جائزة «بوليتزر» للكتابة المسرحية تنالها آني بايكر
ثلاث ساعات وربع عن البطولة
ترجمة وتقديم فوزي محيدلي
كانت آني بايكر تدرّس صف الكتابة المسرحية في جامعة نيويورك، حين اندلع هاتفها بالرنين. لم يلبث طلابها ان علموا بأن معلمتهم فازت للتو بواحدة من أهم الجوائز التكريمية في المسرح جائزة «بوليتزر» للدراما. لكن الحصة لم تكن قد انتهت بعد.
تابعت بايكر إعطاء الدرس ثم علّقت لاحقاً على تصرفها هذا: «أحب التعليم، لذا كان أمراً مذهلاً معرفتي بخبر الجائزة ومن ثم العودة في الحال إلى استئناف التدريس. إنه حقاً لأمر مذهل. لا أصدق أني استوعبت الحدث».
مسرحيتها الفائزة عنوانها «السينما»، تتناول ثلاثة موظفين زهيدي الأجر في صالة سينما متهالكة. وقد حيّت لجنة التحكيم تلك المسرحية قائلة «دراما عميقة الفكر (رغم قلة الحركة والكلام) تتميز بشخصيات مشغولة بشكل جيد... يعيشون حياة نادراً ما تُرى فوق الخشبة... إنها عبارة عن صرخة تمزج بين قدر من المرح وبين البحث عن الأصالة في عالم سريع التغير».
كانت المسرحية قد عرضت في مسرح «بلاي رايتس هورايزنز» (آفاق كتـّاب المسرح) العام الفائت، ثم توقفت والآن يجري العمل لإعادة إطلاقها في نيويورك، تحت إدارة المخرج ذاته سام غولد مع الممثلين ذاتهم. وقد علّقت بايكر على الأمر قائلة: «الإعادة أمر مثير. فكرة الاتحاد مجدداً مع أولئك الممثلين ومع سام، مخرجي اللصيق، وفريق الديكور ذاته والانطلاق لإعادتها إلى المسرح ثانية سيكون أمراً مثيراً جداً. أرجو من الناس أن يأتوا لمشاهدتها. سيكون أمراً ممتعاً... لدي مخرج مثالي وفريق ممثلين مذهل».
أما سبب دعوة المؤلفة المسرحية الناس إلى الحضور، فسببه بعض النقد السلبي الذي قوبلت به المسرحية. كتب أحد النقاد عن المسرحية التي يستغرق عرضها ثلاث ساعات وربع الساعة: «تخيل نفسك عالقاً في دار سينما متهالكة ذا مئة مقعد فقط في مقاطعة ورشيستر في ولاية ماساشوسيتس في صيف عام 2012. أنت محجوب عن النظر ولا تستطيع التكلم، لذا على مدار ثلاث ساعات عليك الإصغاء إلى الحديث بين رجلي تنظيف مهمتهما كنس الأرض والتقاط أكياس البوشار وزجاجات الصودا الفارغة بعد كل عرض... يستمر الحديث المتقطع على مدار الصيف وتنضم إليه من وقت إلى آخر آنسة مهمتها القيام ببث عرض الفيلم من داخل مقصورتها، وهي تنضم إلى الإثنين في لحظات عدم الحاجة إليها في الحجرة الصغيرة رغم استمرار عرض الفيلم... حين تنار الأضواء يدخل سام (الموظف الأكبر سناً) مع آفري (اليافع) الذي سيعمد سام إلى تلقينه كيفية الكنس والتنظيف، تحت إدارته».
يتابع الناقد مستهجناً كيف أن مسرحية كهذه ستسمّر المشاهد طوال وقت العرض في مكانه: «تكسر هذه المسرحية كل قاعدة، تتحدى أي توصيف لما درسناه على أنه مواصفات مسرحية جيدة. ليس ثمة أي مجرى أحداث درامي، حوارها يبدو كما وكأننا نحن الجمهور المسجون، لدينا مايكروفون مخبأ في مكان ما، وأن الشخصيتين الرئيسيتين، تنضم إليهما ثالثة، عاجزان عن الكلام ويواجهان أيضاً تحدياً انفعالياً، لا يساعدان على تطور الأمور... ليس ثمة حبكة ما. حسناً ثمة حبكة رفيعة... كل ما أستطيع قوله أن الأمر لا يستحق الانتظار حتى أعماق الفصل الثاني لمعرفة ماهية الحبكة... إننا إزاء حبكة وكأننا نشاهد نمو العشب البطيء».
