لن يكون بالإمكان، إمام إي محاولة لفهم تفاصيل هذا
الدفق النازف من خزان الوجع الوجودي الضارب بجذوره في ذاكرة الكاتبة
وكيانها، دون الربط بينها كامرأة / عربية / من اليمن السعيد "الشقي"/
وباعتبارها مهاجرة رحلت بشجونها نحو أفق الأرض وأغلقت بأهدابها على الوطن
دون أن تتصالح معه وحتى لحظة هذه الولادة الأليمة لراوية من نوع "الفجيعة"،
وبين العمل ذاته أو خصائص تركيبته الفكرية والغوية أو طموحات مشروعه
المناضل.
فمند العنوان {أي "صدى الأنين"} تضعنا إلهام مانع
{وهي أستاذة جامعية يمنية تدرس بجامعة جنيف}، أمام معنى الوجع في صيرورة
زمانية لا تريد أن تتوقف، راكزا صداها في أم رأسها وفي قلب روحها، معششا
على مداخل قلبها ولسانها وما قد يفكر به الرأس. رغم أننا لن نرى هذا البوح
النهائي الذي يتوعدنا به العنوان إلا مع الربع الأخير من الرواية
"المشاغبة"حيث تصرخ الكاتبة في غياهب عقلها متوعدة والديها / أو ذاكرة
الإرتباط والقيد والحب المغلوب على أمره، وإرادة التحرر المشتعلة كجمرة حية
ومستعرة:
"أردت أن أحيا هل تفهمان، أردت أن أحيا حياتي أنا ،
أنا، لا حياتكما أنتما.
أن أتذوق رحيقها، بعيدا عن همومكما، عن تاريخكما،
وجروحكما.
أليس هذا من حقي؟
أن أسمع صراخي أنا ، وأحنو إلى أنيني أنا، وألعق
جراحي أنا، وأنكفي على حزني وحدي، بعيدا عنكما.
أن أمحوكما من حياتي، من تاريخي، ومن كياني، وأن أبدأ
حياة جديدة كصفحة بيضاء، بلا نزيف يخنقني بدماء لا تنقطع.
بلا تاريخ.
أردت ذلك من كل قلبي، لولا الأنين والصدى لكان الأمر
ممكنا.
لعنة الله على الصدى."
حيث سنكون هنا أمام جدلية العلاقة بين الصدى/ والأنين
، وبين كل الرفض الذي أفترش كيان بطلة الرواية وحملته معها باتجاه المطلق.
بين وجع الذاكرة ووجع الانسلاخ عنها ، بين عصف الأنين وسطوة الصدى،
والرغبة الجامحة في طي المسافة بين كل الذي كان وسيكون......
لكنها اختارت الجمع بين كل ذلك ، ومازجت ذاكرة خلاسية
تزركشت في ثناياها أشكالا عجائيبية من كل ما يجوز له أن يكون وما لا يجوز
له على الإطلاق أن يتسرب للوجود ولو بظل فكرة................
البطلة تحولت بذاتها إلى جرح مفتوح على أفق الألم
والذاكرة المعذبة التي ستحولها إلى ساحة عرض سينمائي يقذف في وجه الأمة
بكل أشكال عهرها وفسقها وجبنها وخياناتها وجريمتها بحق تاريخها وبحق
عقيدتها وبحق الأنثى بصورة خاصة ....
البطلة التي ستكون أحيانا "هي"/ و أحيانا "الأم"/ أو
مجرد رمز للذاكرة النسوية : والتي ستسمح لنفسها حق امتطاء قراءة نسوية
نوعية لتاريخ العرب المعاصر، وعلاقته بصورة خاصة بالأنثى / العار/ المصيبة
/ الجنس الناقص /...........
وستسمح لنفسها أن تصفي حساباتها مع الفحولة العربية
المريضة، والثقافة الرجولية المنتصبة على رأس المرأة كسيف ضاري..وعلى رموز
سلطة الرب / الذكر أو العقل الديني السلطوي الذكوري الامتيازات.
