منح كل طاقاته وفكره لأعماله التي طالما وصفها بأنها فلذات أكباده “وكأنني أحضر أبنائي إلي السينما، وأتأملهم يكبرون مع تنامي نجاحاتهم، ومع عرضهم من وقت لآخر، لتملأ السعادة قلبي بهذا النجاح”. ونتيجة لتعمّقه في عمله، تجده حائرا في تفسيره “المخرج هو رجل، له أفكار، مثلما هو فنّان له خيال، قد يكون جيّداً أو سيّئاً، وأعتقد أنّ لديّ قصصاً لروايتها وأشياء حدثت لي تحتاج لتقديمها، وحين أسأل عن الإخراج وماهيته تكون أول إجابة تقفز إلي تفكيري أنني لا أعرف، أمّا ثاني إجابة فهي أنّ كلّ آرائي عن هذا الموضوع تحملها أفلامي، وحين أصوّر فيلماً فلا يهمّني كم سأصوّر من مشاهد، لأنني ببساطة أدير الكاميرا وأصوّر، بينما يختلف تكنيكي من فيلم لآخر، لأنني أعيش حالة مختلفة في كل فيلم». ورغم ذلك، تراه يدعو المخرجين إلى تجنّب”الأفكار الجاهزة أو الفرضيات المسلّم بها“لأنّ ذلك سيؤدّي إلى حشر الفيلم في إطار ميكانيكي، فعلى المخرج (أن يتبع الأحداث التي تقوده إليها القصة نفسها، والشخصيات فيها”
حين ينتهي المخرج الإيطالي الراحل مايكل أنجلو أنطونيوني من الحديث عن عمله، نجده يتوجّه إلى شريكه، إلى ذاته الأخرى، إلى الممثل، ليدعوه للانطلاق “من ذاته؛ ما إن تتضّح له الشخصية التي سيمثّلها، ما هو مطلوب منها والدور الذي ستلعبه، عندها يصبح على الممثل أن يبتدع كلّ شيء بنفسه وإذا حصل أن سألني عما ينبغي عليه أن يفعله أجد نفسي في ورطة)، من هنا يتضح أن انطونيوني، ليس من أنصار فكرة توضيح كل شيء للممثل، فتجربته مع الممثلة (بيتسي بلير) كانت بمثابة صدمة، يقول”إحدى أسوء اللحظات وأكثرها خيبة في مهنتي السينمائية معها، حين أرادت (بيتسي) أن تقرأ سيناريو فيلم (الصرخة) معي، وطالبتني بأن أكشف المعنى الذي يكمن وراء كل جملة في النص، ولكن هذا غير ممكن. إنّ الجمل التي يتفوه بها الممثل تنبع من إحساسه الفطري، يقترحها خياله وليس عقله، وبالتالي يحدث أن نعجز عن تفسيرها إلا أن هذا هو ما يريده المخرج. اذ كثيرا ما ترد عوامل غير واعية أو أحداث عادية لا تحتمل الشرح“، فليس على الممثل السينمائي أن”يفهم بل عليه ببساطة أن يكون.. وقد يرى البعض أنه من المنطقيّ أن يفهم المرء حتى يستطيع أن يكون، وعلى الممثل أن يصل إلي التصوير في حالة من العذرية".