إذن، هذا واحد من حالات النقد السلبية التي نالتها المسرحية لكن ألم ترفض في المقابل مسرحيات لبيكيت وأعمال لهمنغواي وكذلك ماركيز وفوكنر....
مقابل ذاك الناقد الذي يندفع أكثر في نقده التعريضي قائلاً: «أنا متأكد أن بعض الدوائر ستحتج بأن هذا نوع جديد من المسرح، أنه يمت بصلة إلى تجديدات كل من مارتا غراهام وإيزادورا دانكن في الرقص ومقاربة كل من ستانيسلافسكي ولي ستراسبيرغ الجديدة في التمثيل». في المقابل، بحثاً عن الحقيقة على الخشبة «ثمة نقاد أضاؤوا على إيجابيات ونقاط القوة في العمل غير مسقطين بداية عزوف الجمهور عن العمل. يقول مارك كينيدي، صحيح أن فئة قليلة من الذين شاهدوا المسرحية للمرة الأولى وجدوها طويلة، ثلاث ساعات وربع، وقاموا بالخروج من العرض ما أثار نقاشاً حول المسرحية، إلا أن النقاد وجدوا أنها مثيرة للتحدي ومجزية، وسرعان ما ربحت الجمهور فعرضت لأشهر عدة سيما وأنها تتحدث عن الصداقة، الأخلاق والإخلاص.
ولعل المخرج تيم سانفورد أفضل من عبّر عن إشكالية مسرحية كهذه: مسرحية بايكر تتمتع بكل شيء، الشخصيات، نماذج أصلية والبطولة الدونية... إنها ألق خالص... أفضل من جهتي مسرحية تكرهها نسبة ضئيلة من المشاهدين فيما تحبها نسبة أكبر بدلاً من مسرحية لا يتذكرها أحد».
أما ما قاله تشارلز إيشروود في النيويورك تايمز: «الحب، الصداقة، والكدح اليومي، كلها تشكل ميزة عضوية لمسرحية «السينما»، المسرحية الجديدة المؤثرة، الجميلة الأداء والباعثة للتحدي. تعتبر بايكر واحدة من المسرحيين الجدد الأكثر موهبة الذين ظهروا في العقد المنصرم والتي تكتب برقة وبصيرة ثاقبة حول اضطراب الناس في حياتهم الخاصة، وحياة الآخرين الذين يهتمون هم بهم ومن ثم الغرق في الوهن المنحدر، المكثف بحيث يغدو من الصعب تنظيف قاذورات الحياة».
أسلوب، حبكة وشخصيات
عبر ثلاث مسرحيات سابقة وطّدت بايكر لنفسها اسماً في عالم الكتابة المسرحية، عبر توليد عوالم دقيقة ومفصلة مليئة بالصمت وبمعلومات منمنمة. مسرحياتها الأخرى هي: «تحولات مرآة الدائرة»، «معرفة الجسد» و»المخلوقات الغريبة». وإذا كانت مسرحية «السينما» طويلة أكثر من المعتاد، فإن المخرج تيم سانفورد يبررها بأنها تذكرنا ببعض مسرحيات أوغيست ويلسون.
تتحدث المسرحية، إذن، عن ثلاثة موظفين في مقتبل العمر نسبياً ويحظون بمرتبات منخفضة خلال عملهم في دار سينما في ماساشوستس، دار لم تزل تقوم بعرض أفلام 35 مليمتراً. كل يوم تتشارك الخشبة حالات من الغيرة، الخيبة والغضب، مع إلقاء الدعابات، واللغو على شكل دردشة تتخلل كل ذلك حالات عرضية من كشف الذات والكثير من سأم العمل.
