16 يونيو 2015 بقلم
أنس الطريقي قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:اليوم (25/5/2015م)، جاءتنا، من السعوديّة، مشاهد مرعبة لأشلاء أجساد فجّرتها حميّة معلنة إلى الله، وفي الأمس، بثّت وسائل الإعلام المرئيّة صوراً قادمة من حلب السوريّة تعرض حشوداً تتظاهر من أجل إقامة دولة الخلافة. كان المشهد، كالعادة، مؤثّثاً بكلّ الطقوس التعبويّة للجماهير، فنزعة المحاكاة، هنا، تمثّل، عند دعاة المشروع، واحدة من أهمّ الخصائص الإنسانيّة، التي تُستغلّ للترويج له. وعلى الرّغم من كثرة القرائن على أنّ مَن يقف خلف الستار، ويحرّك الجموع، ليس سوى أهمّ أعدائها، وأعداء الأمّة التاريخيّين، فإنّ المؤكّد، أيضاً، أنّ الكثير من أفراد هذه الجموع يعي ما يطالب به فعلاً، وتمثّل، عنده، الخلافة الحلّ الذي لا حلّ غيره لإدارة السياسيّ في العالم الإسلاميّ. والغريب، فعلاً، أنْ تواصِل هذه الجماهير هذا التعلّق بمثال للحكم ولّى زمانه منذ وفاة آخر الرّاشدين؛ بل ربّما هو لم يُوجد، أصلاً، في ذلك الزمان، لولا أن وقع تكريسه في الذّاكرة بأحداثٍ ربّما تكون الكتابة - وقد كانت نقلة في الفكر قبل الواقع - أولى عمليّات مأسسته في الوعي، وتسييجه في تصوّرات صارت، بالتقادم، تمثّل قبليّات من قبليّاته الأساسيّة.
ليس غريباً، في هذه الظاهرة، أن يستعيض العالم الإسلاميّ، أو قسمه المؤمن، بفكرة الخلافة، عن تخيّل طريقة تنظيم سياسة دنياه بتذكّر ماضيه. فمنذ زمن ليس بالقصير، بيّنت التاريخانيّة أنّ التخيّل والتذكّر ليسا فعلين متناقضين إبداعيّاً، كلاهما ينتمي إلى المتخيّل، بوصفه طاقة مُنتجة للمعنى باستمرار. ومن هذه الزاوية، لم نستغرب عودة الدعوة إلى الخلافة، مادام عمل الذاكرة أوحى للأوروبّيين، أيضاً، باستعادة الديمقراطيّة من الماضي اليوناني، بعد ما يقارب اثنين وعشرين قرناً؟ ألم تُسترجع هذه من أعماق التاريخ اليونانيّ، وقد أُغلق بذكرى فشلها بعد هزيمة أثينا الشهيرة، التي أوجدت لأفلاطون، أحد أعظم فلاسفة البشريّة على الإطلاق، مبرّرات نقده اللاّذع لها؟
يبدو أنّ هزيمة الخلافة، في تاريخها الإسلاميّ البعيد، بعد مقتل الخليفة الرّاشدي الثالث، أو في تاريخها العثمانيّ القريب، بعد تفكّك الإمبراطوريّة العثمانيّة، لا تكفي لنقضها، والإقناع بضرورة البحث عن بديل لها، وليتمسّك علي عبد الرّازق، في الرّبع الأوّل من القرن العشرين، وعبد اللّه العروي، بعده بنصف قرن، بزعم أنّها طوبى لم تُوجد أصلاً في التاريخ، فلن يكفّ المتحمّسون عن المناداة بها، تماماً، كما نادى بها، منذ ما يقارب القرن، محمّد رشيد رضا بين كثيرين، وستبقى "الخلافة الصحيحة"، كما يحلو لعبد الرزّاق السنهوري تسميتها، التجلّي الأسمى بالمنطق الهيجلي للوعي في التاريخ، أو نهايته الحتميّة، إن استعرنا منطقاً شبيهاً له في المبدأ، هو منطق فوكوياما.
يبدو، في جميع الأحوال، أنّ الهزائم لا تُعاش، في الواقع، تقييماً عليّاً لنظام الأسباب، فثمّة خصائص كثيرة في الوعي البشري تجعل هزيمة أوروبّة في تاريخها اليونانيّ، في القرن الرّابع قبل الميلاد، كهزيمتها في تاريخها الرّوماني، في القرن الخامس الميلادي، وهزيمة العالم الإسلاميّ، في القرن السابع الميلاديّ، كهزيمته، في القرن التاسع عشر، توحي هنا، كما أوحت هناك، بنقض الديمقراطيّة، وبالعودة إلى مدينة اللّه، كما قد توحي بعكس ذلك تماماً.