ولد أنطونيوني في 29 أيلول عام 1912 في “فيريرا”، شمال إيطاليا، عشق الموسيقى، وعزف الكمان قبل الأوان، بحيث كانت أوّل حفلة له في سنّ التاسعة، يقول: “كانت طفولتي سعيدة، وأمي كانت امرأة ذكية ودافئة المشاعر، وكانت عاملة في أيام الشباب، أمّا أبي فقد كان رجلا صالحا هو الآخر، ولد في عائلة تنتمي للطبقة العاملة، ونجح في الاستحواذ على وضع مريح من خلال الدورات التدريبية الليلية والعمل الشاقّ، لقد أطلق والدي ووالدتي لي العنان لفعل ما أرغب فيه”. ورغم تخليه عن عزف الكمان بعد اكتشافه عالم السينما في سنوات المراهقة، كان يهوى الرسم طيلة حياته، يقول أنطونيوني: “كانت إحدى ألعابي المفضلة عبارة عن تنظيم المدن، لقد كنت أبني مباني وشوارع رغم جهلي بالهندسة وأملؤها بأشخاص صغار، وابتكر قصصاً من أجلهم، كانت هذه الأحداث الطفولية أشبه بأفلام صغيرة بالنسبة لي”. وهنا يرد عمله كمخرج إلى انحداره من الطبقة الوسطى “إن أهمّ عامل جعل مني المخرج الذي أنا عليه ـــ سيئا كنت أم جيدا، وهذا أمر لا أستطيع تحديده بنفسي ـــ هو على ما أعتقد بيئة الطبقة الوسطى التي ترعرعت فيها”.
بعد تخرجه من جامعة “بولونيا” في قسم الاقتصاد، بدأ أنطونيوني في الكتابة لصحيفة “فيريرا” المحلية في عام 1935، بصفته صحافيا سينمائيا، وفي عام 1942 شارك في كتابة فيلم “Un pilota ritorna” مع مواطنه العملاق روبرتو روسيلليني، وعمل كمساعد مخرج مع انريكو فولكجينوني. وفي عام 1943 سافر إلى فرنسا ليعمل مساعدا مع مارسيل كارنيه، ثم بدأ أنطونيوني في صناعة سلسلة من الأفلام القصيرة التي بدأها بفيلم“Gente del Po”، الذي يتحدث عن الصيادين الفقراء، وكانت هذه الأفلام في أسلوبها تنتمي للواقعية الجديدة، لكونها دراسات سينمائية شبه وثائقية عن حياة الأشخاص العاديين. لكنه رغم ذلك يتساءل “هل أنا مخرج من تيار الواقعية الجديدة؟ في الحقيقية لا أستطيع أن أقول ذلك”. ففي أول أفلامه الروائية الطويلة “حكاية علاقة حب Story of a Love Affair” في عام 1950، ابتعد عن الواقعية الجديدة عن طريق تصوير الطبقة المتوسطة؛ ليستمر على هذا النهج في بعض أفلامه التالية، حيث قدم “المهزوم The Vanquished”، وهي ثلاثية تدور كل قصة منها في مكان مختلف (فرنسا وايطاليا وبريطانيا) عن الأحداث الجانحين، ثم قدم فيلم “السيدة بدون زهور الكاميليا The Lady Without Camellia” في عام 1953، الذي يدور عن نجمة سينمائية شابة وأفول نجمها، و“الصديقات The Girlfriends” في عام ،1955 والذي تدور أحداثه حول مجموعة من نساء الطبقة المتوسطة في تورين، ثم يعود للحديث عن الطبقة العاملة مرة أخرى في “الاحتجاج The Outcry” في عام 1957 ليحكي عن علاقة عامل مصنع بابنته.
أنطونيوني، شهد بعين راصدة مخلفات النازية والفاشية وعاصر دكتاتورية موسيليني، بحيث كان هذا الضجيج لوحده كافيا ليحفر عميقا في ذاكرته وعيه، يؤكد أنه لا يعرف كيف يقوّم أفلامه، لكنه يستطيع - كما يقول - أن يقوّم رؤاه وعواطفه وينظر إلى الخلف، إلى حياته، وإن أفلامه تحمل جزءاً كبيراً من ذلك. لكنه يستدرك، أن العاطفة وحدها لا تكفي لصنع سينما، ولم تكن السينما الايطالية يوم خطت خطاها الأولى مع الموجة الواقعية الجديدة لتنتج عواطف أو تحرك عواطف جمهورها لكي تعرف، وعند انطونيوني المسألة مقترنة بما هو أبعد من ذلك، باتجاه التجارب والخبرات والأفكار والرؤى. مراقبة الواقع وقراءته فلسفياً وفكرياً وثقافياً. بإيجاز يؤكد انطونيوني رأيه : “أنا لم أفكر قطعياً بالجمهور، والآخرين، فهنالك شخص واحد يمثل هذا الجمهور والآخرين.. إنه أنا… نفسي”.
