قضية القاتل النائم(
*)
في حالة الموت العصبي(
1) فيما بين النوم واليقظة، قد ينقلب الهذيان الذهني إلى حقيقة مأساوية.
<.J ڤلاهوس>
باختصار ليس كون الدماغ نائما أو مستيقظا مسألة إما-أو، وفقا لرأي بعض العلماء. توحي أبحاث العلماء أن ما نعتبره نوما، أي العيون المغلقة وسكون الجسد وغياب الوعي، يحدث فقط بعد دخول عدد من أجزاء الدماغ المختلفة في حالة النوم. إذا كانت فرضية النوم الجزئي هذه صحيحة، أمكن لبعض أجزاء الدماغ أن تكون نائمة في الوقت الذي نبدو فيه مستيقظين فعلا، والعكس صحيح. يمكن لهذه النظرة الجديدة أن تفسر سبب إمكان ارتكاب بعض الأشخاص، في حالات نادرة جدا، جرائم خطيرة في أثناء النوم، منها القتل. |
لم يكن هناك أي شيء غير عادي ظاهريا في الرجل الذي حضر إلى المركز المحلي لاضطرابات النوم في مينيسوتا(
2) في السابع والعشرين من الشهر6/2005.
لقد كان <.B آدويو> (ليس هذا اسمه الحقيقي) يسير في أثناء نومه،
شأنه شأن آلاف المرضى الآخرين الذين يأتون إلى العيادة. فمنذ الطفولة،
كان هذا الطالب الجامعي الذي يبلغ السادسة والعشرين من عمره وينحدر من
أصل كيني، يتجول ليلا وهو نائم، غير أن سلوكه أخذ يزداد سوءا في
الآونة الأخيرة. تزوج <آدويو> في الشهر 2/2005،
وفي إحدى الليالي استيقظت زوجته وهو يهزها وينظر إليها من فوق سريرهما
ويهمهم همهمة مبهمة. وفعلت ما بوسعها لإيقاظه وهي مذعورة. أما هو فلم
يذكر شيئا بعد استيقاظه. كانا يسكنان شقة تتألف من غرفة نوم واحدة، في
پلايموث، إحدى ضواحي مينياپوليس، وكان سيره في أثناء نومه يعكر صفو
زواجهما الحديث العهد. وقد سجل طبيب الرعاية الأولية، الذي كان يعالج
<آدويو>، في الاستمارة المرجعية الخاصة به أن زوجته كانت «تفزع
من سلوكه أحيانا، ولكنه لم يكن مؤذيا.»
بعد تقييم حالة <آدويو>، طلب إليه أطباء مركز النوم أن يعود في العاشر من الشهر 8/2005
لإجراء تخطيط كهربائي لدماغه ليلا، ودراسة الموجات الكهربائية الصادرة
عنه في أثناء نومه. وفي منتصف تلك الليلة، أخذ <آدويو> يضرب ما
حوله بعنف ونزع الأسلاك المتصلة بالأقطاب الكهربائية ونتف خصلا من
شعره؛ ولكنه لم يستيقظ. وفــي صبيـحــة اليــوم الــتــــالــي،
أخـبـــر <.C .M بورنمان> [مدير مركز اضطرابات النوم]
<آدويو> بأن الدراسة تعزز تشخيصا لأحد اضطرابات النوم يعرف بخطل
النوم(
3) non-REM parasomnic. ومستذكرا كيف أن <آدويو> نزع المحسات عن رأسه، سأله: «هل تتذكر أي شعور بالألم أو الإجهاد؟»
فأجاب <آدويو> فورا ومن دون تردد: «كلا».
حصلت زيارة <آدويو> التالية لمركز النوم في السابع عشر من الشهر 10/2005،
وقد قال في أثنائها إن مضاد الاكتئاب الذي وصفه له <بورنمان>
لعلاج السير في أثناء النوم لم يفده. لذا، رفع <بورنمان> مقدار
الجرعة من ميلي غرام واحد إلى اثنين. وأمل الطبيب بأن يكون قد استطاع
مساعدة مريضه. ويستذكر <بورنمان>: «لقد كان ألطف شخص عرفته،
وودودا ومحبا للمشاركة. ولم يخالجني أدنى شك في أن هذا الرجل يمكن أن
يحمل في قلبه ذرة شر واحدة.»
