شمس الدين الكيلاني
باحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في وحدة الدراسات السورية المعاصرة. له العديد من الدراسات الثقافية والسياسية، منها "صورة أوربا عند العرب في العصر الوسيط"، و"صورة الشعوب السوداء في الثقافة العربية"، و"صورة شعوب الشرق الأقصى في الثقافة العربية"، و"تحولات في مواقف النخب السورية من لبنان1920 -2011"، و"الشيخ محمد عبده"، و"الإسلام وأوروبا المسيحية القرن 11-16 العود الأبدي"، والعديد من الدراسات الأخرى.
منذ بداية الأزمة السوريّة لجأ النظام السوري إلى استخدام القوة لمواجهتها، لذلك كان من الطبيعي أن يسعى لإفشال أي مبادرة للتسوية بغض النظر عمن يقف وراءها؛ لأن القبول بها يفنّد روايته عن فكرة المؤامرة التي لا يجوز التعامل معها إلَّا بالقوة، كما أنّ التسوية تتطلب تنازلات، وهو ما لا يستطيع النظام البحث به. وطوال العامين الماضيين كان سلوك النظام في التعاطي مع مختلف المبادرات السياسية متسقًا مع طريقة تفكيره هذه ما أدى إلى فشلها جميعًا.
لم تبدأ جامعة الدول العربية محاولاتها في البحث عن تسوية للأزمة السوريّة إلَّا بصورة متأخرة نوعًا ما، وطرحت المبادرة العربية الأولى في أيلول/ سبتمبر 2011، وكان أهم بنودها يتعلق بوقف العنف، وسحب كل المظاهر المسلحة من المدن، وإتاحة الفرصة لمنظمات الجامعة ووسائل الإعلام العربية والدولية للاطلاع على ما يدور على الأرض، وإتاحة الفرصة لتسوية تؤدي إلى حل الأزمة، غير أنّ النظام استمر على نهجه في استخدام القوة، ما أفشل المبادرة. ثم قدّمت الجامعة خطة ثانية في 16 تشرين الأول/ أكتوبر 2011، تتضمن "تشكيل لجنة وزارية ... مهمتها إجراء اتصال بالقيادة السوريّة لوقف كافة أعمال العنف والاقتتال، ورفع كل المظاهر المسلحة، والعمل على إجراء الاتصالات اللازمة للبدء في عقد مؤتمر حوار وطني شامل بمقر الجامعة العربية وتحت رعايتها خلال 15 يومًا". قبلت المعارضة وفي مقدمتها المجلس الوطني السوري قرارات الجامعة، بينما تحفّظ النظام على تلك الخطة، وشرع في الوقت نفسه بتشكيل لجنة لصوغ الدستور بهدف قطع الطريق على مطالب الإصلاح والتغيير، ودعا إلى إجراء حوار في الداخل تحت سقفه
[1].
تهجّم الإعلام السوري الرسمي على قرار جامعة الدول العربية، لكنّ النظام عاد ووافق على استقبال اللجنة الوزارية العربية للحيلولة دون تجميد عضوية سورية في الجامعة. واستخدم النظام زيارة اللجنة إلى دمشق لكسب الوقت، وحاول أن يروّج لديها روايته عن الأزمة. كما شكّل وجود اللجنة في دمشق فرصة للنظام لتجديد التهديدات بـ "إشعال المنطقة"
[2].
استمر النظام في نهجه الأمني، ولم يؤد قرار جامعة الدول العربية بتشكيل فريق من المراقبين بقيادة الجنرال السوداني محمد الدابي لمراقبة وقف العنف والوضع الإنساني في سورية إلى نتيجة. ودخلت طلائع بعثة المراقبين البلاد في 22 كانون الأول/ ديسمبر 2011 بعد توقيع النظام على المبادرة العربية، وفي 28 كانون الثاني/ يناير 2012 قامت الجامعة بتعليق أعمال البعثة بسبب عدم التزام النظام ببنود الخطة العربيّة وتدهور الأوضاع الإنسانيّة. فأغلق النظام بذلك الطريق أمام "التسوية التفاوضية". وعلّق على ذلك معارض سوري مد يده للحوار منذ بداية الثورة: "هذه الرسالة [رسالة الجامعة] الواضحة النص والمعنى، حاول النظام الالتفاف عليها عبر تعطيل المبادرة العربية بأحابيل وحيل مكشوفة قدر ما هي سخيفة"
[3].
