الانسنة - التنوير - العلمانية - من اهم ثلاتة مصطلحات تحضر في حديث اركون في ندواته و لقاءاته و يقوم بالقاء الضوء عليها في اطار قراءة تاريخية توظف كلا من مصطلح علم الاجتماع و الانتروبولوجيا فهو في قراءته لامتداد هذه المصطلحات في التاريخ ياخذ بعين الاعتبار الوسط الاجتماعي الذي تنتشر فيه بمفاهيمها و الشروط الاجتماعية التي تؤدي الى ظهورها و تسمح لها بالبقاء و الاستمرار او تقوم بالقضاء عليها و تحد من انتشارها .
و الانسنة كما يعرفها بايجاز هي اهتمام الانسان بقضايا الانسان من اجل الانسان او ما يمكن ان نعرفه بالسلب و هو الاهتمام بقضايا الانسان لاجل الانسان كغاية و ليس كوسيلة لغايات مفارقة و غائبة , و التنوير هو انتاج معرفة كونية تصلح لكل الانسانية في كل مكان بغض النظر عن اعتبارات الخصوصية العرقية او الثقافية او ما يمكن ان نعرفه بالنزعة العلمية التي تتميز بعالميتها من حيث عالمية قوانين العلم التي يمكن تطبيقها في كل انحاء العالم , و يختزل العلمانية في احقية التشريع و سن القوانين للانسان كمعني بهذه القوانين و كونها تتعلق بشؤون حياته حيث يرجع بداية العلمانية للمناظرة التي دارت بين هيغل و تلميذه ماركس في بدايات القرن العشرين في كتاب هيغل في العشرينات و رد ماركس عليه في الاربعينات ودارت المناظرة حول قضية التشريع و سن القوانين .
و يتعرض للتجربة التي عرفتها الثقافة الاسلامية من اهتمام بالفكر الفلسفي واعتماد العقل الاسلامي على الرافد الفكري الانساني في فهم الانسان و الكون باطلاعه على التراث اليوناني وما تم على يد الفلاسفة المسلمين من مفاضلة بين الحكمة و الشريعة و النبوة و الفلسفة و انتصار البعض منهم(الفارابي-المعلم الثاني) للفيلسوف على حساب النبي باعتبار النبوة تعتمد في الوصول للحقيقة على قوة المخيلة من خلال الرؤيا التي هي جزء من اربعين جزء من النبوة و الوحي الذي هو رؤيا تحصل للنبي في اليقظة , بينما الفيلسوف يصل للحقائق عن طريق النظر و التامل في الواقع فيصل للحقيقة بفضل جهده الخاص او يصل اليها عن طريق (اتصاله بالعقل الفعال) , و الحقائق التي يصل اليها الفيلسوف لا يمكن ان يطلع عليها او يفهمها الا فيلسوف مثله بينما الانبياء اكثر اتباعهم من العوام و السوقة لانهم يخاطبون الناس و يبسطون لهم الحقائق التي يطلعون عليها من الغيب بلغتهم و مفاهيمهم , لكن هذا الاتجاه الفكري لم يكتب له النجاح و لا الاستمرار بسبب ظهور تيار فكري لا هوتي نقيض يحرم الفلسفة و يقضي بزندقة المشتغلين عليها و اعتبار المعارف الانسانية التي انتجها الانسان علوما دخيلة على الاسلام و تهدد بقائه و تشل نفوذه وان الحضارة الاسلامية في غنى عن هذه العلوم الدخيلة و كتب لهذه النظرة الاخيرة البقاء الى يوم المسلمين هذا او قل للفرقة الاسلامية التي سادت الحياة الاجتماعية و السياسية و العقائدية للمسلمين .
و يقوم بعقد المقارنة بين التجربة الاسلامية التي انتهت بانتصار اللاهوت و النظرة الغيبية و سيطرتها على الوعي و الثقافة الاسلامية و العربية والتي اسهمت او ادت لاتساع رقعة اللا مفكر فيه و التجربة الغربية التي نجحت في الافلات من قبضت اللاهوت و النظرة الغيبية على العقل و الثقافة و العودة الى النزعة الانسنية في النظرة الى الكون و الانسان بالعودة الى الجذور الانسانية الرومانية في الحضارة و التشريع و اليونانية في الفلسفة و الفكر و الاداب فالفلسفة تكاد تكون عنده شرطا لتحقيق الانسنة و النظرة الغيبية و سيطرة اللاهوت شرطا لانتفائها و يعزوا هذا الفشل في السياق الاسلامي و النجاح في السياق الغربي الى الجماعات البشرية التي تمثل البعد الوجودي لهذين التيارين الفكريين او دعنا نسميه بالبعد الاجتماعي الذي يمثل وسط انتشار الافكار و انماطها فنجاح نمط من هذه الرؤى الفكرية رهين بالجماعة البشرية الحاملة له و اتساع نفوذها و انتصارها على الجماعة البشرية النقيضة لها ففي السياق الاسلامي قد كان علو كعب الاتجاه الانسني و العلوم الدنيوية (المعتزلة و اهل الكلام )على حساب الاتجاه اللاهوتي و الغيبي (اهل الحديث)رهينا بهيمنة الفئة الاجتماعية التي تبنت هذا الاتجاه على الحكم و لم تفلت بدورها من فرض رؤيتها على بقية الفئات الاخرى بالقهر بحكم نفوذها و سلطتها و هو الامر الذي انقلب الى النقيض عندما تحولت السلطة الى يد الفريق الاخر وهو هذا الاخير الذي بقي ممتدا في الثقافة و الفكر العربي الاسلامي , بينما في السياق الغربي فيعود الفضل في عصر النهضة و الانوار للجماعة البشرية(البرجوازية) التي حملت على عاتقها مهمة التنوير و التحديث و تطوير الصناعة و بالتالي تطوير اليد العاملة من خلال تعميم المعرفة و التعليم وتمت هذه العملية في اطار سياق من الصراع بين جماعتين بشريتين تتمثلان في الاقطاع و الكنيسة من جهة و البرجوازية و الفلاسفة و العلماء من جهة اخرى و الذين حسم الصراع لحسابهم في النهاية .
فالمسالة اذن تاخذ ابعادا شتى و على اكثر من بعد فقضية الانسنة ترتبط بالانسان هذا الكائن الاجتماعي الذي تداخله قضايا السياسة و الاقتصاد و الاجتماع و الثقافة بكل روافدها و الدين احد روافد الثقافة و ليس هو كل الثقافة وعندما يسود الدين الثقافة ليصيرها فيكون هو الثقافة و الثقافة هي الدين فيصبح الوعي الاجتماعي عائما في الغيبيات او قل غائبا عن واقعه الذي يعيشه و الذي هو قضيته الاولوية فيصبح قضية ثانوية تتقدمها قضايا ورائية غيبية بدورها و بالتالي تغيب حقوقه و حقه في تحديد مصيره و يفوض امره للغيب الذي يمثله رجال من اهل الدنيا وهو لا غنى له عنهم حتى يصلوا حبل الوصال بينه و بين الغيب الذي يطل من خلال هذه الجماعة المسيطرة على الحكم ومن شايعها دائما فهناك غايات و اهداف استراتيجية تقف ورائها كل التعقيدات السالفة الذكر من قضايا السياسة و الاقتصاد و الاجتماع و الجماعات البشرية التي تقف خلف كل من الاتجاه الانسني الواقعي الذي يؤكد على حق الانسان في الوجود و التدخل في تحديد مصيره او الاتجاه الغيبي الذي يغيب الانسان و يغيب حقه .