ولم
يعد <آدويو> إلى المركز قط، واكتشف أطباء النوم السبب بعد عدة
أشهر عندما تلقوا رسالة من مكتب المحامي العام في مينيسوتا يخبرهم فيها
بأنه في التاسع عشر من الشهر 10/2005، أي
بعد يومين فقط من زيارة <آدويو> الأخيرة للعيادة، اعتقل بسبب
قتله زوجتَه، وهو الآن متهم بهذه الجريمة. وجاء في الرسالة: «نبحث عمن
يمكننا استشارته بخصوص إمكان وجود أي علاقة بين اضطراب النوم هذا
وجريمته.»
لعله كان حُلما(
**)
من
حقائق النوم الأساسية وغير القابلة للنقاش على ما يبدو، أن المرء إما
أن يكون نائما أو مستيقظا. ومن المؤكد أن العلماء يقسمون حالة اللاوعي
إلى دورات نوم ذات حركات عينية سريعة وأخرى ذات حركات غير سريعة،
ويقسمون الأخيرة إلى ثلاث مراحل جزئية. إلا أن معظم العلماء، الذين
درسوا سكينة الإنسان مدة تزيد على قرن، يدعمون إجمالا المفهوم القائل
إن النوم واليقظة هما حالتان متمايزتان تفصل بينهما حدود مُعرَّفة
تماما.
ولكن
القضاة والمحلفين يشككون في هذه الحدود الصارمة المفترضة عند تفسير
جريمة كجريمة <آدويو> استنادا إلى اضطرابات النوم. فالحجة «كنت
نائما عندما فعلت ذلك» تبدو حجة دفاع واهية يلوى بها عنق العلم لإخلاء
المسؤولية الشخصية. فكيف يمكن ألا يكون الشخص مستيقظا تماما إن كان
قادرا على الاعتداء على شخص آخر وإيذائه أو قتله؟ إلا أنه حدثت في
العقدين الأخيرين ثورة في علم النوم بظهور نظرية جديدة تساعد على شرح
كل شيء، من جرائم النوم إلى الطبيعة الأساسية للنوم نفسه. ووفقا لقول
<بورنمان>: «ليست حالتا النوم واليقظة ظاهرتي استرخاء عصبي كامل
أو عدمه، أو ظاهرة أبيض وأسود. إن النوم يمتد على طيف واسع من
الحالات.»
إن
فكرة أن يكون الشخص نشطا جسديا وغير واع ذهنيا هي فكرة راسخة في
الثقافة الشعبية - تذكّر سَيْر الليدي ماكبث في أثناء النوم في مسرحية
شكسبير(
4)- وفي قاعات المحكمة. لقد استُعمل السَّيْر في
أثناء النوم أول مرة في تاريخ القضاء الأمريكي عام 1846 للدفاع عن
<.J .A تيرل> الذي قتل مومسا بقطع رأسها بموسى حلاقة. وقبل مدة
ليست طويلة، عام 1987، قام رجل عمره 23 عاما واسمه <.K پاركس> في
تورونتو بكندا بقيادة سيارته مسافة 14 ميلا وقتل حماته، وزُعِم أن كل
ذلك قد جرى لاشعوريا في أثناء سيره وهو نائم. وبناء على ذلك حصلت
تبرئته.
وتحتل
قصص القتل في أثناء النوم العناوين الرئيسة في الصحف، ولكنها، لحسن
الطالع، تبقى نادرة. ففي دراسة نُشِرت عام 2010 في مجلة علم الأعصاب:
الدماغ(
5)، س5)، سُرِدت 21 حالة، بُرِّئَ المتهمون في ثلث عددها
تقريبا. ولكن العنف غير القاتل والسلوك الجنسي وغيره من السلوكيات
اللامشروعة في أثناء النوم هي أكثر مما يتوقعه الناس. فنحو 40 مليون
أمريكي يعانون اضطرابات النوم، وقد تبين في استطلاع أجري هاتفيا في
الولايات المتحدة في أواخر تسعينات القرن العشرين أن شخصين من كل مئة
شخص قاما بإيذاء نفسيهما أو غيرهما في أثناء النوم.