لن ينتهي الحديث عن مدينة اللّه، وعن نقيضها، مادامت الميتافيزيقا، فلسفة أولى، أو، بالمعنى الأرسطيّ، حكمة قارّة في الإنسان، تحدّد مبادئ جميع معارفه عن الحياة،، وتمدّه بالمعرفة الكليّة بالعالم والإنسان. إنّها، بصفتها آليّته في التجريد، تعسّر عليه وعياً فرويديّاً برقابة للذات على ذاتها. وهل سيكون وقتها لثورة هيدجر على ميتافيزيقا الكليّة (la totalité) أيّ معنى، ما دام الوجود يبقى، حتّى داخل هذه الثورة، تحقّقاً لجوهر يتجلّى في عرض، ويبقى، على الرّغم من كونه وجوداً لا يتعيّن إلّا واقعيّاً، وجوداً لا يحقّق فيه الوجود الماهيّة، إنّما هما وجودان في جدل قارّ؟
لو تركنا ساحة هذا التفسير النفسانيّ (psychologisme) المعوّم في الفضاء الواسع للفلسفة المتشظّية بفعل ثورة التخصّص إلى مناهج معرفة إنسانيّة، لوجدنا لهذه الظاهرة تفسيرها الواقعيّ، كونها حالة كونيّة نرى تعابيرها، في أوروبّة نفسها، في مشكلات الفيضان الهوويّ (identitaire)، وما تجرّه من إجراءات محاصرته الدولتيّة بتفاصيل مؤسّسيّة تجسّد أفكاراً معبّرة عنه، من قبيل الديمقراطيّة التشاركيّة، وعلمانيّة الاعتراف، وجلّ الإجراءات المنظّمة لفكرة الغيريّة.
لكنّ المشكلة، التي تظلّ قائمة، في حالتنا الرّاهنة، تماماً كما في حالة أوروبة حاليّاً، هي الإجابة عن سؤال: على أيّ أساس نبني المشروعيّة؟
ففي ظلّ الفوضى الرّاهنة، التي يحدثها فينا سحر الديمقراطيّة التي لم نخبرها، وتوهاننا في تعلّم التوفيق بين رغباتنا ورؤانا المختلفة للحياة والسعادة؛ بل في ظلّ ارتباكنا في شأن القيم، التي يتعيّن علينا اعتمادها أفقاً لكلّ أبنيتنا للواقع، قد يكون السؤال الأجدر بنا، لأنّه السؤال الممكن، الذي يحدّده هدفنا المشترك المطلوب: ما الأساس الذي يمكن أن نبني عليه معاييرنا المشتركة لحياتنا الاجتماعيّة والسياسيّة، إذا كان لا بدّ لنا من هذه المعايير؟
هل ثمّة، فعلاً، قيم كونيّة (كما يؤمن الكونيّون (les universalistes) من كانط إلى هابرماس، مثلاً) قادرة على أن تحلّ هذا الإشكال، إن تجاوزنا كون القيم ليست ذات مضمون ثابت، إنّما هي قوالب تجريديّة، دلالتها حمولة تاريخيّة متغيّرة؟
أم نفكّر مع الرّيبيّين les sceptiques))، أو النسبويّين (les relativistes)، أو السياقيّين (les contextualistes)، في شتّى تنويعاتهم، في أنّ أفكاراً كونيّة ذات وجود موضوعيّ تبقى حلماً محض هراء
[1]؟
لو تشاغلنا عن حقيقة النزاع القارّ بين القيم؛ بل عن طبيعتها المتداخلة، كما يقرّر حسن خليل
[2] (مادام الواقع يبرهن على صلاحيّة التفسير الهوبسي لعالم الاجتماع الإنساني بأنّه عالم نزاع بالضرورة)، فما هي الحكمة التي تمثّل المعرفة الكليّة، أو النظريّة، أو الفلسفة الأولى، التي تجعلنا قادرين على اكتشاف المبادئ الأولى لكلّ معارفنا عن الحياة، وتحدّد تفسيرنا للعالم والإنسان؟
في الأنموذج الأوروبيّ الدولتيّ، وجدت هذه المشروعيّة معاييرها، وقتيّاً، في فرضيّات أخلاقيّة، كالحريّة، عَلّقت تحقّقها بالفعاليّة القانونيّة، التي تشرف عليها الدولة، يستوي، في ذلك، مَن انطلق من فرضيّة خيريّة الإنسان، ومَن أكّد "ذئبيّته" الأولى. لكن تجربة التاريخ بيّنت، في هذا الأنموذج ذاته، أنّ ذلك التأسيس للمشروعيّة من الهشاشة بمكان يجعله لا يصمد طويلاً أمام تغيّر مضامين الاكتفاء الذاتي للفرد الأوروبيّ، التي غيّرت، بالضرورة، من فرضيّاته الأخلاقيّة، ومن تعريفاتها أيضاً.