لن نعرف في واقع الأمر بين تفاصيل الأنين القادم من
جوف ذاكرة "أنثوية " معذبة من يقول هذا الوجع أو ذاك ... من هي / هي ...
ولماذا هذه ليست متفقة تماما مع سرد تلك .....ولا أين
الأم/ هي الهي أو هي "الأنا" / الأنثى المقطعة الأوصال على فراش الفحولة
العربية القميئة التاريخ حتى القيء...
بعض من هذه الذاكرة المجروحة
الشيء الآخر الذي لن يكون بالإمكان القبض عليه هو
الهيكلية النهائية للعمل الروائي بذاته...فألهام مانع، اختارت في " صدى
الأنين" شكلا روائيا ضد الشكل، وأسترسلت في البوح بأشكال وجعها عبر لوحات
سريالية متقاطعة ومتشابكة، تؤسس بالأحرى لمشاهد ميتافيزيقية تتحدى العقل
قبل القلب، وكأنها اختارت أن تفقأ صديد الجرح دون اللف والدوران حول قساوة
هذا المنظر أو ما قد يسببه من مشاعر اشمئزاز ....... فهل يجب أن تقول أنه
أغتصبها أم ركبها كالحمار؟؟؟
هي تقول لنا { أنأ لست سوى عدسة تصوير.....فارغة
تلتقط الصور الواحدة تلو الأخرى
كما هي ....
دون تمييز .....من دون تدقيق
ثم تبصقها في كلمات على الورق.}
رغم أنها ستعترف في مكان آخر بفداحة هذا الخيار:
" فتحت على نفسي أبواب جهنم.
انهد كياني وأنا أكتب هذه السطور.
كأنني أحدثت خرما في سد فانهارت جوانبه على رأسي
وتدفقت مياهه في شلال جارف
جرف الماضي والحاضر، وجرفني معه"...
باتجاه ماذا؟؟
{ أرقص عارية في خطوات دائرية حول نفسي، وأغرس خيوط
النار في جسدي لأنبعث كتلة من جحيم الجنون.
وأقولها وأنا أغرس الذكرى في جمجمتي وأشقها في خطوط
عمودية، وأفتحها وأتفرج} تستعير البطلة هنا شيء من ذاكرة والدتاه لتصهل من
جديد باتجاه ذاكرة الاغتصاب الأولى بأمر من والدتها نفسها، عندما سلمتها
كذبيحة؛ قربا لمعبد الطهر "العربي"،
وطلبت من امرأة أخرى أن تنزع عنها جذور أنوثتها،
وأن تحتفل بعد ذلك بعرس "ختانها" مع نساء الحي :
" لم أدرك ما سيحدث- تخبرنا البطلة - إلا عندما
أدخلتني إلى غرفة النوم وتركتني مع الداية وبعض الجارات. لم تحتمل رؤية
نحري.
وصرخت بأعلى صوتي.
أياد تمسك بي من كل جانب وتسمرني على السرير ومقص
الداية يذبح قطعة اللحم البضة. وينبوع من الدم يتدفق ليعلن موت الطبيعة
بإسم الفضيلة.
لكني رفستها بقدمي، وركلت رأس الداية،
أي قوة مكنتني من الإفلات من قبضتهن؟
وهربت من الغرفة ومسار م دمي يتبعني في هرولتي مع كل
خطوة.
ورأيت أمي خارج الغرفة....وجهها تشكيلة من ألوان
متناقضة
لم أتوسل بالكلمات، عيناي عاتبتها بألم هستيري."