علم الأعصاب كيف ترتاح الأدمغة النائمة(***) طالما اعتقد المحققون أن الدماغ البشري يتقدم عبر مراحل الوعي المعقدة بطريقة جيدة التنسيق (في اليمين) وذلك باعتراف الجميع. غير أن الدراسات الحديثة (الأسفل) تشير إلى أن أنماط الأنشطة العصبية في أثناء النوم أكثر عشوائية مما ظنه الباحثون سابقا. دورات عادية لأسباب مجهولة، تصبح أجزاء الدماغ التي تساعد على كشف الأخطاء والتعارضات (التلفيف الحزامي الأمامي(6)) وعلى تطور الذاكرة الطويلة الأمد (القشرة المجاورة للحصين(7)) أكثر نشاطا عادة في أثناء النوم ذي حركات العينين السريعة، في حين أن المنطقة التي تيسر الإحساس بالألم (التلفيف الحزامي الخلفي(8)) تصبح أقل نشاطا. وبالنتيجة، يكون الألم الجسدي نادرا في الأحلام التي تحدث في أثناء النوم ذي حركات العينين السريعة. نشاط شاذ تبين مخططات إشارات الدماغ الكهربائية أن النصفين الأيسر والأيمن من أجزاء الدماغ نفسها يعانيان زيادة فجائية في الأنشطة في أوقات مختلفة من النوم ذي حركات العينين غير السريعة. ويعزز هذا الدليل الفرضية القائلة إن المناطق المختلفة من الدماغ لا تخلد إلى النوم معا في لحظة واحدة أو تتقدم عبر مراحل النوم المتعددة بخطى متزامنة. |
ويعد
<بورنمان> وزميلاه <.M ماهوالد> و<.C شينك> من
الخبراء البارزين عالميا في مجال خطل النوم، وهو مصطلح تنضوي تحته
السلوكيات غير المرغوب فيها في أثناء النوم. وهم غالبا ما يتلقون طلبات
مساعدة من المحامين. وللتمييز بين عملهم الطبي والقانوني، أسسوا كيانا
مستقلا عام 2006 يقوده <بورنمان> ويعمل فيه <ماهوالد>
و<شينك> مستشاريْن، وسمّوه رابطة طب النوم الجنائي(>)
(الشرعي).
وتعمل
رابطة طب النوم الجنائي بوصفها مكتب تحريات جنائية علمية. وقد قسمت
الحالات التي تعاملت معها، والتي تجاوزت 250 حالة حتى الآن، بالتساوي
بين العمل لمصلحة الادعاء والعمل لمصلحة الدفاع. وبصرف النظر عمن يدفع
التكاليف، فإن نهج المكتب ليس مجرد تقديم رأي طبي يدعم حكما منشودا، بل
إن الأطباء الثلاثة يحاولون كشف الحقيقة. لقد لقب <بورنمان>
نفسه بـ «كبير المحققين»، وهو يقول: «إنني، من عدة أوجه، محلل جرائم من
الناحية العلمية العصبية.»
ولا
يمكن التكهن بنتائج التحقيقات. يقول <بورنمان>: «إذا تمكنت من
دحض دفاع مرتبط بخطل النوم، أمكن لمحامي الادعاء أن يقول: الآن، امتلك
إمكانية الإدانة». غير أن عمل <بورنمان> يعطي فرصة للغفران أيضا. فهو
يقول: «تحصل سلوكيات خطل النوم الحقيقية من دون وعي أو قصد أو دافع .
لذا، ومن وجهة نظر محامي الدفاع، لديك أساس للتبرئة الكاملة». إلا أنه
يعلم أن القضاة والمحلفين يجدون صعوبة في قبول فكرة أن للنوم طيفا من
الحالات. ولذا فإن المتهم ليس وحده الذي يحاكم في قاعة المحكمة، بل
أيضا تجري محاكمة تعريف الوعي ذاته
مستيقظ وغير واع؟(
****)
إن جوهر ما يعرف بنظرية النوم الموضعي(
10)واضح
من اسمها: يمكن لأجزاء من الدماغ أن تكون نائمة، في حين تظل أجزاء
أخرى منه منتبهة. فإذا كانت هذه النظرية صحيحة، فإنها تساعد على تفسير
قيادة الناس لسياراتهم على نحو أقل أمانا عندما يكونون متعبين، وسبب
أكل الذين يسيرون في أثناء النوم مقادير كبيرة من البوظة (الآيس كريم)
بشراهة. وهي تفسر أيضا التهيج الجنسي في أثناء النوم لدى الذين يداعبون
أزواجهم أو أولادهم وهم غير واعين.
وقد
استعمل مفهوم النوم الموضعي في علم الأعصاب أول مرة في مقال صدر عام
1993 وشـــارك في كتــابتـــه <.J كرويگر> [من جامعة ولاية
واشنطن في سپوكين]. وكانت الفكرة حينئذ بدعة بالنسبة إلى كبار الباحثين
في النوم.
ويقول
<كرويگر>: «وما زالت بدعة»، مع أن القائلين بالموضعية يشكلون
الآن مجموعة مهمة حسنة السمعة من علماء النوم في العالم.