مع توالي المسرحية، تدريجاً، يبدأ بالتراكم الإحساس بالمشاكل العاطفية والأخلاقية. في واحد من أكثر مشاهد المسرحية تأثيراً، يجلس إيفري، الموظف الأسود الصغير المبتدئ، وحيداً على الخشبة المظلمة متحدثاً إلى صديق عبر الهاتف كاشفاً حزنه لأنه رغم شوقه للصداقة مع سام، إلا أنه كما يبدو لا يمكن أن ينجح الأمر مع ذاك الزميل سام الذي يقوم بدور المرشد له. يقول إيفري: «ربما لن يتحسن الأمر. ربما سأضطر للعيش مع والدي طوال ما تبقى من عمري، والمشكلة الحقيقية أني لا أفعل شيئاً سوى انتظار تبدل الأمور. ربما الأمر أشبه بكوني ذاك الشخص الغريب الاكتئاب، وأن عليّ بكل صراحة تقبّل ذلك. وهذه ستكون الحياة التي سأحظى بها».
كأن الكاتبة بايكر توصي بأن مقولة «الحياة التي نحصل عليها ليست غالباً التي نتوقعها» باتت شائعة بل حقيقة حزينة وأساسية. إن ما يجعل بايكر كاتبة موهوبة هو مقدرتها التي لا تقارن على استكشاف كيفية تلمس الناس لدربهم نحو حالة من رباطة الجأش أو الاتزان، حتى مع تعلمهم تقبّل الخيبة.
السيد سام، الذي دخل ثلاثينات العمر، يتخذ موقفاً أبوياً تجاه الصغير الوافد إلى العمل، آفري، ابن العشرين عاماً، الذي ترك الجامعة لفصل دراسي معين بعد أزمة عائلية. مع تعريضه لنوعية العمل وروتينه، يكتشف سام أن آفري مهووس بالأفلام وأن الأفلام الرقمية مجرد بلاء أو كارثة. أحد أسباب مجيء آفري للعمل هنا هو كون هذه الدار الصغيرة هي بين آخر الدور في الولاية التي تعرض أفلاماً قياس 35 مليمتراً.
عملية إدارة وعرض الشريط التي تعتبر الأسمى بين الأعمال في الدار، هي من نصيب الشخصية الرئيسية الثالثة روز. كما سام وآفري، بل كما كل شخصيات بايكر تقريباً، تبدو روز غير مندمجة بل غير متلائمة مع الوضع. هي أشبه بـ»البانك» من حيث ملبسها وصباغ شعرها الأخضر، وترتدي أنواعاً من الـ»تي شيرت« الأسود غير المحددة الشكل، ليعلن ذلك عن غربتها عن المعايير التقليدية للأنوثة.
من علائم الشكوى المكبوتة من قبل سام تجاه آفري هو مبادرات روز تجاه الأخير، غير مدركة لولع سام بها (مع أنه يعتقد بأنها سحاقية). يحترم آفري ما يسير إليه سام إلا أن آفري يجد نفسه منجذباً بشكل غير مريح إلى تقرب روز منه مما يدخله في حالة التوتر بين الاثنين.
تتخصص بايكر في لحظات الحميمية غير الناجحة بل وشديدة التأثير في المشاهد. هنا تغدو محاولة روز الفظة لإشعال، بل قدح شرارة جنسية لدى آفري، إذ هما يجلسان جنباً إلى جنب على مقاعد السينما، رمزية لطريقة بقاء الشخصيات الثلاث صماء تجاه الأشواق، الحساسيات والإحباطات. تطل الحميمية أحياناً برأسها من خلال الدردشات حول مكان العمل، أو فكرة آفري بأن لا عمل عبقرياً واحداً خرج من هوليوود في العقد الأخير، أو من خلال أحاديث عن علم التنجيم، لقتل الوقت وحسب.
