| |
كتب أحد القراء الفضلاء على جدار الفيسبوك تعليقا على ما كتبته عن الأخلاقيات الثقافية، مؤكدا أنه ليس من المستغرب اتهامي بكوني لست حداثيا، ما دمت أربط الأدب بالأخلاق. لم أتعجب من هذا لأني أرى أن العديد من المفاهيم توظف عندنا، لأننا لم ننتجها، باعتبارها «أيقونات»، بالمعنى الأصلي للكلمة، ونظل نكررها كتعاويذ، بدون الوعي بحمولاتها الفكرية والفلسفية الملائمة. لا أخفي حساسيتي الفكرية تجاه العديد من المصطلحات التي نرددها في مجالنا الثقافي والأدبي نقلا عن أصولها الغربية. ولذلك كنت حريصا في مختلف كتاباتي على تتبع المصطلحات والمفاهيم التي اشتغلت بها، في جذورها، ورصد مختلف الآراء والاتجاهات بصددها، مع الوقوف على التبدلات التي تطرأ عليها في الزمن، وصولا إلى إعطاء تحديد خاص للكيفية التي أشغلها بها. رغم كون المرحلة الثقافية التي انخرطت فيها في المجال الأدبي (السبعينيات) تزامنت مع ظهور مفهوم «الحداثة» في الأدبيات العربية، فقد كنت ميالا إلى رفضه لعدم اقتناعي بجدواه الإجرائية، لا في وصف الظواهر، ولا في طرحه بديلا لما ينبغي أن يكون في واقعنا العربي. ولذلك لم أكن أستعمله، ولست من المنافحين عنه. كنت أراه امتدادا لمصطلح «المعاصرة»، وتنويعا له على المستوى الأدبي والفكري. وسوف لا يتم البحث عن أصول المفهوم الفلسفية والفكرية الغربية، إلا في أواخر الثمانينيات، بعد أن تم تجاوزه في الكتابات الغربية، وبدأ يظهر مفهوم «ما بعد الحداثة». من يوسف الخال، إلى المجاطي، مرورا بأدونيس وغالي شكري،،، ظل مفهوم الحداثة مستهلكا باعتباره مفهوما جديدا لتحديث الفكر والإبداع. كان يبدو لي مفهوما سجاليا، لا يختلف كثيرا عن الإيديولوجيا التي كانت تلاك بابتذال كبير. استعملت الحداثة بديلا عن التقليد، وتم البحث عن بعض تجلياتها في كل ما كان مناهضا للقديم حتى في العصور الخالية. وصار باسمها ودفاعا عنها، يتم الحديث عن «هدم» اللغة، و»تكسير» بنياتها،،، فلم تكن النهاية غير «صوفية» مفتعلة، على مستوى الإبداع الشعري، ونقد شعري مبني على التلفيق اللغوي واستعارات لا معنى لها. فكانت «الحداثة» مقبرة الشعر، وقد صار ألغازا ولغات مبهمة. وترك الشعر العربي المعاصر مكانته التي ظل يحتلها لفائدة «الرواية»، وقد صار ينظر إليها على أنها «ديوان العرب الجديد». فهل المسؤولية هنا تقع على «الحداثة»؟ وعلى ما تدعو إليه؟ أم على التصورات التي فهمت وروجت بها في فضائنا الثقافي، أم على الممارسات، وقد أصحبت تعويذات علينا «إلصاقها» بنصوصنا الشعرية لكي تكون «حداثية»؟ جاءت الرواية العربية لتحتل مكانة متميزة في المشهد الثقافي العربي. ومن حسن حظها أنها لم تقع فريسة «الحداثة»، وهي تسعى لفرض وجودها في الساحة. عملت الرواية على تجديد الرواية الواقعية، تحت اسم «الحساسية الجديدة»، أو «التجريب»، واستفادت من مختلف التحديثات التي عرفتها الرواية الأجنبية في صيرورتها، وهي تنتقد الواقع، وتبحث عن المعنى. كانت «حداثية» بامتياز. وليست الحداثة هي سوى محاولة البحث عن معنى في عالم بلا معنى. ومن هنا كان ارتباطها بالعصر «الحديث»، أي بالتغيرات العميقة التي عرفها، وهو قيد التشكل، وبمنأى عن اليقينيات الكبرى، والإيديولوجيات الثقيلة. انبنت الرواية العربية على ثنائية «التأصيل» و«التجريب»، وليس على القديم والحديث كما وقع مع الشعر، فكان أن انخرطت التجربتان اللتان تستفيدان من التراث السردي ، أو الواقع أو من الرواية الغربية، وحاولتا معا أن تسهما في تشكيل رواية عربية جديدة، وهي ما تزال تواصل مسيرتها في هذا الاتجاه. على المستوى السياسي والإعلامي والفكري، وبعد فشل المشروع اليساري، وظهور التيار الإسلامي، منذ التسعينيات، بدأت الحداثة تبرز مختزلة، كما كان عليه الأمر في السبعينيات، كنقيض للقديم، وقد صار مختصرا في الإسلام السياسي، ولاسيما في بعده المتطرف الذي ينادي بالجهاد، والتكفير، والخلافة. فصارت شعارا يلوح به في وجه الإسلاميين، بدون أن توفر له خلفية فكرية واجتماعية واقتصادية، كما يحدث مع المفاهيم عادة حين تبرز في مجال من المجالات. باتخاذ «الحداثة» معنى سجاليا، صارت تستعمل بدون معنى ملائم لما تقتضيه أبعاد التوظيف التحليلية، فكانت الفوضى. يستعمل هذا المفهوم المبدع الفاشل، والفنان الذي لا موهبة له، والإعلامي الانتهازي، والناقد الذي لا يميز بين المدارس الفكرية، والليبيرالي المتوحش، والديكتاتور، والاقتصادي الفاسد،،، هذا إلى جانب المثقف الملتزم. فلم تظهر المعاني «المتناقضة» التي صار يوظف من خلالها. وكان طبيعيا أن يتم الدفاع عن الرداءة باسم الحداثة، وباسمها صار الدفاع عن اللأخلاق، وعن الطائفية، وعن النزعات العرقية، وعن كل القيم اللاإنسانية، وقد صارت وجها من وجوه «الحداثة». إذا وضعنا مقابل هذه «الحداثة» في مفهومها العربي، تلك «العتاقة» التي تمثلها التيارات الإسلامية المتطرفة، لا نجد أي فرق بينهما، وإن اختلفت المسميات. إنها بدورها ضد الأخلاق وضد القيم حتى التي تنطلق منها، والتي باسمها تمارس الحروب ضد الإنسان. إنهما وجهان لعملة واحدة. الحداثة في الغرب تصور متطور للإنسان والمجتمع، وليس أقنوما مطلقا ولا ثابتا. وموضوع الأخلاق أصبح محور الحديث عن الحداثة، وما بعدها.