ومن
المتعارف عليه أن النوم قد فهم بوصفه ظاهرة دماغية شاملة، وأكثر من
ذلك هو أنه حالة تتحكم فيها دارات تنظيم من الأعلى إلى الأدنى. غير أن
هذه النظرة لم تعن الكثير ل<كرويگر>. فقد أشار إلى وجود دليل
واقعي لدى العلماء على نوم الدماغ جزئيا عند الثدييات الأخرى.
فالدلافين مثلا، تغفو بنصف دماغها فقط، وتسبح وإحدى عينيها مفتوحة. وقد
راجع <كرويگر> أيضا الأبحاث العلمية الخاصة بآفات الدماغ عند
البشر فوجد أن الإنسان يستطيع النوم مهما كان الجزء أو الحجم المتضرر
من دماغه أو المفقود منه. ويعد هذا حجة تنفي وجود منطقة مركزية لأوامر
النوم في الدماغ.
وفي مقال كتبه <كرويگر> عام 2011 بعنوان «النوم الموضعي المعتمد على الاستعمال(
11)»،
يلخص فكرة أخرى تخص إجرائية نوم مبعثرة من الأدنى إلى الأعلى. فقد
كتب: «ينظر النموذج الجديد إلى النوم على أنه خاصية تنبثق من تضافر
مخرجات وحدات وظيفية صغيرة ضمن الدماغ». ويرى <كرويگر> وبعض
الباحثين الذين يفكرون مثله أن أجزاء الدماغ المختلفة، ومنها الشبكات
العصبونية، وربما حتى العصبونات الإفرادية، تخلد إلى النوم في أوقات
مختلفة على مدار الساعة، تبعا لشدة الإرهاق الذي تكون قد تعرضت له
حديثا. (لهذا السبب يصف الباحثون النوم بأنه موضعي لأنه يحصل فقط في
أجزاء معينة من الدماغ في أوقات مختلفة، ويعتمد على الاستعمال لأنه
يحدث فقط بعد أن تصل المنطقة الدماغية إلى مستوى معين من الإجهاد).
وبعد أن تصبح معظم عصبونات الدماغ في حالة نوم، تبدأ الحالة السلوكية
المميزة للنوم بالظهور؛ أي السكون والعيون المغلقة وارتخاء العضلات.
ولكن وقبل بلوغ هذه المرحلة، تكون أجزاء صغيرة من الدماغ قد غفت فعلا.
وجاء
بعض أكثر الأدلة صراحة على النظرية من مختبر <.D ركتور> [أحد
زملاء <كرويگر> في جامعة ولاية واشنطن]. يجري <ركتور>
تجارب على الجرذان، حيث يشد شعيراتها فجأة بطريقة دقيقة ومتحكم فيها.
وترتبط كل شعيرة بعمود معين من القشرة الدماغية، ويتألف العمود من
مجموعة من مئات العصبونات المترابطة بإحكام والمتموضعة على القشرة.
ويدخل <ركتور> مجسات عبر جمجمة الجرذ إلى تلك الأعمدة القشرية،
وبذلك يستطيع قياس استجابتها الكهربائية لشد الشعيرات.
في
البداية، حصل <ركتور> على شكل الاستجابة الكهربائية لشد
الشعيرات عندما كان كامل الحيوان مستيقظا سلوكيا، وعندما كان نائما
سلوكيا. ومن ثم اكتشف شذوذات عن القاعدة مثيرة تماما.» وكتب
<ركتور> و<كرويگر> في مقال لهما عام 2008: «إن اكتشاف أنه
يمكن للأعمدة الدماغية أن تكون في حالة شبه نوم في أثناء فترات يقظة
الحيوان بالكامل، وأنه يمكن أن تكون في حالات شبه يقظة في أثناء نوم
الحيوان بالكامل، يوحي أن النوم خاصية من خواص أعمدة القشرة الدماغية
الإفرادية.»