إنّ نظرنا إلى المشروعيّة من واجهتها حقّاً يتجسّد بالشرعيّة القانونيّة، فهل الحقّ أمر معلّق في الفضاء، بصفته وجوداً موضوعيّاً مغايراً، يضمن، متى توصّلنا إليه، توحّدنا في الفهم المانع لنا من التقاتل بسبب الاختلاف في الفهم؟ إن فهمنا الحقّ هذا الفهم لن تختلف نتيجته، سواء نظرنا إليه طبيعيّاً، أم إلهيّاً، أم حقّاً للملك. في تلك الأحوال جميعاً، سيكون للتوحيد العواقب نفسها، ما دام يعلّق الأفهام المتباينة، بالضرورة، بمعيار أو مسطرة. ربّما يصلح، هنا، أن نقول ما قيل في شأن ظاهرة التوحيد الدينيّة، كونها كانت أسوأ أثراً في البشريّة من مرحلة تعدّد الأديان، في مقدار ما سمحت به من تعايش نتيجة الحريّة الدينيّة.
ليس الحقّ، كما يُعرّف كلاسيكيّاً، ما يجعل الأشياء تتطابق مع جواهرها، أو ماهيّاتها، إنّما هو معياريّة تصدر عن المضمون، الذي تسنده الذاتيّة لنفسها. وهو مضمون متغيّر بالضرورة، يمنعه من كلّ اتّصال بالموضوعيّة حجاب اللّغة العازل بين الواقع والفكر. ومن ثمّ لن يكون لمعنى الحقّ من صلاحيّة إلّا ذلك الممكن، الذي يُعاش في الممارسة في الحياة الجماعيّة، التي تضمّ الذاتيّات المختلفة. وفي فضاء التعايش، يكون الصواب والخطأ ما يضمن التوازن بين الأطراف المتعايشة. هذا ما يقوله بمعنى ما التوجّه البراغماتيّ للفلسفة المعاصرة، لا سيّما في المجال الأنجلوسكسونيّ.
لكن لو نظرنا إلى المشروعيّة من جهة المضمون، الذي يجعلها مبدأ التوافق الاجتماعيّ والسياسيّ المعبّر عنه في القيم والأعراف الموجّهة للسلوك والأفعال، فإنّه يبقى، في الأحوال جميعاً، تحقيق السعادة.
وفي هذه الحالة، أيضاً، لا يخرجنا التعلّق بالسعادة من دائرة الاختلاف الخطر حول سبل تحقيقها. فمادامت السعادة قيمة مجرّدة، بدورها، فإنّ كلّ الخطر فيما تتيحه مساحة التجريد؛ تلك الرابطة بين الفكرة وتحقّقها، من إمكانيّات لتعبئة المفهوم، قد تأخذنا إلى فظاعات، كالتي نرى نماذجها في حادثة التفجير الأخيرة، في المملكة العربيّة السعوديّة.
من ههنا، نظنّ أنّ الحلّ قد يكون في العمل على تلك المساحة التجريديّة؛ أيّ على ما يمكن أن يحمله الفكر من مضمون للقيمة. قد يكون ذلك بمحاصرة الفكر، أو بتوجيهه، وههنا، ندخل ساحة المحاولة الكانطيّة لنقد ملكة الحكم، أو ساحة الفلسفة العرفانيّة، وهي تشرح مجريات عمليّة الفهم ومحدّداته. بهذه الصورة، قد يكون عملنا الرّاهن أن نقنع الأفهام المتعلّقة بامتلاك الحقيقة بأنّها ليست حرّة مطلقة في التاريخ، يكفيها العمل على نفسها، لتدرك الحقائق المطلقة، إنّما هي، كحقائقها، منتجات لقبليّات تركيبتها المتشعّبة جذورها في الطبيعة والثقافة، وهي القبليّات التي تمارس حصارها المطبق على الفهم في قنوات اللّغة، ملكة وممارسة.