هنا تضع البطلة أو أحجار بنيان صمودها التاريخي ،
وترسل الطلقة التي تعلن بدء المعركة، هذه التي ستأخذنا ببطء عبر تتابعات
الرواية؛ صوب محركاتها المفجعة؛ ففي يوم زفافها ستطاردها ذكرى هذه الدماء
كما تشرح لنا البطلة في مساحة أخرى من الرواية :
"فرائحة الدم أبت أن تفارقني
وعندما لمسني {زوجها}، قاومته كذبيحة تخرج بقية
رمقها.
صفعني ... وسقطت على السرير... ولم أشعر....
وخرج بالمنديل الأحمر.
وكاد يقذفه في وجه أمي "
تلك التي كانت تطارده من أجل هذا الأثر وترسل تجاهه
ببعض التلميحات أن لم يفعل "بأن بعض الرجال رجولتهم من ورق""
والسؤال هنا من يصنع نموذج هذه الفحولة "الحديدية"
المرأة أم الرجل في هذه الذاكرة العربية السريالية؟؟؟
" يوم زواجها بكت حماتها بدموع التعاسة.
ولكي تثبت موقفها نامت في سرير الزوجية بين ابنها
وعروسه.
وظلت بينهما حتى تمكن من الفرار بزوجته إلى غرفة
بفندق.
وعندما حاول فض بكارتها، لم تنفض.
فظن بها الظنون،
وقدم إليها "علقة " ساخنة هدية عرسها.
وأرجعها إلى أبيها مغلفة بالشكوك ، فعبوتها كانت
مضروبة.
وعندما سألها الأب عن فعلتها، حلفت له بكل غال إنها
طاهرة.
فشحنها إلى طبيب ليفحصها.
وجاء قرار الطبيب حكما ببراءتها.
بضاعة سليمة خالية من العيوب.
فاعتذر له { إي للوالد}، ونسى أن يعتذر لها.
***
ثلاث قطرات من دم تختصر مصير امرأة.
وعبوة مغلقة بين فخديّ فتاة قدمت مفاتيحها للرجل.
الدم له والعبوة يفتحها قربانا لرجولته.".
هي
" عقل الرجل بين فخديه".
قالها أبي ألف مرة .
كأـنه أراد أن يحفر هذه الكلمات في كياني ".
لكنها كانت تتمنى لم تخبره بما يدور في أم رأسها:
وكيف أنها ترى نفسها أمام طابور من رجال عراة.
"رجولتهم منصوبة أمامي.
وبيدي سكين حاد
وأمر أمام كل منهم وأضرب بكل قواي لتتساقط أعضاء
رجولتهم تحت قدمي.....
وأنا أبتسم".
قالت {هي أخرى} أن أمها فقدت عقلها عندما وجدت أباها
مع صبي قي السابعة عشر من عمره.
وفي جنون والدة البطلة ستتكوم مراحل من اليأس الأنثوي
الذي لن يرحل إلا صوب إنكار الوجود.
"قال لي الطبيب ان مأساة أمك في عقلها. – تشرح البطلة
-
ولأنه حوصر بين جدران غيرها تمردت،
وكان تمردها جنونا"
خيبة الرجل وسقوط المعتقدات
هذا الرجل الذي يطارد ذاكرة البطلة كجلاد قميء
المحركات لا تجعله مسؤولا عن بؤس المرأة فقط ، بل اكثر من ذلك مسؤولا عن
بؤسه ويأسه وتشرده بين القيم المنحلة. وقد ترصدت له عبر أكثر من زاوية كان
فيها بذاته الضحية.
في سجون الطغاة مثلا تجعله يبوح لنا :
"في السجن عرفت القاسم المشترك الذي يجمع بين
السيجارة والكهرباء والقنينة.
وفي السجن اكتشفت أن جسدي يمكن أن يتحول إلى ركوب
للرجال.
وأنا رجل. أو كنت رجلا في سابق الزمان.
وفي السجن اقتنعت أن الأيمان كفر، والرأي جريمة، وأن
الصدق مصيبة.
وتعلمت أن الأسلم أن لا أكون.