أما
فيما يخص الأشخاص الذين تُجرى عليهم الدراسة في المختبرات البشرية،
فغني عن القول، إنهم لا يحبون إدخال مجسات معدنية في أدمغتهم، ولذا
ابتكر الباحثون مقاييس تجريبية غير مباشرة. ففي التجارب التي قام بها
<.H دونگن> [وهو باحث آخر يعمل في جامعة ولاية واشنطن] ينظر
الأشخاص الذين تجرى عليهم الدراسة إلى شاشة حاسوب، وعليهم أن يضغطوا
زرا فور ظهور عداد يعطي لحظة رد الفعل. ويُطلب إلى المختبرين أن يكرروا
هذه العملية مدة عشر دقائق. وقد لوحظ أن ردود أفعالهم كانت تتباطأ مع
تقدم الاختبار. ويقول <دونگن> إن اختبارات التنبيه الشبيهة بهذا
الاختبار ترهق المسارات العصبية نفسها على نحو متكرر، ويجبرها
الاستعمال المبالغ فيه في أثناء التجربة على الدخول في حالة النوم. وهو
يرى في هذا دليلا على النوم الموضعي، لا على التعب الشامل أو الملل،
لأن أداء الأشخاص المختبرين يتحسن مباشرة عندما يسمح لهم بالانتقال إلى
مهمة مختلفة تستدعي استعمال جزء آخر من الدماغ.
ليست حالتا النوم واليقظة ظاهرة ثنائية الأوجه، بل تحصلان ضمن طيف من الحالات. |
إذا
كان من الممكن للأشخاص أن يكونوا نائمين جزئيا وهم، خلافا لذلك،
مستيقظون ظاهريا، وجب أيضا أخذ الفرضية المعاكسة في الحسبان؛ أي إنهم
يمكن أن يكونوا مستيقظين جزئيا في الوقت الذي يكونون فيه نائمين فعلا.
وهذه الإمكانية تساعد على تفسير أمر طالما حيّر علماء النوم: حالة
المؤرَّقين الذين يعلنون بعد ليلة من المراقبة في المختبر بأنهم «لم
يناموا لحظة واحدة» مع أن التخطيط الكهربائي للدماغ يبين بوضوح أنماطا
للموجات الدماغية مميزة للنوم. وبحثا عن تفسير لهذا التناقض، أجرى
<.D بايس> [من معهد طب النوم في جامعة بتسبورگ] سلسلة من دراسات
تصوير الدماغ لأشخاص يأرقون ليلا. وخلص إلى أنه بينما كان المختبرون
نائمين، وفقا لما تبينه مخططات الدماغ الكهربائية والمراقبة EEG
السلوكية المجراة لهذه الغاية، بقيت القشرة الجدارية لأدمغتهم، حيث
يتكون الإحساس باليقظة، نشطة ليلا. وبهذا المعنى، فإن ما أعلنه
المؤرقون عن أنهم كانوا مستيقظين صحيح تماما.
تقصي الأدلة(
*****)
يسأل عامل هاتف خدمة الطوارئ: «ما الذي يجري؟»
فيجيب الرجل الموجود في الطرف الثاني من الخط باقتضاب: «تعال إلى هنا فقط»
فيلح عامل الهاتف: «يجب أن تخبرني بالذي يجري»
فيقول الرجل: «ثمة شخص ميت»
«شخص ميت؟»
«نعم»
«أين حصل ذلك؟»
«في منزلهم. ثمة شخص ميت. تعال إلى هنا»
أجرى
<آدويو> هذا الاتصال الهاتفي مع مركز اتصالات الطوارئ التابع
لمقاطعة هنبين بإلينويس في الساعة 3:41 صباحا من التاسع عشر من الشهر
01/2005. وقد استعمل هاتف زوجته النقّال (الخلوي) التي كانت في تلك
اللحظة ممدة على أرض الحمام غارقة في دمها.
وعندما
نقل محامي <آدويو> خبر الجريمة إلى رابطة طب النوم الجنائي، قرر
<بورنمان> دراسة كل من المجرم والجريمة المزعومين. وبعد أن
أطلعه النائب العام على القضية، قرأ تقارير الشرطة ومحاضر استجواب
<آدويو> في ساعات السحر بعد وقوع الجريمة، حتى إنه زار الشقة
وحصل على فيلم ڤيديو يتضمن محاكاة حاسوبية لمساعدته على إعادة تركيب
الأحداث التي أدت إلى القتل.
كانت
الصيغة الغريبة للاتصال الهاتفي بمركز الطوارئ أول ما استرعى انتباه
<بورنمان>. فقد لاحظ أن <آدويو> لم يقل: «زوجتي ماتت»، بل قال:
«ثمة شخص ميت». ولم يقل: «في منزلنا»، بل قال: «في منزلهم». بكلمات
أخرى، بدا <آدويو> وكأنه شخص لا يعرف من هو، ومن هي المرأة
الميتة، وماذا حدث. لقد بدا شخصا استيقظ في تلك اللحظة.
