غلب على الدارسين للتاريخ، جعلهم له، عالمياً كونياً مطلقاً، تمر البشرية جميعاً به، وعلى المراحل عينها في كل مكان، وهنا يطرح الباحث الجزائري الدكتور الحاج أوحمنه دواق، سؤال: هل التجربة التاريخية العالمية واحدة؟ أم أنه يمكن تخصيص كل فضاء حضاري وثقافي بتاريخ مستقل، رغم تقاطعاته مع بقية التجارب والفضاءات؟ويمضي أستاذ الفلسفة دواق في دراسته المعنونة بـ "الحداثة حول إمكان الآخر" والمنشورة على موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث في قسم العلوم الإنسانية، بالحديث أن الاختيار في بعض المواقف التاريخية صعب، بل قد يكون مستحيلاً، خاصة إذا وجدت الجماعة التاريخية نفسها في حال مهتز، بين مثالين أو نموذجين؛ أحدهما ورثته من ماضي أسلافها؛ ثم وجدت نفسها أيضاً في عصر الحداثة مقابل تجربة أخرى متميزة ومتفوقة، فرضت حضورها بهيمنة كاسحة، باعتبار النموذج الكلي الذي تتسم به.
ويقف الباحث عند تعريف الحداثة، فهي "حركة انفصال، إنها تقطع مع التراث والماضي، ولكن لا لنبذه، وإنما لاحتوائه وتلوينه وإدماجه في مخاضها المتجدد. ومن ثمة، فهي اتصال وانفصال، استمرار وقطيعة: استمرار تحويلي لمعطيات الماضي وقطيعة استدماجية له". ومن التعريفات، وفق الباحث، ما يورد في شكل نقدي يلمح إلى أبعادها المعرفية المركبة التي لا تكتفي بسرد توصيفي لمعناه الدارج، كسلطة ممارسة على العالم بمكوناته كلها، بل يتعدى إلى السبر عن الأسئلة الكلية والنهائية. كما عند عبد الوهاب المسيري والمفكر التونسي فتحي التريكي والفيلسوف طه عبد الرحمن، الذي يرى أنها مشروع غير مكتمل"، باعتباره قد عجز عن بلوغ وعوده، حيث صعد من ديباجات التنمية واليوتوبيات الحالمة في البداية، وإذا به يسقط في مفارقات التطبيق، فانتهى إلى وضع تاريخي يعج بالمتناقضات.
ويوضح الباحث أن الحداثة الغربية تقوم على مجموعة من المرتكزات والخصائص البنائية، أهمها: التقدم وميتافيزيقا الهيمنة؛ حيث يورث التقدم حالة من الأمل المفرطة، التي سرعان ما تنتقل جراء الإخفاقات المتوالية إلى شك مريع في كل شيء، فيهتز الإيمان بالقيم وبالثبات، وضعية نعتها بعضهم بالغباء العالمي، ومن معانيه "..إيمان الحداثة بنفسها والإيمان بقطار انتصاراتها الذي لن يتوقف...وأدى نجاح توسيع نطاق المرونة غير المحدودة للتكنولوجيا الحديثة إلى إمكانية التخلص من كل صدفة، فكل شيء ثابت سيتبخر وسيستعمر المستقبل الحاضر. وإذا تأملنا ذلك بشكل تاريخي، سيبدو هذا التغير الدائم كانتقال من الظلام إلى النور كنظرية ضمنية للتطور الأخلاقي الذي نسميه نحن بالتقدم.."؛ ففكرة التقدم المستمر اللانهائي،بحسب الدراسة، فكرة مدمرة، مبنية على أساس أن المصادر الطبيعية لا تنفد، وهي فكرة لا علاقة لها بالواقع.
المرتكز الآخر بحسب دواق يكمن في تمثل الداروينية إطاراً للتقدم؛ إذ يرى أن الوصل بين مقولتي التقدم والتطور من جهة، والداروينية من جهة ثانية، أفادنا في تبرير كثير من الممارسات التي خلفتها الحداثة الغربية في العالم ككل، باعتبارها تقدم العالم كله، وهذا الذي قصده المسيري عندما جمع بين الحداثة في تقدمها، والداروينية في تطبيقاتها الاجتماعية والتاريخية. بصفتها "حداثة ترى أن العالم مادة استعمالية، وأن الإنسان الأقوى هو القادر على تسخير الكون بأسره، لخدمة مصالحه وليس لخدمة الإنسانية جمعاء".