اكتشفت حقائق الوجود وراء القضبان، وتقيأتها كتلا من
ديدان شيطانية، ظللت أجترها حتى تحولت إلى دودة .
دودة عمياء صغيرة"
فهذا هو وزن الرجل أو الإنسان في عالمنا العربي إذا
ما أراد جلاده هذا، أو إذا ما قرر السلطان ذلك.....
إذا ما حاول التنفس خارج الأفق الذي جعله له، يرده
إلى دودة .." دودة صغيرة عمياء".....يركبها زبانية الطاغية.
"أين وعينا" يتسأل الرجل الضحية، ويجيب بفحيح متقيح:
" غاب مع النكسة.
احترق مع اللامبالاة.
تهشم مع من باعوا الثورة.
ضاع..... تلاشى.....
ثم أنتحر أمام عيني
أصبح الحلم نجسا....
هتكته أياد قذرة.
ورأيته أما عيني كل يوم وهو يختنق ثم يموت.
آه يا وطن."
****
كأن قدر العربي أن ينحر نفسه.
أن يقتل نفسه بنفسه.
أن يوفر على الغريب مشقة اغتياله.
أن يكتب بنفسه استمارة موته ويوقع عقد دفنه وهو يضحك
كالمعتوه.
البحث عن الله
تقول لنا البطلة في كلامات صريحة ومعاندة حول هذا
الموضوع :
" لم أؤمن بالله منذ يوم وجودي.
كما لم أبحث عنه وراء كل ديك.
فغيابه عن قصة أمي برهن لي أنه إذا وجد فهو هناك ،
بعيد في الركن القصي
قد يحبنا لكنه لا يكترث كثيرا أو قليلا لوجودنا
وهي رددت أن في كل ما يحدث حكمة ....لكني لم أر للمرض
حكمة.
ولذا أمنت بوجودي،
فقالوا عني غريبة."
والبطلة هنا ستستمر غريبة، وستتأكد غربتها وأغترابها
عبر أكثر من خيار ، لكنها في هذا المبحث ستفضل هذا التوحد بالقياس إلى
مصداقية خيارها في هذا الاتجاه:
"قولي إين هو؟؟- تناطح الجميع بسؤالها-
أريد أن أراه.
فقد كفرت بكل المتعارف عليه.
ألسنتهم تدور كالطواحين... ولعابهم يتراشق على وجهي
..
ويجترون الحق و الباطل.
إي حق وإي باطل ؟
وبأي حق يحددون لنا الأفق ؟
أجدادنا والسلف الصالح؟؟
ماتوا وشبعوا موتا.
.......أنا أريد أن أحيا.
أريني الله.
أريد أن أراه.
فما أسمعه لا يكفي.
وعيناي تعبتا من التحديق إلى أفق معجون بخيال
المخرفين."
..
رحيل
كان لا بد من الرحيل...ليس فقط لأن الوطن هزمها كما
تقول، بل لأنها تعبت من الصدى ومن الأنين...
" ولأن الحلم ، كما الوطن ، ظل حيا في وجدانك،
أصبحت الذكرى صوتا لا يرحم".
هل نسيت يوم انهمرت الدموع من عينيك ....وأنت تسمع
إلى أغنية يمنية حزينة.
بكيت وهو يرثي المغترب الذي رحل إلى بلاد
الحبشة........؟؟ "
تتحدث البطلة لأحدي شخصيات الرواية ،في محاولة لعكس
شيئا من ذاتها الممزقة.
لكنها تعود لتؤكد لنا:
" وطني "أنا" حتى لو أنهار الوجود من حولي.
وطني حيث أكون،
وطني حيث أتنفس،
وطني الإنسان......
....."
وهي تهددنا مباغتة ومودعة، ولكن بدون كثير أكتراث أو
مبالاة:
"كنت وسأكون لكم رجع الصدى.
لكني في كل هذا أنا."
الخميس يونيو 10, 2010 4:18 pm من طرف سبينوزا