وصل أنطونيوني إلى العالمية في عام 1960 مع مغامرته “المغامرة The Adventure”، التي استخدم فيها اللقطات الطويلة وسلاسل من الأحداث غير المترابطة بدلا من أسلوب التعليق التقليدي، وقد لاقي الفيلم عند عرضه في مهرجان كان السينمائي مزيجا من الاستحسان والاستهجان، بحيث لم يكن جمهور السينما ونقّادها معتادين على مشاهدة ما شاهدوه في هذا الفيلم؛ إلى درجة وصف فيها احد نقاد تلك الحقبة فيلمه في إحدى الصحف الفرنسية بـ “أنها سينما الملل هذه المرة .. انطونيوني يطل على جمهوره بفيلم لا يحفل بمشاعر جمهوره وإمتاعهم بل ربما استفزهم مرارا بذلك الإيقاع الغريب.. اللقطات – والمشاهد الطويلة، المونتاج الذي لا يحفل كثيرا باللحظة المناسبة لقطع وجهة النظر إلى وجهة نظر أخرى، الحوار اليومي الأقرب إلى ما هو روتيني، الأحاسيس والمشاعر العادية التي تتسرب في المشهد دون أن تخلف وراءها تحولات حادة ومباشرة لدى الشخصيات..كل هذا كان يدور صداه في أجواء مهرجان كان السينمائي عشية عرض هذا الفيلم”، لقد كانت قصة الإيقاع الفيلمي أحد ملامح هذه التجربة الجديدة، فالشخصيات التي تعيش في كنف البرجوازية الطالعة في ايطاليا هي التي صارت تنتج شخصيات من هذا النوع الذي لم تألفه السينما من قبل، السرد الذي يعتني به انطونيوني أقرب إلى تداعيات خاصة بالشخصيات أكثر من كونه دراما متصاعدة وصراعات حادة وعميقة، ولادة هذا الفيلم كانت كفيلة بولادة نجمة سينمائية ظلت ترافق انطونيوني في أغلب أعماله وهي الممثلة (مونيكا فيتي)، لكن مع ذلك حظي الفيلم بشعبية كبيرة في المراكز السينمائية حول العالم. وكان يُنظر لفيلم“المغامرة” والفيلمين اللذين تلياه “الليل” و“الكسوف” على أنها ثلاثية لأنها تتبع جميعها الأسلوب نفسه، ولأنها تهتم بموضوع اغتراب الإنسان في العالم الحديث، وقد فاز الفيلم الثاني من هذه الثلاثية بجائزة الدبّ الذهبي من مهرجان برلين السينمائي في دورته الحادية عشر. بعد ذلك أخرج أول أفلامه الملونة “الصحراء الحمراء” الذي يعدّ جزءا رابعا يضاف للثلاثية السابقة، وجميع هذه الأفلام شارك في بطولتها “مونيكا فيتي” التي كانت حبيبة أنطونيوني في ذلك الوقت.
