21
أكتوبر
الهوية الإسلامية والهوية العربية من منظور أنثروبولوجيم. بوطقوقة عمارة لخوصإن سؤال الهوية «من أنت؟» من الأسئلة الملحة التي تُطرح على الأجنبي باستمرار وتجبره دوما على الإجابة الواضحة، إنه سؤال عفوي لا ينطوي على أية خلفية عدائية وإنما ينبع من الرغبة في التعرّف على الآخر والاقتراب منه.
خلال عملي المطوّل في إحدى أكبر الجمعيات في روما التي تهتم بالمهاجرين وتسهّل انخراطهم في المجتمع الإيطالي، لاحظت أن المهاجرين المسلمين والعرب القادمين من بلدان مختلفة يجيبون على سؤال الهوية بالرجوع إلى بلدانهم الأصلية (أنا باكستاني أو أنا سنغالي أو أنا مصري أو أنا جزائري أو أنا عراقي … الخ) ولا تجد من يرد قائلا: «أنا مسلم» أو «أنا عربي». هذه الملاحظة تثير الكثير من التساؤلات المشروعة: لماذا لا يشكّل الإسلام مكونا أساسيا للهوية لهؤلاء المهاجرين المسلمين خصوصا أنهم يعيشون في محيط كاثوليكي جلي؟ هل مسلمة وحدة الدين التي تقوم عليها الهوية الإسلامية صحيحة أم خاطئة؟ هل هناك إسلام بصيغة المفرد أم إسلام بصيغة الجمع؟ هل الهوية العربية المؤسّسة على وحدة اللغة شعار ترفعه الجامعة العربية في مؤتمراتها فقط أم قاسم مشترك حقيقي يوحّد بين المواطنين العرب؟ هل اللغة العربية لغة واحدة أم كيان ثقافي يجمع لغات مختلفة؟
إن الفرضية التي أعرضها للنقاش هي نتاج متابعة وبحث أنثروبولوجي طويل توّج بأطروحة ماجستير حول المهاجرين المسلمين والعرب المقيمين في العاصمة الإيطالية قدمتها عام 2002 في جامعة روما. أعتقد أن الحدود الجغرافية التي تفصل البلدان العربية والإسلامية عن بعضها البعض قد أوجدت حدودا ثقافية أثّرت في اللغة والدين والتقاليد والعادات والذاكرة والمخيال وطريقة العيش والموقف من السلطة الحاكمة هذا من جهة، من جهة أخرى منعت ما أسميه بالتواصل المزدوج أي تواصل الذاكرة وتواصل الشعوب. إن الخصوصيات المترتبة عنها تدفعنا إلى الحذر الشديد من مغبة التعميم ولا تسمح بالحديث عن هوية إسلامية أو عربية واضحة المعالم وإنما عن هويات محلية مثل الهوية الجزائرية والهوية العراقية والهوية الباكستانية والهوية السنغالية…الخ.
يتأسّس مفهوم الهوية الإسلامية على مسلمة الدين الواحد دون الاكتراث إلى الاختلافات الجوهرية التي تفرّق بين الإسلام في المغرب والإسلام في باكستان مثلا. لتوضيح هذه الفكرة نستعرض قصة مهاجر باكستاني يقيم في روما منذ أكثر من عشر سنوات.
يعاني شهزاد من مشاكل نفسية من جراء الديون، فقد استدان قبل سفره إلى بلده مبلغا ماليا كبيرا ( 10.000 يورو) للمساهمة في زواج أخته، حاولت أن أفهم منه كيف تم إنفاق هذا المال الذي يوازي دخل العامل في باكستان في خمس سنوات! فأخبرني أن أهل العروس يدفعون لأهل العريس مهرا كبيرا، وهو من صميم الزواج على الطريقة الإسلامية، سألته عن آية قرآنية أو حديث نبوي يشرّع هذا النوع من المهر لكنّه لم يجبني. لم أستسلم للأمر الواقع ورحت أبحث عن تفسير مقنع فاكتشفت أن من أركان الزواج الهندوسى أن تدفع المرأة للرجل مهرا! بحوزتي أمثلة كثيرة لا يسمح المقام بسردها.