بالتأكيد،
ثمة عدة تفسيرات للواقعة. فربما كان <آدويو> مذنبا، وهو يعرف
ذلك، وأراد أن يكشف أقل ما يمكن من المعلومات عند اتصاله بمركز
الطوارئ. ولكن عندما قرأ <بورنمان> تقارير الشرطة، لم يجد أي
دليل على إخفاء معلومات أو مراوغة. فعندما وصل موظفو قسم شرطة پلايموث
إلى مسرح الجريمة، كان <آدويو> ينتظرهم على درج المدخل. وفي مخفر
الشرطة، وبعد أن تليت على <آدويو> حقوق ميراندا(
12)،
اعترف من دون تردد بأنه هاجم زوجته، مع أنه بدا غامضا من حيث التفاصيل.
حتى إنه سأل أحد الضباط في أثناء استجوابه: «كيف حالها؟»
لقد
أوحت هذه النتائج الأولية ل<بورنمان>، والمتمثلة في انفصال
<آدويو> عن الواقع في الاتصال الهاتفي بالطوارئ، وعدم إخفائه
للمعلومات، وفقدانه الجزئي للذاكرة، بأن من الممكن على الأقل أنه كان
يسير في نومه حين قتله لزوجته. غير أن القاضي أو المحلفين قد يشككون في
العلم الكامن وراء هذا التفسير حين النظر في التبرئة من حيث المبدأ.
فهل يمكن أن يقوم شخص بالقتل فعلا وهو نائم دون أن يعلم؟ وإذا كان هذا
ممكنا، فكيف يفعل ذلك؟
للإجابة
عن هذا السؤال، انظر أولا في آلية عمل النوم لدى الأشخاص الذين لا
يعانون خطل النوم. يشير <ماهوالد> [زميل <بورنمان>] إلى أن
الانتقال بين حالة اليقظة التامة، وحالات النوم ذي حركات العينين
السريعة والنوم ذي الحركات غير السريعة، يتحقق بواسطة مئات من
المتحولات الهرمونية والعصبية والحسية والعضلية وغيرها من المتغيرات
الوظيفية الجسدية. ويقول: «من المدهش أن هذه المتغيرات تحصل معا عادة،
ولذا تجد البلايين من البشر في العالم يمرون بدورة اليقظة والنوم ذي
حركات العينين السريعة والنوم ذي الحركات غير السريعة عدة مرات كل 24
ساعة». ومن المؤكد أنه سوف تكون هناك جيوب من الشبكات العصبونية
«المستيقظة» عندما تكون بقية الدماغ نائمة، والعكس صحيح، وهذا ما
تخبرنا به نظرية النوم الموضعي. ولكن الانتقالات بين الحالتين تكون
واضحة عموما.
أما
عند الأشخاص المصابين بخطل النوم، فيفقد هذا العدد الهائل من
المتغيرات التنظيمية تزامنه، ويصبح الانتقال بين حالات اليقظة والنوم
مضطربا. والنتيجة، وفقا لقول <ماهوالد>، هي صيغة مفرطة من ظاهرة
النوم الموضعي، وهذا ما يعرف بانفصام الحالة(
13)، الذي
تتراكب فيه الخصائص الجسدية والعقلية لليقظة والنوم العميق ورؤية
الأحلام. وفي المحصلة، يعاني أولئك الأشخاص غيابَ الوعي عن أجزاء كبيرة
من أدمغتهم، في حين أن أجسادهم تكون نشطة.
ويبين كثير من قضايا طب النوم الجنائي كيف أن انفصام الحالات يؤدي إلى سلوك إجرامي. ففي الشهر 4/2012،
مثلا، كان <بورنمان> يحقق في حالة جندي أمريكي نائم ضرب زوجته
بمسدسه بوحشية عندما حاولت إيقاظه. وبعد الواقعة، ادعى أنه لم يقصد
مهاجمتها، وأنه لا يذكر ذلك البتة، وأن كل ما يتذكره هو أنه كان يحلم
بأنه يستعمل سكينا لصد جاسوس نازي يهاجمه. وبالنسبة إلى <بورنمان>،
يبدو ذلك مثالا ممكنا للاضطراب السلوكي في مرحلة النوم ذي حركات
العينين السريعة، وحينئذ يفتقر المصاب بهذا الاضطراب إلى ارتخاء
العضلات الذي يرافق الأحلام عادة، ويصبح قادرا على النهوض والتنفيذ
الفعلي للمشاهد الخيالية التي تدور في رأسه.
