خلال فترات طويلة من التّاريخ كان من السّهل على النّاس افتراض وجود الآلهة وقبولها، وفي وقت لاحق اله واحد والأديان التي تولّدت عن ذلك. ومع بداية تلك الافتراضات، كان هناك بعض المشكّكين في ذلك، وعلى الرّغم أنّهم كانوا أقليّة فإنّهم كانوا سببا في إثارة نقاشات حول هذه المسألة.
كانت هذه المناقشات ساخنة إلى حدّ ما في بعض الأحيان حينما قام مفكّرون من العالم القديم أمثال ديمقريطس ودياغوراس وأبيقور ووكرتيوس بإثارة الإزعاج نتيجة لشكوكهم.
وفي عصر النّهضة حينما قام مفكروها أمثال كوبر نيكوس وغاليلو ونيوتن بتحدّي وجهة نظر السّلطة الروحيّة للكنيسة بالحقائق الماديّة ثمّ كان مفكرو التنوير اسبينوزا وجون لوك وجيفرسون من بين آخرين استجابوا لأجيال من الحروب الدينيّة ولم يشكوا فقط في ميتافيزيقا هذا الافتراض ولكن شكوا أيضا في سياسته وبالطبع كانت شرارة دارون قد أشعلت فتيل المناقشات السّاخنة حول هذا الموضوع.
ومع السّمعة السيّئة التي اكتسبها ما يسمون بالملحدين الجدد أمثال ريتشارد داوكنز وسام هاريس وكريستوفر هيتشنز في وقت لاحق بسبب كتبهم الأكثر رواجا، والعروض البليغة لوجهات نظرهم، فنحن نعيش في فترة ساخنة جديدة من المناقشات بين الملحدين والمؤمنين. ومع استمرار المناقشات من الماضي وبين التي تجري حاليا والتي تتركّز حول رؤيتين فلسفيتين مختلفتين الأولى منها كونية وهي تتعلق بوجود اله من عدمه أي وجود قوة متعالية ليست خالقة للكون فحسب بل محافظة على سيطرتها ومتعلقة بشأن المخلوقات.
الفكرة الثانية أكثر دنيويّة وتتعلق بما إذا كانت الدّولة التي تحافظ على السّلطة الدنيويّة وتقلق بشأن مواطنيها هل من الواجب عليها فصل مواطنيها الذين يتبعون أديانا مختلفة بجدار؟ وإذا كان ذلك كذلك فكم علو هذا الجدار؟ وما هي مقدار القوّة التي يجب أن يكون عليها هذا الجدار؟
ومع أهميّة الفكرة الأولى فإنّ الفكرة الثانية هي التي كانت وراء الدّافع الحالي للنّقاش حول الدّين. فالسّلطة الدينيّة على الرّغم من مخاوفها الأبديّة لا تخشى التحدث عن ممارسة السّلطة الزمنيّة وهو ما يحدث في العديد من دول الشرق الأوسط كما أن بعض الفصائل المحافظة في الغرب ستكون سعيدة للقيام بذلك أيضا في بلدانهم بينما الفصائل الليبرالية وبالتأكيد غير المتديّنين منهم سيشعرون أنّ تلك السلطة الثيوقراطيّة سوف لن تفعل أيّ شيئ سوى الإضرار بالحريّة وحقوق الإنسان والسّعي وراء المعرفة دون قيود، فجميع الشواغل الرئيسيّة لدى ريشارد داوكنز وهاريس كعلماء كما هو الحال بالنّسبة إلى هيتشنز هي الحملة التي لا تكل ضد السّلطة الشموليّة بأي شكل من الأشكال.
وفي صلب هذه المناقشة حول النقطة الثانية يأتي كتاب راسل بلاكفورد “حرية الأديان والدولة العلمانية” ككتاب أكاديمي عن هذا الموضوع حيث يكتب بلاكفورد بنزاهة باحث قانوني وهو أمر ليس بمستغرب على شخص يحمل عدة شهادات علمية الدّكتورا في الأدب الإنكليزي إحداها.