[مقابلة حول المسرحية
أجرى المخرج الأميركي تيم ساتفورد مقابلة مع آني بايكر آخذاً في الاعتبار وجهتي النظر تجاه المسرحية: بأنها استعارة متبصرة لفوضى الحياة المعاصرة كما يعانيها لا منتمين في عمر الشباب في محاولتهم الصمود مع عالم في تغير مستمر، فيما ترى فيها وجهة نظر أخرى سرداً عادياً أقرب إلى التافه مع فترات صمت متطاولة. من هذه المقابلة نقتطف بعض مفاصلها الهادفة.
[ كيف تصفين الفروقات وحالات التشابه بين الفيلم والمسرحية كشكلين فنيين؟
ـ حسناً، لا بأس. سأسرد ثلاثة مقتطفات تفيد الجواب:
1 «السينما آلة زمن» سوزان سونتانغ.
2 «المسرحية تدور واقعاً حول مرور الوقت. تمر أحداثها حرفياً أمامك ومن ثم تبتعد» توني كاشنر.
3 «ليس بمقدورك دخول عالم الفيلم لأن اختراق الشاشة لا طائل منه... وأنت لا تمنع، كما يجري في المسرح، عبور الخط بين الممثل والتجسد، بين الفعل والولع، بين العوالم المدنسة والمقدسة. في دار السينما، العائق للوصول إلى النجوم هو الوقت» - ستانلي كافيل.
أجل، مرور الوقت هو الفرق الكبير. الفيلم حصل قبلاً، أنت تشاهد شريطاً صوّر ربما قبل سنة، أو قبل عقود. إنه سجل لحادث، لحوادث مضاعفة. المسرح هو الحدث بذاته، ليلة مشاهدة المسرحية هي الحدث...
بالنسبة لأوجه التشابه بين الفيلم والمسرحية كلاهما وسائط مهمة يصار من خلالها تقديم شخصية إلى الجمهور، شخصية يمكن للجمهور أن يشعر بقرب كبير منها.
لكن واقعاً لم أعد أرى أن الفيلم والمسرحية ليسا متشابهين أكثر من تشابه المسرحية والموسيقى، أو المسرح والرسم، أو المسرح والهندسة المعمارية، لذا حين يسألني البعض إذا ما كنت أريد يوماً تحويل مسرحياتي إلى نص سينمائي، أشعر وكأن أحدهم يسألني: هل تحولين يوماً مسرحيتك إلى لوحة؟ أو عمارة؟... ربما شخص آخر يستطيع، لكن أنا لا أدري كيفية فعل ذلك. وأقول ذلك لشخص يكتب نصوصاً ويحب السينما.
[ هل تشرحين قليلاً كيف خطرت لك المسرحية؟
ـ فكرة المكان والزمان جاءت عندي قبلاً؛ جمهور سينما يواجه جمهور مسرح. نوع من كشك للعرض إنعكاس في مرآة. وكنت مهتمة أيضاً بوجود نافذة لكشك عرض الفيلم، وآلة تقذف النور على جمهور السينما. الجدار الرابع كان شاشة الفيلم. كلها بدت لي قوية ومثيرة مسرحياً.
إذن مكان وزمان المشهد المسرحي وما يتيحه ذلك من الاحتمالات المسرحية شكل الحافز الأول، ومن ثم بدأت تلك الاحتمالات بخلق الشخصيات. الموظفة مشغلة آلة العرض التي يُسقط عليها رجال المسرحية مخاوفهم وتحليلاتهم... ثمة تلك الفتاة التي لا يمكن الإمساك بها عالياً هناك في العتمة، والتي كانت تتوقف لأن تحظى بأحد يعرفها «عن حق»... وثمة رجل في 35 من العمر (سام) اليهودي كان يخشى أن يقضي العمر يشتغل هناك والشاب (الأسود) المولع بالأفلام الذي ينحدر من عرض وأساس طبقي مختلف عن الاثنين. بدأوا، جميعهم يتمظهرون من دار السينما التي احتلت عقلي...
ولن أنسى بالطبع، التحويل الكامل تقريباً لدار سينما في بلدة من شريط 35 ميلمتراً إلى المستوى الرقمي خلال السنوات الأخيرة، فهذا شكّل أيضاً جزءاً من الحافز الأساسي الكامل خلف هذه المسرحية...