من هذه الجهة، قد يمثّل هذا الوعي تلك الحكمة التي نريد، بوصفها الفلسفة الأولى، أو المعرفة الكليّة، أو النظريّة لكلّ معرفة نابعة منها. إنّها تفسير للعالم والإنسان يمكّن من كبح كلّ اكتفاء ذاتيّ حول أيّ مضمون معيّن في تفسيرهما، قد يمكّن من الاستجابة لشروط العيش العمليّة، دون أن تنفصل عن إرادة تأسيسها معرفيّاً، فهي الجهة التي توافق الارتباط الضروريّ في كلّ فعل بين مبدئه النّظريّ في الفكر، وقصده العمليّ في الواقع، وهي الجهة، التي توافق الازدواج المكين في الإنسان الذي يميّزه. وهو، كونه واقعيّاً وميتافيزيقياً بالضرورة، وأنطولوجياً بالضرورة، متديّن بالضرورة.
قد يعني هذا، في النهاية، أنّه ليس متديّناً إلاّ لكونه متفلسفاً، ومن ثمّ، فإنّه، تماماً، كما قد يكون، سبب وقوعه في فظاعات تديّنه، قلبه لأولويّة تفلسفه على تديّنه قد يكون في تصحيحه لانحراف هذه الأولويّة؛ أي باستعادته لأولويّة تفلسفه على تديّنه حلٌّ لمأزقه الدينيّ التعايشي الحاليّ.
إنْ حرّرنا الإنسان من آليّة إسناد قيمة مطلقة لتعريفه الميتافيزيقي لنفسه وللعالم، الذي يستند إليه في تأسيس طرق تنظيم واقعه، فقد نتوصّل إلى توفير أوّل أساسات المشروعيّة. وليس المقصود، هنا، أن يقتنع العقل، فحسب، بنسبيّة المضامين التي يكتشفها للعالم والإنسان، وإنّما أن يقتنع هذا العقل، أيضاً، بأنّ التأسيس الميتافيزيقي للحياة، لابدّ من أن ينبع من تأمّل فيها يدرك أنّه ما من تفسير لها يحظى بقيمة مطلقة. ومن ثمّ، عليه، بالضرورة، أن يتخلّى، في نظرته إليها، عمّا يجب أن يكون ليفكّر فيما هو موجود وكائن وممكن. وفي عالم الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة، الممكن الوحيد والواقع هو أنّنا نعيش معاً، لا غنى للواحد منّا عن الآخر. ويعني هذا، لو قارنّاه بالمبادئ الكبرى لتأسيس المدن، كما صاغها معلّموها الأوائل، أنْ نتخلّى عن المنهاج الأفلاطونيّ المهيمن فيها على فكرنا، المنهاج الذي يبنيها على أخلاقٍ أنموذجُها كونيٌّ متعالٍ، لنبنيها على أخلاقٍ أنموذجُها واقعيٌّ دنيويٌّ، ومبدؤها فكرة الغيريّة والتعايش.
لن ينفعنا التفكير النظريّ في الصواب والخطأ قدر ما ينفعنا التفكير في الممكن الضامن للحياة الجماعيّة الكريمة. ليس هذا تبنّياً لعدميّة تنفي القيم، إنّما هو تحويل لمقرِّها ولمضمونها، حسب مضمون وعينا التاريخي الرّاهن، من قيم تكتشف في الهناك المغاير مهما كان نوعه، وتجعله سقفاً مطلوباً للواقع، فكأنّها تجعل الواقع خادماً لما هو خارج عنه، إلى مبادئ يجب أن تخدم الآن، والـ هنا المحايث، وتستخرج منه شرطاً لاستمرار الحياة فيه جماعيّاً.
في هذا الزمن، الذي مازلنا نرى فيه أنّ الدعوة إلى الخلافة من مكر التاريخ، تماماً كما نرى أنّ الدولة، على الرغم ممّا فيها من مساوئ تكوينيّة، لا تزال تتمتّع، عندنا، بصلاحيّة كبرى لحلّ إشكالاتنا السياسيّة، قد يمثّل هذا الأساس الممكن للمشروعيّة نوعاً من العلمانيّة، لا من جهة استبعادها التعريف الدينيّ للحياة، إنّما من جهة محورتها لهذا التعريف، ولكلّ التعريفات المنبثقة عنه، حول فكرة الممكن فعله جماعيّاً، لنتمكّن من العيش جماعيّاً، باعتبارها الضامن الوحيد للتعايش والغيريّة.