"مخاضات الحداثة التنويرية" لهاشم صالح
لقد أهملنا نقد التراث فصعدت الأصوليات
خالد غزال
يرصد هاشم صالح في كتابه "مخاضات
الحداثة التنويرية، القطيعة الابستمولوجية في الفكر والحياة" الصادر عن
"دار الطليعة"، النظريات التي قال بها العلماء والفلاسفة في شأن القطيعة
المعرفية، من كوبرنيكوس الى ميشال فوكو في القرن العشرين.
يرى ان تيارات ثلاثة تشكلت في هذا السياق، أحدها يقول بوجود قطيعة مطلقة
تفصل ما كان موجودا عما سيكون لاحقا، وآخر يرفض الاعتراف بوجود اي قطيعة
في تاريخ الفكر، فيرى ان تاريخ الفكر يمثل خيطا مستقيما ومتواصلا، اما
التيار الثالث المرموز اليه بالاتجاه العقلاني، فيعترف بوجود قطيعة في
تاريخ الفكر الغربي لكنها ليست مطلقة.
يعتبر غاستون باشلار أبا مصطلح
القطيعة الابستمولوجية، حيث اشار الى نوعين من القطيعة، الاولى بين المعرفة
العلمية الدقيقة والمعرفة العمومية الشائعة، فيما تشير الثانية الى
القطيعة بين مختلف تاريخ الفكر، والى ان مهمة عالم الابستمولوجيا تكمن في
فرز المعرفة العلمية الصحيحة عن المعرفة العمومية الشائعة المليئة
بالاخطاء، حيث تفرض هذه الاخطاء نفسها على المجتمع في وصفها حقائق غير
قابلة للنقاش. لكن الوصول الى الحقيقة تعترضه عقبات تستوجب ازاحتها الواحدة
بعد الاخرى، بما يشبه عملية ازالة العقد النفسية من لاوعي المريض، مما
يعني "ان القطيعة تشترط اقامة الحد الفاصل بين العلم والايديولوجيا، وبين
الحقائق الحقيقية والحقائق السوسيولوجية".
القطيعة مع العالم القديم لا
يمكن ان تحصل على المستويات المادية والاقتصادية، ثم تبقى الامور على حالها
في ما يخص المستوى النفسي والروحي والفكري كله. فإذا كانت القطيعة قد حكمت
تاريخ الفكر والعلم في اوروبا منذ قرون، الا ان الفكر العربي الاسلامي لم
يصل اليها او يعترف بها، لان هذا الاعتراف يتطلب تفكيك العصبيات القديمة من
طائفية وقبلية وعشائرية لكي يتبلور مفهوم المواطنية ويترسخ بشكل واسع.
يحدد
هاشم صالح الابستمولجيا في كونها اعلى العلوم وارقاها لانها تقوم على
دراسة كل العلوم بشكل نقدي لتبيان مدى صلاحيتها او لا. وهي تقدم رؤية دقيقة
عن الواقع والتاريخ. فهي فلسفة العلوم التي تدرس هذه العلوم وتستخلص منها
النتائج الفلسفية العامة.
يعتبر ديكارت المنظّر الاكبر للقطيعة
الابستمولوجية الاولى، فينظر ليه على انه مؤسس العقلانية الغربية التي باتت
هي المنهجية في الغرب. طبّق على عالم الطبيعة القوانين الرياضية
والفيزيائية وقال ان العالم كله يمكن تفسيره رياضيا، باستثناء الروح ومسائل
الايمان والعقيدة. ورسخ ديكارت مع كل من غاليليو وكوبرنيكوس ثلاث افكار
رئيسية: الاولى اتخاذ موقف الاستقلالية تجاه العقائد الكنسية المسيحية،
والثانية تحويل ظواهر الطبيعة معطيات قابلة للقياس الدقيق، والثالثة تحويل
الطبيعة معادلات رياضية. هكذا ساهمت هذه الافكار في هيمنة مطلقة للعقل في
اوروبا حيث بدأ المفكرون يعتقدون أنه وحده القادر على فهم ظواهر العالم او
تفسيرها، كما اصبح الناس يرفضون التفسير السحري والخرافي له، ويطالبون
بالتفسير العلمي او العقلي، كما حل التفسير العلماني للعالم محل التفسير
الكهنوتي المسيحي التقليدي. تلك كانت القطيعة الكبرى الاولى في اوروبا التي
ساهمت في ولادة العلم الحديث والعقلية الحديثة.
