كان يريد أن يتحد بهم جميعا في لحظة واحدة. فخرج إليهم مع الطلقة. جاءهم من عجين الدم والتربة. نزل مع مطر في الجنازة. غمر مع زغردة أرملة. صعد على شارة النصر من يد اليتيمة.
***“الفَرْقْ”، لقاء يجمع المُعزّين بأهل المُتوفَّية أو المُتوفّى، في اليوم الثالث من الوفاة. ربمّا يُقصد به الفراق. وقد يكون المدُّ حُذف لغُصّةٍ في المَعنَى. ولا أعلم إن كان الفرق عادة تونسيّة أو هي موجودة على أرض أُخرى.
***الموتى لا يُفارقون تمامًا. يسكنون شجن أهلهم وصورة على الجدار، وفي الترحّم والقسم، وفي دموع الأقربين عند جنائز آخرين وفي بعض الأفراح أيضا.
وأكثر الشهداء ككُلّ الموتى: يُذكرون عند أهلهم فقط، وفقط يضافون إلى دفاتر الاحصاء، أو ترفع صورهم في بعض المحافل. ربما ليفخر بـ“استشهادهم” حزب أو تنظيم، أو دولة او حيّ.
لكن ثمّة شهداء مُميّزون يتحوّلون من بشر إلى معنى. موتُهم فواجع خلاّقة “تُخرج الحيّ من الميّت”. تخلق الفعل من العجز، والقوة من الوهن، والأحلام من الخيبات.
***شكري بالعيد، لم يستشهد فجأة. استعدّ جيّدا واستعدّت البلدْ.
قام بكلّ ما يجب ليموت كزعيم وطنيّ، ورتّل وصاياه وأخبر.
وتونس اختنقت جيّدا وخافت حتّى ارتعبت. واحتارت. وأظلمت سماؤها. وضاقت بالوجع. و“تدرْوشَت” ثورتها حتّى احتاجت قربانا.
والزعماء في تونس يُدفنون بجانب الأولياء الصالحين، ونحن نتبرّك بهم جميعا. ونتباهى بكرامات هؤلاء وأولئك فنذكر الأولياء من المتصوّفة عند الضيق، والزعماء في كلّ حين.
شكري بلعيد كان زعيما وهو وليٌّ صالحٌ أيضا. وبعد أن اُنتهكت حُرمة أربعين ضريحا لأولياء صالحين، يؤجّلُ أهلُ الظّلام غزوتهم ضدّ سيدي بلحسن الشاذلي ويُهدّدون بنبش قبر الشّهيد الوليّ الصالح الوطنيّ الديمقراطي.
***الثوّار مُؤمنون جدّا، ويُنفقون العُمر في نشر رسائلهم. يريدون العدل ويُحبّهم الفقراء. ويمشون في الأرض بلا تعب ولا كلل.
الثوّار يلتحفون بالكفن. يعشقون الحياة ولا يخشون الموت.
***نسيتُ أنْ أقُول للصّغيرَةِ نَامي باكرًا
وتعلّمي من اُمّكِ الزّغاريد
أُكتُبي اسمِي على دفترك
وافخريأقول لنيروز
ارفعي قبضتِك
وتقدّمِي
فأنا الشّهيدُ وأنتِ الوريثةُ
والأمل***
هكذا هي الأمم، تحتاجُ لحظات حاسمة لتتجدّد. تحتاج من يفديها مُقبلا ومُبتهجا.
***قالت حبيبي: إنّي أراك
وأنت تعشقُ تونُسَ
حدّ الرحيل
وأنت تُزفّ إليها
بالورود وبالهُتاف
وبالجُمُوع
وأنت تُشْرِقُ في سمَانَاإنّي أراك
وأنتَ توزّع قلبًا وكفًّا وصوْتًا
لكلّ الصّغار
***قال: حبيبتي
سنَمْشِي طويلا في شارع الثورات
وأنثُرُ ألوان ثوبِكِ
تُزْهِرُ السُّبُلهَاتِي يديْكِ
لنَا وَطَنٌ
وبنتيْنِ من أملٍ***الثوّارُ الحقيقيّون كائنات ميثيولوجيّة. تُحاربُ كالملائكة. تُصدّق النّاس كلّ قولها بعد الموت. وتكون لعنةً على القتلة.