[ أعتقد أنكِ تقومين بالعزف على الثنائية الجميلة للمسرحية. من جهة، هي مجرد مسرحية، مكان عمل، تصوّر شخصيات غالباً ما يؤودون أدواراً داعمة ليس فقط في الأفلام لكن في المسرح. لكنها أيضاً حيّز تجريدي. ما نراه عملياً مرآة للحيز الذي نحن فيه، لكن من دون الناس. لذا أجد نفسي أفكر ببعض الأسئلة الأنطولوجية، ويبدو أن المسرحية بدورها تفعل ذلك، مثلاً، حين يتكلم آفري حول الذات المفترض أن تقيم بداخله وحين تتحدث روز حول كيفية سيطرة «أناها» على تخيلاتها. الجميع يفكر حول ما هو «حقيقي» وما هو «مزيف» إلى حد ما، أليس كذلك؟
ـ أجل تماماً. إلى ذلك فكرت حول مسألة الرغبة كثيراً أثناء كتابة هذه المسرحية. «رغبة» آفري في الأفلام. «رغبة» سام في روز. «رغبة» روز في ذاتها. جميعهم يتوقون إلى شيء يشعرون أنه ليس «لهم» لامتلاكه. أيضاً، أعتقد أن النساء في ثقافتنا (الأميركية) يشجعن على أن يكنّ ذوات إيروتيكية ذاتية. تجد روز تخيلاتها الجسدية مذلة لأنها تعلم أن تلك التخيلات جزء من المشكلة. بأي حال، كل شخصيات المسرحية يحاولون يائسين لأن يكونوا أصيلين وأن يجدوا أنفسهم، ومن ثم تعمل رغباتهم بداية على تشويش بل إرباك ومن ثم في النهاية توضيح (كما آمل) بعض الأمور لهم.
[ يحب البعض التحدث عن واقعية عملك، لكن الواقعية ليست فقط الملاحظة ومن ثم التسجيل. أعتقد أن ثمة مستوى من الصَنْعة حتى في الواقعية. وأشكال الواقعية في المسرح تتمتع بمستويات متنوعة بل مختلفة من الصنعة. هلا تتحدثين لنا حول أنماط الصنعة في المسرح التي تخرجك عن طورك ومستويات الصنعة في عملك التي تروق لك؟
ـ حسناً، من الصعب تعريف الصنعة. حسب تعريف «أوكسفورد» أون لاين تعني هذه الأيام «وسائل ذكية أو بارعة» لكن أصلها هو من «براعة في العمل» في الإنكليزية الوسيطة المنحدرة من جذور اللغة الفرنسية القديمة لكلمة «صنع» و»فن». ما أقصده أن كل الفن هو من صنع يد الإنسان. ثم صانع دمى شرير خلْف كل قطعة فن. لذا من الصعب الحديث عن مستويات متباينة من الصنعة حين كل شيء واقعاً هو عرض أو تحريك دمى شيطاني. أجل، ثمة بالطبع صنعة في الواقعية! مهما يكن نحن في معرض تعريف الواقعية. أراني أخشى كثيراً البحث عن ذلك على الإنترنت. برأيي الواقعية مفهوم من القرن التاسع عشر ولا معنى له اليوم.
ليس مشوقاً في هذه اللحظة من الوجود البشري تصوير العالم الحقيقي كما يبدو عليه ضمن معاييره، لكن المشوق هو كشف، ضمن معايير إنسانية، منطق لا منطقية العالم، والوصول إلى معضلة تجربتنا الإنسانية... تجربتنا الإنسانية عبارة عن طائر الدودو الغريب الذي لا يطير، غير المنطقي، وكثير الألوان. لا يمكن تمثيل ذلك عبر مجرد «حمل مرآة» لأن باعتقادي المرايا هي أيضاً غير منطقية ومشوّهة وذات ريش. لذا نصل إلى الحقيقة وما هو الشعور بالحقيقة وإلى الخرافة الهراء وما تعنيه الخرافة الهراء أو ما هو الشعور تجاهها. وهذا أمر يصعب تصويره أحياناً. لا تعرفه إلا متى شممته.