اتت القطيعة
الابستمولوجية الثانية مع نيوتن وكانط. في كتابه "نقد العقل الخالص" اشار
كانط الى ان العقل البشري لم يعد مسموحا له بأن يهوّم بعيدا في متاهات
الميتافيزيقا، فالمطلوب تحريره من المسلّمات المسبقة للميتافيزيقا واللاهوت
المسيحي القروسطي بأكمله. الجديد في ما قدمه كانط يتعلق بسؤاله ما هو
الانسان. قبل ذلك كانوا يتحدثون عن الطبيعة الانسانية او الطبيعة البشرية،
ولكن ليس عن الانسان كشخص ملموس ومحسوس. اما نيوتن، فكانت مساهمته في بلورة
قانون الجاذبية الكوني وصياغة قوانين الفيزياء في علم الميكانيك، وحدد
بشكل جديد ودقيق مفاهيم الزمان والمكان والاثير والحركة والسرعة والكتلة
والقوة. ما سعى اليه كل من نيوتن وكانط هو التوصل الى اليقين في مجال
الفلسفة على غرار اليقين في مجال الفيزياء.
تبلورت القطيعة
الابستمولوجية الثالثة مع اينشتاين وباشلار. كانت نظرية النسبية التي قال
بها الأول ابرز المنعطفات الاساسية في ميدان الفيزياء، عبرها تغيرت النظرة
الى مفهوم الزمان والمكان، بحيث لم نعد نؤمن بوجود زمان او مكان مطلق، بل
بمكان وزمان نسبيين، "فالفيزياء الدقيقة ادّت الى تحرير الروح من المادة
عندما اكتشفت ان المادة ما هي الا طاقة مكثفة، او طاقة في حالة حركة. فهناك
جدل بين الروح والمادة، وليس هناك من طلاق كامل او نهائي بينهما". اما
غاستون باشلار الذي ينظر اليه على انه أبو العقلانية في فرنسا، فجمع في
شخصيته بين الموضوعية الصارمة للعالم والفيلسوف من جهة، وبين الحساسية
المرهفة للشاعر والفنان من جهة اخرى. اكد ان المعرفة العلمية هي المعرفة
التقريبية التي تقبل المراجعة والتصحيح، وان لا يقين مطلقاً في العلم بل
يقين نسبي، والحقيقة نسبية على هذه الارض، فيما الحقيقة المطلقة موجودة فقط
عند الله. وشدد باشلار على انه لكي نتوصل الى المعرفة العلمية ينبغي ان
نتخلى عن الاحكام المسبقة التي تربّينا عليها في طفولتنا وفي البيت
والمدرسة والشارع. كان باشلار ماديا وروحانيا في الوقت نفسه، فالفلسفة التي
كان يدعو اليها تتطابق ونتائج العلم وقوانينه وآخر اكتشافاته، اما الفلسفة
التقليدية التي تفترض وجود عقل ثابت لا يتغير ولا يتحول، فتعتبر مضادة
لروح العلم الحديث.
يلخص هاشم صالح المبادئ النظرية لباشلار بثلاثة:
"الاول ـ الاولوية النظرية للخطأ، فالحقيقة لا تنبثق الا في ختام صراعها مع
الخطأ، فلا يمكن تشكيل معرفة علمية صحيحة على انقاض المعرفة الخاطئة.
الثاني ـ تبخيس المعرفة الناتجة من طريق الحواس او الحدس، فالمعرفة العلمية
مصنوعة من خلال التجربة والممارسة واستخدام آلات القياس العلمي. الثالث ـ
لا يمكن فهم الواقع الا من خلال الواقع ذاته، فالواقع يتحرك طبقا لمنطقه
الخاص وقوانينه الداخلية".
يحتل الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو موقعا
مركزيا في الفكر الفلسفي في عصر الحداثة، التي لم تحصل من طريق اعدام
الماضي او القفز فوق حقائق الواقع والتاريخ بقدر ما تتم من "طريق خوض معركة
الصراحة والحقيقة مع التراث والذات التاريخية".
يتساءل هاشم صالح عن
حدود الحداثة التنويرية في العالم العربي واسباب العجز التي منعت الاقتراب
مما حصل في اوروبا على هذا الصعيد، فيرى ان عودة الحركات الاصولية الى
الحياة العربية بقوة انما هي تعبير عن الاهمال الطويل لقراءة التراث العربي
الاسلامي ونقده وتفكيكه، وبقاء الوعي العربي او الاسلامي اسير مقولاته
ومفاهيمه. لا يمكن مواجهة الاصولية عندنا الا بتقديم صورة اخرى عن التراث
الاسلامي عبر استخدام المنهجية التاريخية في دراسة هذا التراث. تكمن
مشكلتنا في طبيعة المرض الداخلي الذي يصيبنا، فنحن نمتلك تراثا عربيا
اسلاميا غنيا جدا، لكننا نعجز عن ايجاد السبيل الصحيح للتعامل معه والتوفيق
بينه وبين قيم الحداثة. فتصفية الحساب مع هذا التراث لم تتم حتى الان
بالشكل الكافي، بل اننا لا نزال نعيش زمن المشاريع التراثية، بعيدين عن
التنوير الذي خاضت معاركه المجتمعات الاوروبية.