التمركز الاستهلاكي ومتتالية الاستنزاف، من المرتكزات والخصائص البنائية التي تقوم عليها أيضاً الحداثة الغربية، وهنا يقول الباحث، إن الاستهلاك لم يتوقف عند أعتاب الضروري باعتبار الصيرورة العدمية الملازمة للروح التي لا تشبع، بل تعدى إلى أفق الاستجلاب الصارم والدارج لكل السلع، وهذا لا يختص بانحراف وقع، بل بمترتبات منطقية طبيعية لإنسان اعتمد على وعي منفصل عن القيم بوصفها كليات ومطلقات معنوية إنسانية متعالية، مستغرق في تجربة تقودها النزعة الإنسانوية، ضد كل متجاوز ومتعال.
أما المرتكز المتمثل بـ "العقل الأداتي واستعمالية العالم"، فتشير الدراسة إلى أنهيمكن أن نلخص مع عبد الوهاب المسيري، العقلانية النقدية بوصفها احتجاجاً على العقل التنويري الحداثي، لكن غياب التعالي سيحرم من التجاوز، وستنقلب قيم التصحيح، إلى مسوغات الهدم واللامركز واللامرجع، والسيولة العارمة، وهل ما بعد الحداثة غير هذا؟ يتيح العقل النقدي فرصة تصور الإنسان ذاتاً مبدعة مستقلة، تحمل إمكانية توليد المسافة في الصلة مع المؤسسات العامة، ويمكنها أن تفلت من إكراهات التاريخ وهيمنته. وبذا تصبح الذوات إمكانيات مفتوحة على الاختيار.
وينوه دواق في مرتكز "الحداثة البديلة؛ المفهوم، السمات، المعوقات"، أن المسيري، يطرح مشروعاً حداثياً بديلاً، يبدأ من النقد الجذري للحداثة الغربية، من غير إغفال لمكتسباتها الأساسية، ويعمد إلى وضعها في إطار قيمي يستند إلى المعاني الإنسانية المشتركة، ويجعل من خصائصها متصلة بالقيم في أفق التعالي والتجاوز، ثم يضع الوعي المنشئ للبديل في إطار بعض المعوقات التي قد تجهض المشروع في أصله. ونبدأ من الشعار الجوهري لها: حداثة إنسانية تعمل على التوازن الجذري مع العالم بمكوناته جميعا، وتنطلق من مفهوم أنطولوجي يصور الكائن البشري في إطار الاشتراك، وليس الوحدة، فالناس مشتركون، لا موحدون؛ أي منمطون.
وبخصوص "العدل/التوازن، بديلاً عن التقدم اللانهائي"، فيبين الباحث أنه لا يمكن للوعي الحداثي أن يتفادى الاصطدام بالجدار الكوني، إلا إذا قلب فهمه للعالم، بتبني مقولات جديدة تحل مكان التقدم، وليس عن العدل بديلا.. فلو ذكّرت الحداثة بقيمها الإنسانية التي شرعت بها بداية القرن الخامس عشر، من عدالة ومساواة، وأخوة، وتسامح، وتكافل..، وبتفادي أن الخلاص يتم من خلال السلع، بل بتحقيق الإمكانيات الكامنة في الإنسان.
آخر المرتكزات، بحسب الباحث، هي "الإنسانية الفضفاضة واللازمة القيمية"؛ حيث يرى أن مفهوم العدل؛ لن يتحقق في أية منظومة تدبيرية لشؤون العالم، ما لم تنطلق في تقييمها من رؤية وجودية خاصة، تجعل من مرجعية العالم متجاوزة له، وكذا ما يتصل بالإنسان كذلك، وبذلك تسترجع التجربة التاريخية الحداثية متكأها الرؤيوي الذي يؤسسها على منوال آخر، ويجذرها في أفق إنساني متعال، يؤمن بالرغبة لكنه لا ينحبس عند أعتابها، ويراعي الحاجات النوعية البشرية، لكنه لا يطلقها من عنانها بغير ناظم أو ضابط.
ويختم دواق بتأكيده على أن نموذج الإنسان، كما أوردناه، هو الكفيل "بتحقيق منظومة تحديث لا تنتهي بالضرورة إلى تشييء وتسليع الإنسان، منظومة لا تحاول اختزال التركيبية الإنسانية إلى مجموعة القوانين المادية...وتضع الحلم بالحرية نصب عينها، الحلم بالإنسان بوصفه كائناً مسؤولاً لا يختزل إلى مادة، ومن ثمة لا يمكن التنبؤ ببعض أوجه سلوكه. وهذا يعني أنه إنسان يستعصي على التشييء أو التسليع أو التحويل إلى شيء أداتي".
لقراءة الدراسة كاملة يمكن النقر هنا