يشتد ثقل تراثنا الإسلامي-في هيئته الراهنة – على عملية التحول التاريخية الجارية (تعميق علاقات الإنتاج الرأسمالية). فهو يشتغل كبنية فوقية معرقلة، مقارنة بالانسيابية النسبية للتحولات الرأسمالية الجارية في البنية التحتية لمجتمعاتنا العربية-الإسلامية. وعلى الرغم من أن جزءاً من هذا التراث لا يستهان بحجمه قد تراكم في مرحلة التحول المبكر الى الرأسمالية التي تبلورت ملامحها الفكرية والاقتصادية بدءا من نهاية الألفية الميلادية الأولى (1) ،إلا أن هذا الجزء مدفون تحت طبقات عميقة راكمها فقهاء الموجات الرعوية: المغولية والتركية..
لقد ضخت الإثنيتان الرعويتان دما جديدا في نمط الإنتاج الخراجي الذي مر بلحظتي (تحول مبكر إلى الرأسمالية) عند نهاية الألفية الميلادية الأولى (الفاصل البويهي)، وعند منتصف الثانية (الفاصل المملوكي)(2)..
ولعل التقليب في دفاتر الإمبراطوريات الخراجية التي اصطبغ تاريخ المنطقة بها، والتي قامت على أكتاف الإثنيات الرعوية الثلاث: (العرب والمغول والأتراك) يكشف كم أعاد الإسلام إنتاج نفسه على يد فقهائه كلما استدعت مصالح العصبيات المنتجة للسلطة ذلك. أنظر في هذا السياق سيرورة نشوء وانتشار المذاهب الفقهية أو الطرائق الصوفية، وانجدال هذه السيرورات على سيرورات انبثاق العصبيات الرعوية(3) وتسيدها على حيز مناسب من “الز-مكان” الإسلامي.
يعمل التراث الآن كمعوق، بفعل الغلبة الكمية للذي تراكم فيه وفقا لاحتياجات التحالف الذي يعيد إنتاج نمط الإنتاج الخراجي (الفقهاء – العصبيات الرعوية “ذات الشوكة”) ولعل في تسلل المصطلح الأخير الى دائرة شروط الإمامة (الماوردي) مثالا واضحا على حجم الضغط الذي تعرض له الإسلام كدين ليصبح تسويغا أيديولوجيا لتشكيل الإمبراطوريات الخراجية. وفقا لهذا الفهم لآلية تشكل التراث الإسلامي وطريقة تعشقه مع الجدليات التي رسمت وترسم خطوط التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لسكان الحوض الآسيوي – الأفريقي، الذي تأثر بالظاهرة الإسلامية، فإن مقاربة التراث نقديا أصبحت جزءا عضويا في معادلة الخروج من التخلف..
—
إلا أن على من يتصدى لهذه المهمة المحفوفة بالمخاطر أن يمتلك عقلا باردا موضوعيا عميق التمكن من أدواته المعرفية الحديثة. وتشتد المخاطر على من ينتمي لهذا التراث بالولادة، نظراً لانقطاع تعرضه (أي التراث) للمساءلة- على الأقل في المرحلة “العثمانية – الصفوية” التي شكلت بالنسبة للمسلمين الذاكرة القريبة الأكثر تأثيرا على فضائهم العقلي، بدل أن تباشر الحداثة الأوربية الوافدة منذ قرنين الضغط على مجنبات هذا الفضاء العقلي واختراقه، واحتفاظ هذا التراث بكامل سيطرته النفسية والفكرية والعاطفية على أتباعه..
لا يستطيع المسلم أن يقرأ في مصحفه بمعزل عن وقع التجويد على “الأذن”. وكذلك تفعل بالبصر فنون الخط العربي وأرابسك الأطر والمنمنمات التي تحيط بالكلام المتعالي. ويتشربها المعمار الإسلامي للبيوت والمساجد والأضرحة، وصولا إلى جيشان الرأسمال الرمزي داخل المخيلة، وتلاعبه (أقصد الرأسمال) بالبنية الهندسية “للحس والشعور”..
وهبوطا من القرآن الى قاعدة الهرم الديني حيث أضرحة الأولياء والصالحين المزودة بشبكة من الروائح والمؤثرات البصرية —السمعية التي تتبادل الدعم والإسناد لإشاعة مناخ فكري – نفسي يلف الحواس كما يلف السوار المعصم، متلبسا (أي السوار) منزلة بين منزلتين: القيد والزينة.