ثمة أنواع حالية من التقليعات أو حتى النظريات التي تدفعني إلى الجنون. ليس لأنها ذات صنعة، بل لأنها أوتوماتيكية... لأنها تأخذ إرهاصات المسرح وتقليعاته كأمر مفروغ منه. إنها كسولة بدلالاتها، لأنها تنحو صوب جعل المسرح أكثر شبهاً بالسينما...
[ كيف يمكن أن تتكلمي عن استعمالك حالات الصمت والتوقف في المسرحية؟ تبدو هذه إلى حد ما لحظات واقعية فائقة، حيث تختارين عن قصد عدم تكثيف الوقت الذي قد تستغرقه بعض اللحظات في الحياة الواقعية، لكنها أيضاً تقنيات استهزاء، لذا نفكر فيها؛ نلاحظ مرور الوقت.
ـ أصارحك، واقعاً لم أعد أفكر كثيراً بالصمت الآن. أحاول فقط أن أصور بدقة الناس الذين يعيشون في دار السينما داخل رأسي، وأظن ثمة العديد من لحظات اللا تكلم (اللا كلام) في تلك الدار داخل رأسي. مع أني لا أعتقد أن هذه المسرحية تنطوي على صمت أكثر من مسرحياتي السابقة. أيضاً يمكن للصمت أن يعني شيئين مختلفين. ثمة ما يمكن تسميته صمتاً واقعياً. صمت كالذي يحدث حين يتجمد ممثلون على الخشبة، محدقين واحدهما بالآخر، من دون حراك، من دون كلام، وثم هناك كل السير أو المشي والكنس والتمسيح وأصوات اللقّاطة، وهذا ليس صمتاً أبداً، ثمة سيمفونية كاملة تجري، يعزف فيها سام ورفيقاه. إنهم لا يتحدثون. لكن لا أسمي ذلك صمتاً. باعتقادي ثمة، واقعاً، القليل من الصمت الحقيقي في المسرحية. لكن أجل، لحظاتي المفضّلة في كل مسرحياتي هي عادة اللحظات التي لا يتحدث فيها الممثلون.
[ تحدثت منذ مدة حول «رقصة» المسرحية، وبدأت من جهتي أنتبه إلى الأنماط المختلفة التي تأتيها الشخصيات حين يمشون بين المقاعد. وهذا جزء من صنعة المسرحية، أليس كذلك؟ طريقة تحرك الشخصيات، أنماط الإضاءة المختلفة التي نراها. إنها ليس فقط واقعية، بل أيضاً جميلة.
ـ شكراً، يا تيم، اشتغلنا حقاً كثيراً على ذلك. أنا وسام علمنا دائماً أنها ستكون رقصة. لكني لاحظتُ العديد من عمال دور السينما وهم يكنسون الصالة في الحياة الواقعية، وهذه رقصة أيضاً. إنهم متمرسون، فعلوا ذلك مرات عدة. إنه طقس يمارس، ويشبه تماماً الرقصة. أحد العاملين في صالة تدعى «منصة الفيلم» الذي تجسست عليه، دائماً ما كان يرمي مكنسته في الهواء لتغزل قليلاً وهو ينتقل من صف مقاعد إلى صف آخر. ومن ثم أحضرنا عاملاً حقيقياً من «مركز أنجليكا للسينما» إلى تماريننا على المسرحية خلال الأسبوع الثاني، وجلسنا جميعاً وراقبناه بصمت مطبق أثناء قيامه بكنس صفوف المقاعد في صالة تماريننا. كان لسان حالنا جميعاً يقول: حسناً، هذا أجمل شيء رأيته حتى الآن».
[ ثمة العديد من الورطات أو المعضلات الأخلاقية الصغيرة. لنأخذ سام مثلاً. عمل التنظيف في الحمام يقارب أن يكون بطولياً لكن حينما يسأله آفري أن يعترف بخطئه للمشرف الجديد يتجمد في مكانه.