وحقق <بورنمان> في قضية أخرى أيضا في الشهر 4/2012
تخص رجل أعمال ثريا في يوتا. ففي إحدى الليالي، كان هذا الرجل نائما
عندما اندست ابنته ذات الأعوام التسعة في سريره، وكانت تفعل ذلك عادة
عندما تجد صعوبة في النوم. واستيقظ الأب فيما بعد واكتشف مذعورا أنه
كان يحرك حوضه بطريقة جنسية تجاه ابنته وأن يده كانت تلامس عضوها
التناسلي.
لم
تكن لرجل الأعمال هذا أي سوابق في الجرائم الجنسية. وبعد الحادثة، قام
طبيب نفساني بتقييم حالته، وأُخضع لاختبار بواسطة جهاز كشف الكذب، حتى
إنه جرى قياس لانتصاب عضوه التناسلي في أثناء عرض صور غير لائقة
لأطفال أمامه. ولم يدل أي من هذه الفحوص على أن الرجل يحب ممارسة الجنس
مع الأطفال. أما <بورنمان>، فقد رأى أن سلوك الرجل قد يكون ناجما عن
اضطراب الاستيقاظ، وهو أحد الأصناف الفرعية من انفصام الحالة الذي
يتضمن السير والأكل والممارسات الجنسية(
14) في أثناء النوم.
والشيء المشترك بين جميع هذه الاضطرابات هو أنها تظهر عندما تتداخل
الخصائص العصبية والوظيفية الجسدية للنوم ذي حركات العينين غير
السريعة NREM sleep مع قدرات اليقظة الحركية المعقدة.
وتساعد
المعرفة الدقيقة لأجزاء الدماغ العاملة وتلك النائمة على تفسير
المشاكسة والعنف اللذين يتصف بهما المصابون بخطل النوم أحيانا. فدراسات
الصور الدماغية تكشف أن القشرة ما قبل الجبهية، وهي قسم من الدماغ يقع
مباشرة خلف الجبين وتصاغ فيه الأحكام الأخلاقية والمنطق، تكون في
أثناء النوم ذي حركات العينين غير السريعة أقلَّ نشاطا بكثير منها
عندما يكون المرء مستيقظا. وفي غضون ذلك، يكون الدماغ الأوسط نشطا
وقادرا على توليد تصرفات بسيطة تعرف باسم أنماط الأفعال الثابتة(
15).
ويقول <بورنمان>: «تتصف هذه الأفعال بكونها بدائية جدا من حيث
طبيعتها، ومنها الوقوف والمشي والهجوم الوحشي والأكل والشرب والعناية
بالنظافة والمظهر والتصرفات الجنسية والأمومية». وتكبح القشرة ما قبل
الجبهية(
16) هذه الأنماط عادة عندما لا تكون ملائمة للظروف،
أما خلال النوم ذي حركات العينين غير السريعة، فلا يقوم هذا الجزء من
الدماغ بوظيفته، ويصبح الأشخاص أشبه بالحيوانات البرية التي تحكمها
الدوافع الغريزية وردود الأفعال التلقائية.
إصدار الحكم(
******)
يُعد
استجواب <بورنمان> للمتهم الجزء الأعوص من تحقيقات طب النوم
الجنائي، ويستحسن أن يحصل هذا الاستجواب وجها لوجه. ويجب على المتهم
حينئذ أن يجيب عن سؤالين، أحدهما يتعلق بكونه حقا يعاني اضطرابات
النوم، ويتعلق الآخر بكون ذلك الاضطراب قائما في وقت اقتراف الجريمة،
بعد أخذ جميع الأدلة الأخرى في الحسبان.
وفي
حالة <آدويو>، كان <بورنمان> في وضع استثنائي نادر من حيث
إنه كان قد عالج المتهم بوصفه مريضا، ولذا فإنه يعلم أن هذا الشاب ليس
مخادعا. وشهد أفراد العائلة أيضا بحقيقة أن <آدويو> كان يعاني
السير في أثناء النوم منذ كان صبيا. أما الإجابة عن السؤال الثاني فقد
كانت أصعب: هل كان اضطراب النوم الذي يعانيه <آدويو> السبب في
ارتكابه الجريمة؟ لم يكن من الممكن الإجابة عن هذا الاستفسار بيقين تام
لأن <بورنمان> لا يستطيع أن يسافر إلى الماضي عبر الزمن ويدخل
في عقل <آدويو> ليرى ما كان يفكر به في أثناء ارتكابه الجريمة.
وهذا يعني أنه ليس من السهل تزوير دفاع مبني على السير في أثناء النوم.