كيف سيحتفظ المسلم بدماغه باردا وسط هذه المعمعة؟
مع ذلك لا بد مما ليس منه بد... أي لا تملص مما يمكن تسميته “ثقافة الإعاقة” بدون إخضاعها للنقد الموضوعي المسلح بما راكمه الغرب في معرض ثورته العقلية من تحسينات على أدواته المعرفية. وتشتد الحاجة إلى توسيع عملية نقد التراث التي باشرها طه حسين وعلي عبد الرازق ومعروف الرصافي ويتابعها محمد أركون ونصر حامد أبو زيد ومحمد عابد الجابري... الخ، بافتتاح ورش فكرية جديدة، نظرا لما آل إليه تقاسم المسلمين لرأسمالهم الرمزي في مجرى صراعاتهم السياسية، واستخدامهم لهذا الرأسمال ذرورا يغطي الطابع الدنيوي للصراع، بقدسنته في اللاشعور الجمعي للجماعات الإسلامية وبالتالي إبعاد السياسة عن وظيفتها في حل الاختلاف، وانزلاق الدين خارج وظيفته الطبيعية: تكوين بطانة لينة للروح لتخفيف ارتطامها بأسئلة الوجود. مما صبغ تاريخ المسلمين بالفتن الدينية والمذهبية.
ولقد كشف الصعود السياسي للأحزاب الدينية في العالمين العربي والإسلامي ضحالة التأثيرات التي أحدثها نقد التراث على الناشطين السياسيين، وكوادر الأحزاب القومية والعلمانية في العالم العربي. يتمظهر ذلك في انفضاض الكثير من كوادر هذه الأحزاب والتحاقها بالأحزاب الدينية، أو السهولة التي تزحط بها هذه الأحزاب (العلمانية) باتجاه تملق بيئاتها الدينية أو المذهبية بدعوى تفعيل شعبيتها داخل هذه البيئة أو تلك.
ولعل قلة التوظيف في الثقافي، وتكثيف التوظيف في السياسي، ومحورته حول هم الوصول إلى السلطة، أفقد هذه الأحزاب دورها كقاطرة للتحولات الفكرية والأيديولوجية والسياسية لمجتمعاتها. لقد ظل الريع الناتج عن نقد التراث، على تواضعه في العالم العربي–الإسلامي، حبيس الدوائر الضيقة لمنتجيه وتلامذتهم، بفعل تقاعس الأحزاب العلمانية (ليبرالية وقومية وشيوعية) عن القيام بدور“السائل الوسيط- إذا استعرنا لغة الكيميائيين”بين النخبة المنتجة للوعي الحديث والجمهور العريض. وتحولت هذه الأحزاب الطاردة للثقافة الى قواقع فارغة إلا من الأمناء العامين وبعض الخدم والحشم.
—
لا أرغب لهذا الحديث أن ينزلق الى التحليل المخلوط بالأماني. بل أريد القول أن التاريخ كركام من الوقائع الحقيقية والملفقة، ينصب أفخاخا لمن يريد التقليب فيه، يقع فيها من لا يحتفظ بالمسافة العاطفية والوجدانية الكافية على المادة التاريخية التي يضعها على الطاولة. تشبه هذه العملية من حيث حراجتها (من حرج) الفكرية- النفسية للقائمين بها، العمليات الجراحية التي يجريها الجراحون لذوي الأرحام من الأقارب. الى هذا المستوى من الأعماق - حيث تتراص فوق بعضها البعض طبقات اللاشعور- تصل جذور التراث، لتمدنا بالنسغ الذي يغذي انحيازاتنا فكر او أنماط سلوك حيال المأكل والملبس وتصريف الليبيدو، وتعطينا إحساسا مرضّيا بالهوية، في عالم تضغط فيه العولمة على كل أنواع التخوم.
يحتلنا التراث كمسلمين ويحفر بيننا وبين العالم خنادق تملأها التيارات الجهادية بكراهية تستدعي ما يوازنها على الطرف الآخر. وهي في لعبتها لقدسنة صراعها مع الأطماع الخارجية تخفي عن وعي وبدونه ميلا راسخا الى لجم الجدلية الاجتماعية – الاقتصادية الضاغطة باتجاه الحداثة الرأسمالية، سيما وهي (التيارات الجهادية) رأس حربة الاتجاهات المحافظة في إستراتيجيتها التقليدية (توظيف التناقض مع الخارج للجم التناقضات الداخلية).
تلك في رأيي خطوط دلالة عريضة تعمل كحوافز للبرامج والسياسات والاستراتيجيات القريبة والمتوسطة التي نتمنى أن تتمخض عنها الأحزاب العلمانية (القومية والشيوعية والليبرالية) في مجرى استعادتها لزمام المبادرة التاريخية الذي أفلت من يدها في العقود الأخيرة..
هوامش :
1- محمد أركون –الإسلام،أوربا ،الغرب –دار الساقي
2- نفس المصدر
3- مقدمة ابن خلدون