بعد ذلك وقّع أنطونيوني عقدا مع المنتج كارلو بونتي لتقديم ثلاثة أفلام باللغة الانجليزية لكي يتم إطلاقها من خلال شركة (مترو جولدن ماير)، والتي يعطيه من خلالها مطلق الحرية الفنية، وكان الأول هو فيلم “Blow-up” في عام 1966 ، وهو مقتبس عن قصة قصيرة للكاتب الأرجنتيني خوليو كورتاراز، ورغم تعامل الفيلم مع مواضيع فلسفية مثيرة للتحدي مثل استحالة وجود المعايير الموضوعية وحقيقة الذاكرة المشكوك فيها دائما، حقق الفيلم نجاحا جماهيريا كبيرا، وترشح عنه أنطونيوني لجائزتي أوسكار أفضل مخرج وأفضل سيناريو، وحاز عنه جائزة السعفة الذهبية من مهرجان كان السينمائي، أما الفيلم الثاني فهو “Zabriskie Point 1970”)، وهو أول فيلم يصوره في الولايات المتحدة الأمريكية، واستخدم أنطونيوني في هذا الفيلم موسيقي (بينك فلويد وجريتفول ديد) و(رولينغ ستونز)، ومع ذلك لم يحقق الفيلم أي نجاح نقدي أو جماهيري، والفيلم الثالث هو “The Passenger” في عام 1975، والذي نال الثناء النقدي لكنه لم يحز على النجاح الجماهيري، وخرج من التوزيع لسنوات طويلة، ثم عرض مرة أخرى على نطاق محدود في عام 2005.
دعي أنطونيوني في عام 1972من قبل حكومة ماو لزيارة جمهورية الصين الشعبية، وصنع هناك الفيلم الوثائقي (Chung kuo، Cina)، ولكن السلطات الصينية قامت بشجب الفيلم بدعوى أنه “ضد الصين” و“ضد الشيوعية”، وعرض هذا الفيلم لأول مرة في الصين في عام 2004 في إطار مهرجان سينمائي؛ أقيم برعاية أكاديمية السينما في بكين بهدف تكريم أعمال أنطونيوني، ليقدم في عام 1980 “The Mystery of Oberwald” المقتبس عن مسرحية لجين كوكتو بعنوان (الصقر ذو الرأسين)، بحيث تم تصويره في البداية بكاميرا الفيديو ثم طبع سينمائيا، وقام ببطولته (مونيكا فيتي).
عادت حقبة الثمانينات بأنطونيوني مجددا إلى الواجهة في الحياة الايطالية، حيث قدم فيها فيلمه (تحديد هوية امرأة) وذلك في سنة في 1982، ليصاب بعدها بأزمة قلبية؛ أقعدته عن العمل السينمائي لنحو عشر سنوات، أصبح إثرها مشلولا جزئيا وغير قادر على الكلام، لكنه مع ذلك ظل يصنع الأفلام، بما فيها فيلم (وراء الغيوم Beyond The Clouds ) الذي صور بعض مشاهده المخرج الألماني فيم فندرز، والذي يقول إن أنطونيوني رفض تقريبا كل ما صوره أثناء عملية المونتاج فيما عدا بعض المقاطع.
المخرج الذي قدم الكثير للفن السابع، والذي ختم رحلته بفيلمه الروائي“ايروس” سنة 2002 ، منح جوائز عديدة، كانت أبرزها جائزة “الدب الذهبي” في مهرجان البندقية عام 1964 عن فيلمه «الصحراء حمراء»، إضافة إلى السعفة الذهبية في مهرجان كان عام 1967 عن فيلمه “Blow-up”، ثم جائزة لجنة التحكيم الخاصة «تحديد هوية امرأة» عام 1982، وأوسكار في هوليود سنة 1995 عن مجمل أعماله، وأخيرا “الأسد الذهبي” عن كامل منجزه السينمائي سنه 1997 في البندقية.
حقيقة ذاق الفن السابع في الثلاثين من تموز عام 2007، ألما شديدا، لأن العملاق الإيطالي مايكل انجلو انطونيوني، الذي رحل في مساء ذاك اليوم، عن ٩٤ عاماً، كان قد لحق بزميله السويدي إنجمار بيرجمان، الذي توفي في اليوم ذاته عن 89 عاماً، وتكريما لهما كتب مارتن سكورسيزي عن أنطونيوني، ووودي الآن عن بيرجمان في جريدة “الغارديان” البريطانية في عدد واحد.