ويقول <بورنمان>: «لدى الجمهور العام انطباع بأن أي شيء يمكن أن
يحدث خلال السير في أثناء النوم، إلا أن سلوكيات محددة فقط يمكن أن
تحصل خلال مدة محددة عموما.»
فمثلا،
يقول <بورنمان>: «القرب هو عامل جوهري في الأغلبية الساحقة من
أعمال العنف المرتكبة خلال السير في أثناء النوم». فالضحايا يكونون
غالبا مستلقين بجوار المصاب بخطل النوم، أو أنه يقوم بمهاجمتهم في
أثناء محاولتهم إيقاظه من النوم. والحالة الأخيرة هي حالة الجندي الذي
كان يحلم بالجاسوس النازي، وحالة <پاركس> الذي قاد سيارته وهو
نائم وهاجم أفراد عائلته عندما حاولوا إيقاظه. وليست جرائم النوم قابلة
للتفسير عادة أيضا، لأنه ليس لها من دافع، ولأنها لا تتفق مع شخصية
النائم، ومن أمثلتها حالة رجل أعمال يوتا الذي داعب ابنته جنسيا.
وفي
أثناء التحقيق مع <آدويو>، علم <بورنمان> أن مريضه السابق لم
يكن قريبا مكانيا من زوجته قبل مهاجمتها. فقد استغرق في النوم على
الأريكة عندما كانت زوجته نائمة في غرفة النوم. ولاحظ <بورنمان>
أيضا أن هيجانه العنيف لم يكن وجيزا وعشوائيا على غرار الهيجانات التي
تحصل في أثناء النوم، بل استمر مدة طويلة و«كان منهجيا»، وهذا يعني أن
عدة سلوكيات معقدة قد شاركت فيه. فقد دخل <آدويو> إلى غرفة نوم
زوجته أولا وضربها بمطرقة، ثم طاردها عبر الممر إلى خارج الشقة، ثم عاد
مطاردا إياها داخل الشقة حتى الحمام، إلى أن طعنها في النهاية وخنقها.
ويقول <بورنمان>: «من الغريب جدا أن نرى ثلاثة من آليات العنف تحدث
معا خلال السير في أثناء النوم.»
وزالت
جميع الشكوك المتبقية عندما أقر <آدويو> بالقصة التي قرأها
<آدويو> في دفتر يوميات المرأة الميتة، والتي تفيد بأن الزوجين
كانا على خلاف حاد في اليوم الأخير من حياتها. فقد اتهم <آدويو>
زوجته، قبل أن تذهب غاضبة إلى سريرها، بخيانته وجابهها بما اعتقد أنه
دليل، وهو واق جنسي ذكري وجده في ملابسها المغسولة. باختصار، لم تكن
الجريمة متوافقة مع شخصية <آدويو>، لكنها لم تكن بلا دافع، وقد أبلغ
<بورنمان> المحامي العام بكل هذا مع جميع استنتاجاته الأخرى.
وفي النهاية، أقر <آدويو> بذنبه وبارتكابه جريمة قتل من الدرجة
الثانية(
17)، وهو يقضي حاليا حكما بالسجن مدة 37 سنة.
أما
فيما يخص <بورنمان>، فهو يقول إنه لم يكن منغمسا شخصيا في إثبات
براءة الأشخاص الذين يحقق معهم أو إثبات ضلوعهم في الجريمة. فما يوفره
له عمله هو فرصة لإجراء أبحاث سلوكية في اضطرابات النوم المتطرفة التي
لا يمكن تكرارها في المختبر. والهدف هو جمع ما يكفي من الأدلة
للمساعدة على تغيير مواقف المحلفين والقضاة والجمهور العام الذين تسيطر
عليهم المفاهيم التي تنطوي على أن الوعي إما أن يكون موجودا بالكامل
أو غير موجود نهائيا. ويقول <بورنمان>: «لقد سبق التقدمُ الكبير في
علم الأعصاب النماذجَ التي تحتذى من قبل المجتمع القضائي،» وعلى هذا
المجتمع مواكبة ما حققه علم الأعصاب في هذا المضمار.
المؤلف
| James Vlahos
|
<.J ڤلاهوس> صحفي مستقل كتب لمجلة National Geographic Adventure وصحيفة نيويورك تايمز ومجلة Popular Science.
|
|
مراجع للاستزادة
Violence in Sleep. Francesca Siclari et al. in Brain, Vol. 133, No. 12, pages 3494–3509; December 2010.
http://brain.oxfordjournals.org/content/133/12/3494.long
Sleep Forensics Associates:
http://sleepforensicsassociates.com/aboutSfa