ـ أجل، أعتقد أننا جميعاً قادرون على إتيان حالات من النبالة والجبن اللذين لا يصدّقان. أعتقد أن شخصية سام خصوصاً تشكل تركيبة مفرطة لهاتين الصفتين. أنه شخص بطولي إلى حد ما بخصوص واقعة تنظيف الحمام لأنه يريد الخروج من المحادثة المرعبة التي كانت بينه وبين روز ولكونه لا يستطيع النظر إليها. لكن نعم، أنا شديدة الاهتمام بورطات صغيرة من الحياة اليومية. إنها تعذبني وأمضي الكثير من الوقت أفكر فيها. حقاً أنا أخذل نفسي وأخيب ظن الآخرين بي مرات عدة خلال يوم واحد. هذا جنون مطبق.
[ لننهي الحديث بالتكلم عن المشهد الأخير، إنه أمر مريح العودة إلى مشاهدة آفري ثانية وإعطاء سام له البروجيكتور. يبدو انه ليشكل نهاية رائعة لقصة افلام 35 مليمتراً. يبدو أن آفري لم ينته من الإشكال مع سام. وسام لم يستدع آفري بسرعة لأنه يود تبرئة نفسه. واقعاً إنه يشتاق إليه أيضاً. إنها واحدة من اللحظات التشيخوفية القادرة على احتواء وجهات نظر متناقضة.
ـ شكراً، يا سام. لكلا الشخصين ردات فعل وأفكار أحددها من خلالها. كلام آفري العدمي من جهة والبوذي من جهة أخرى والذي يحل في النهاية، يؤدي الكثير من المعنى بالنسبة لي، وقد شعرت مثله في بعض الأحيان. من جهته، كلام سام الرومانسي «لديك القليل من الإيمان بالآخرين» أيضاً له معنى عندي. إني مشوشة. أروح جيئة وذهاباً بين وجهتي النظر هاتين اللتين ليستا على الأرجح متعارضتين بالكامل كما كنت أعتقد، برأيي أن آفري كان يتصارع مع أسئلة من النوع الآتي: كيف تبقى شديد الحساسية ومنفتح على العالم مع اهتمامك بنفسك وبعزلتك؟
باعتقادي أن المسرح مكان عظيم لاستكشاف هذا النوع من التشوش. يمكن أن يطرح أشخاص مختلفون أسئلة مختلفة وتعطي من جهتك لمحاججة كل منهم وزناً مساوياً، إذا شئت. إذا كنتُ من جهتي على بيّنة من شيء قد أختار كتابة مقالة، وليس مسرحية. والحقيقة هي، لإيصال كل تلك الأفكار، المواضيع، بل كل ما في هذه المقابلة يجعلني أشعر بقدر من عدم الراحة. دائماً ما أقدم على تسجيل استنتاجات اختزالية بخصوص الشخصيات.. أفضل كثيراً التشوش والغموض بخصوص كل من الكتابة والذهاب إلى المسرح.
هامش: جائزة بوليتزر للرواية ذهبت إلى دونا تارت عن روايتها «الحسون»، وكنا في عدد سابق من ملحق «نوافذ» قد عرضنا بإسهاب للرواية مع ترجمة مقابلة مع المؤلفة وثبت لمقتطف منها. أما ما قالته لجنة الحكم في رواية «الحسون»: «رواية جميلة السبك خارجة من خلجات العصر... تعمل على حفز العقل وتمسك بتلابيب الفؤاد».
عرضنا السابق لتلك الرواية جاء نتيجة تأهلها في بريطانيا للائحة النهائية من جائزة بابلي للسرد النسائي. كما وأنها بلغت اللائحة النهائية لحلقة نقاد الكتاب الوطني الأميركي.
مهما يكن، مكان الرواية في مانهاتن الحديثة وهي تسرد قصة صبي يتيم صغير يحاول التصالح مع موت والدته.
أما تعليق تارت الوفية بعد فوزها فكان «الشيء الوحيد الذي أشعر بالأسف عليه هو كون ويلي موريس وكذلك باري حنا ليسا معنا هنا»، مشيرة بذلك إلى مؤلفين اثنين شكلا مرشديهما المبكرين في الكتابة. أضافت تارت «لو كانا هنا لأحبا ما يحصل».