إذا تسمح المقاربة الأنثروبولوجية برصد عملية التثاقف التى تمس كل العقائد، فالدين كائن حي يتأثر ويؤثر، يأخذ ويعطي وليس قالبا جاهزا جامدا والإسلام لا يشذ عن هذه القاعدة، لذلك ينبغي الحديث عن الإسلام بصيغة الجمع لا بصيغة المفرد.
يقول عالم الإجتماع الفرنسي ألان توران A. Touraine: «لا تتأسس الهوية إلا بالاعتماد على العلاقة مع الآخر، كما لا نستطيع رفض المبدأ التحليلي الذي استخلصه علماء الأنثروبولوجيا من اللسانيات مفاده أن العلاقة مع الذات تخضع إلى العلاقة مع الآخر: الاتصال يحدد الهوية» (1). إن الاتصال الذي يتحدث عنه توران يتجاوز بكثير عتبة اللغة لذلك أفضّل استخدام مصطلح جديد هو التواصل المزدو: تواصل الشعوب وتواصل الذاكرة.
لن نتوقف مطولاً عند التواصل الأول (تواصل الشعوب العربية والإسلامية فيما بينها)، فلا تزال التأشيرات سيدة الموقف وسوء المعاملة التي يلقاها المواطن المسلم أو العربي في مطارات الأقطار الإسلامية أو العربية تملأ الصحف وليس هناك في الأفق مشروع وحدة عربية أو إسلامية على شاكلة الوحدة الأوربية. ما يهمنا في هذا المقام هو تحليل التواصل الأول (تواصل الذاكرة) وهو الشرط الغائب في تحديد أي مشروع هوية قائم على أرضية صلبة وليس على رمال متحركة.
يعد موريس هلبواكس M. Halbwachs من الدارسين المختصين الذين قدموا دراسات قيّمة حول الذاكرة الجماعية، فلا غرابة في اعتماد مفهومه القائم على المكان لأنه يقترب من فكرة الحدود الجغرافية، ويقول: «إن صورة المكان وحدها بسبب استقرارها، تعطينا انطباعا بأننا لا نتغيّر مع مرور الزمن، لكن بهذا الشكل نستطيع تحديد الذاكرة، وحده المكان يتمتع باستقرار أكبر مما يجعله يدوم دون أن يشيخ أو يفقد أحد أجزائه» (2).
على ضوء هذا التحديد، سنحاول أن نعقد مقارنة بين مكانين في زمن واحد: بيروت والجزائر العاصمة في شهر جوان عام 1982، هذه المقارنة تبيّن بشكل جازم أننا لا نملك ذاكرة جماعية واحدة مما يجعل الهوية العربية مادة كوميدية لأفلام دريد لحام!
في صيف 1982 تعرضت بيروت إلى اغتصاب إسرائيلي على مرأى ومسمع “الدول اللقيطة” على حد تعبير محمود درويش وانتحر الشاعر خليل حاوي بعد صيحته المدوية: “الناس تعلكها دولاب نار/ من أنا حتى أرد عنها النار والدوّار”، في نفس الزمن وفي مكان آخر خرج آلاف الجزائريين (كنت واحد منهم) إلى شوارع العاصمة للاحتفال بانتصار الفريق الوطني على الفريق الألماني في كأس العالم وغنينا طوال الليل أغنية فرقة البحّارة: “جيبوها يا لولاد… جيبوها يا لولاد … يا لولاد ديرو حالة!”. كيف نصالح بين ذاكرة الفرح وذاكرة الحداد، بين صيف البهجة وصيف الكوابيس، بين ذاكرة الجزائري وذاكرة اللبناني (والفلسطيني)!؟ لا نملك ذاكرة جماعية واحدة بل إن ذاكرتنا كخريطة العالم العربي مليئة بالحدود والتأشيرات!
يقول إدوار سعيد E. Said: «أعتقد أن الهوية هي ثمرة إرادة، ليست شيئا تعطيه الطبيعة أو التاريخ» (3). لعل الهوية الأوربية الناشئة أبرز مثال على ذلك، هناك تواصل بين الشعوب بفضل إلغاء الحدود وإدخال العملة الموحّدة كما برزت إرادة صادقة في معالجة جروح الذاكرة الجماعية الناتجة عن النازية والفاشية.