ويستند بلاكفورد في نظرته حول هذه المسألة على أعمال جون لوك أب الليبرالية الكلاسيكية حيث يحدد بلاكفورد دور الدولة باعتبارها حامية للمصالح الدنيويّة أو كما يقول توماس جيفرسون “حياة كل مواطن وحريته وتحقيق سعادته هنا والان في هذا العالم الدنيوي” وهو دور يتناقض مع الأديان التي توفر مسارات مختلفة ومتنافسة للوصول إلى الخلاص الروحي في عالم ووجود آخر.
هذا الدّوران كما يقول جون لوك ويوافق عليه بلاكفورد يجب أن لا ينقطع فالادعاءات الدّينية كما يقول بلاكفورد "حول نظام متعال ربما تكون صحيحة أو خاطئة من الناحية النظرية والبعض منها قابل للاختبار حتى في الممارسة العمليّة وعلى أيّة حال فإنّ الجدال حول الدّين يتحدى الحل والأسباب، وهذا يعني أن إيمان أيّ شخص من خلال التّحليل والدّراسة والمنطق لا يمكن أن يكون أكثر أو أقل إيمانا من أي شخص آخر لذلك يجب على الدّولة قدر الإمكان أن تبقى بعيدة عن ذلك، أي لا تقوم بتشجيع أو تثبيط الدّين أو أيّ شكل معين منه فالدّين بطبيعته ليس ذا مصلحة دنيويّة بالتّالي يجب أن لا يكون له مصلحة مع الدّولة.
لكن الدّولة العلمانيّة مع جدارها العالي السّميك بانفصالها عن الدّين لا يجب أن تتسبب بتدمير حياة مواطنيها وسعادتهم فيما يتعلق بالإيمان كما فعلت روسيا ستالين والصين الحديثة كما هو واضح في هذين المثالين فبلاكفورد يؤمن بأنّ الدولة يجب أن لا تسلب السّلطة من الأديان وفي ذات الوقت لا يجب أن تكون لها سلطة لا مبرر لها على الأديان وممارساتها ما دامت تلك الأديان من خلال ممارساتها لا تسبب الضّرر على مواطنين آخرين في الدّولة.
لذلك يجب أن تقيّد الدّولة سلطتها اعتمادا على مبدأ الضّرر؛ الذي وصف لأول مرّة من قبل جون ستيوارت مل الذي وضحه بلاكفورد قائلا “إنّ من الضّروري أن تكون الحرّية الفرديّة مقيّدة عند ممارسة السّلطة السياسيّة والاجتماعيّة إلا في حالة الردّ على الأفعال التي تسبب نوعا من الضّرر للآخرين”. أي أنّ حريّة الفرد تنتهي حينما تبدأ حرية الآخرين وهذا ينطبق على جميع الأفراد بالطّبع وليس فقط على علاقة الدّين بالدّولة وهو أمر يتعلق بالتّركيز على حريّة ممارسة الشّعائر الدينيّة بكلّ أشكالها شرط أن لا تتسبّب بالضرر للآخرين.
فيما يتعلق بالولايات المتحدة تقول الباحثة مارثا نوسبوم في مقالها الموسوم “دفاعا عن تقاليد أمريكا في المساواة الدينية” والذي وجد فيه المؤلف بلاكفورد الكثير ممّا يدعم زعمه في أن الحكومات عبر التّاريخ البشري فرضت نوعا من المواجهة الدينيّة على مواطنيها وهو ما أدّى إلى تهميش المعتقدات المختلفة عنها لذلك فإنّه يجب على الدّولة العلمانيّة الحديثة أن تكون على النّقيض من ذلك بمعاملة جميع المعتقدات على قدم المساواة مع الحفاظ على انفصالها عنها وعن ممارساتها.