وإنّما يحقّ للحضارات والمدنيات الأخرى أن تكون شريكة في التعبير عنه، بلا وصاية أو احتكار من أحد!؟
أمام هذا السؤال الجدليّ والإشكالي، يمكن القول إنّ مفهوم الحداثة مفهوم خاص من جهة، ومفهوم عام من جهة أخرى، بلا تناقض، أو تعارض، مفهوم خاص من ناحية المبنى، ومفهوم عام من ناحية المعنى.
من ناحية المبنى، الحداثة، بهذا الرسم للكلمة، وبهذا النطق اللساني، من ابتكار الغرب، وتُحسب، من هذه الجهة، على الأدب الأوروبي الحديث، وفي هذا النطاق تحدّد المعنى الخاص لفكرة الحداثة، الذي أراد منه الغرب أن يعبّر، من جهة، عن طبيعة تجربته الفكرية والتاريخية، التي تعدّ -لا شك- واحدة من أضخم التجارب الفكرية في التاريخ الإنساني الحديث والمعاصر، ويعبّر، من جهة أخرى، عن طبيعة رؤيته لفلسفة التقدم والتمدن.
ومن ناحية المعنى، والمفهوم العام، تمثّلتْ مفهومَ الحداثة، وعبّرت عن روحه وجوهره، جميعُ التجارب الحضارية، التي مرت على التاريخ الإنساني، فهذه التجارب حالات وأنماط من التقدم، معبّرة عن روح التقدّم، وفلسفته، وهذا هو جوهر الحداثة وروحه.
وما من حضارة ظهرت إلا وكانت حضارة حديثة وحداثية، ومعبّرة عن الحداثة في أبهى صورها، وأرفع درجاتها، وأعلى مراتبها، وليست هناك حضارة لا تعدّ حديثة وحداثية، ومعبّرة عن الحداثة في معناها العام، وكلّ حضارة، في عصرها، هي حضارة رائدة في الحداثة، ومعبّرة عن مركز الحداثة في عصرها، الحداثة بمعنى فلسفة التقدم.
وما هو ثابت أنّ التاريخ الإنساني مرّت عليه، بلا توقف، حضارات عدّة؛ فقبل الغرب كانت هناك حضارات، وبعد الغرب ستكون هناك حضارات أيضاً، الأمر الذي يعني أنّ الحداثة قد مرّت على كلّ هذه الحضارات، التي كانت قبل حضارة الغرب، وستمرّ على الحضارات القادمة بعد حضارة الغرب.
وبهذا اللحظ، مرّت الحداثة على الحضارة الإسلامية، كما مرت على الحضارات الأخرى، وإنّ الحضارة الإسلامية مثّلت محطة من محطات الحداثة، ورافداً من روافدها، ومساراً من مساراتها.
لكنّ الذي يختلف بين هذه الحضارات نوعية الحداثة، التي تتصل بها ودرجتها، فالحضارة الصينية، مثلاً، لها حداثتها نوعاً ودرجةً، والحضارة الهندية، كذلك، لها حداثتها نوعاً ودرجة، وهكذا الحال مع الحضارات اليابانية، والأمريكية، والإسلامية، وغيرها من الحضارات الأخرى، بما في ذلك الحضارة الغربية.
والاختلاف في الحداثة، نوعاً ودرجةً، ناشئٌ من تأثيرات عوامل المكان والزمان، وظروف البيئة من جهة، وعالم الأفكار، ونظام القيم والأخلاق من جهة ثانية، وطبيعة التجربة والخبرة من جهة ثالثة، وهي التأثيرات التي تؤثّر في جميع الحضارات، وتكوّن طبيعتها، ومزاجها، وبنيتها، وروحها العامة.
هذه هي صورة الحداثة بين المعنى العام والمعنى الخاص، ويتّصل بهذا المنحى النقاش الفكري والنقدي العابر بين الأمم، والمتمحور حول السؤال: أتوجد حداثة أم حداثات؟ فهناك ميل إلى تقبّل فكرة الحداثات المتعدّدة والمختلفة، الأمر الذي يفكّ علاقة الارتباط بين الغرب والحداثة، ويجعل طرق الحداثة متعدّدة لا تنحصر في طريق واحد هو طريق الغرب، ويفتح المجال أمام تبلور نماذج من الحداثات المختلفة عن حداثة الغرب.