النظام يطيح خطط الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية
توقفت التسوية أيضًا عند أبواب مجلس الأمن بفضل الفيتو المزدوج من قبل روسيا والصين، والذي وضع الشعب السوري أمام خيار الاستسلام للسلطة وحلولها، أو مواجهة القتل والدمار والتهجير. ثم اتجهت جامعة الدول العربية والأمم المتحدة إلى تكليف كوفي أنان مبعوثًا لسورية؛ بحثًا عن تسوية تنطلق من قرارات الجامعة التي نصّت على تشكيل حكومة كاملة الصلاحيات، ما يعني ضمنيًا عزل بشار الأسد. فعقدت الدول الدائمة العضوية في الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية مؤتمرًا في جنيف في 30 حزيران/ يونيو 2012، أقروا فيه بنود وثيقة جنيف، وفكرة حكومة كاملة الصلاحيات، وتركوا الأمر ملتبسًا بشأن موقع الرئيس ومستقبله. وأعلنت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون في مؤتمر صحفي أنّ اجتماع جنيف "يمهد الطريق لمرحلة ما بعد الأسد"
[4]. وقدم كوفي أنان خطة شاملة من ست نقاط هي: الالتزام بالعمل من أجل عملية سياسية شاملة يقودها السوريون، ووقف القتال وسحب القوات، وإقرار هدنة لإدخال المساعدات الإنسانية، والإفراج عن جميع من تم اعتقالهم تعسفيًا، والسماح بحرية الصحافيين، والحق في التظاهر. قبلت المعارضة الخطة وقبلها النظام لفظيًا، لكنّه لم ينفّذ أيًا من متطلباتها والتي تتعلق من الناحية العملية بوقف القتل، والتوقف عن استخدام الأسلحة الثقيلة بضرب المدن، والسماح للصحافة بالدخول إلى سورية. فوصلت خطة أنان إلى طريق مسدود؛ إذ أعلن أنان في 2 آب/ أغسطس 2012 عن فشله في تحقيق التسوية/ السلام، واشتكى "أنّه لم يحصل على الدعم المطلوب من المجتمع الدولي"، كما أعرب عن اعتقاده "بأنّ الرئيس السوري بشار الأسد سيضطر للرحيل عاجلًا أم آجلًا"
[5]. ثم كتب في جريدة
فينينشال تايمز: "من الواضح أنّ الرئيس بشار الأسد يجب أن يترك منصبه، ويتمحور التركيز على اتخاذ تدابير وبناء هياكل لتأمين حل سلمي طويل الأجل يمر بمرحلة انتقالية لتجنب حدوث انهيار فوضوي"
[6].
وبعد ذلك، جرى تكليف الأخضر الإبراهيمي في منتصف آب/ أغسطس 2012 لاستكمال مهمة أنان للتوصل إلى تسوية سياسية. تكررت تجربة أنان الفاشلة في تعامله مع النظام مع الأخضر الإبراهيمي أيضًا، فأعلن نيته الاستقالة، لولا أن عاجله اتفاق لافروف - كيري، فقرر التريث.
مؤتمر جنيف 2: رهانات محفوفة بالمخاطر
دفعت عوامل عديدة للتوصل إلى اتفاق إطار روسي - أميركي يسمح بالتوجه نحو تسوية المسألة السوريّة، أهمها العدوان الإسرائيلي على دمشق والخوف من توسع رقعة النزاع، وتنامي دور الكتائب الإسلامية المقاتلة في سورية، ومبايعة جبهة النصرة في سورية لأيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة، والخشية من امتداد الأزمة إلى دول الجوار. من الواضح أنّ وزيري الخارجية الأميركي جون كيري والروسي سيرجي لافروف توصلا إلى اتفاق إطار أولي حول سورية، اختارا فيه الحل السياسي عبر التفاوض والحوار، وأجمعا على محاربة القوى المتطرفة في المعارضة المسلحة، والعمل على ترتيب مفاوضات بين النظام والمعارضة تؤسس لحكومة انتقالية عبر مؤتمر جديد يعقد في جنيف. لكنّ هذا المؤتمر المقترح يُعقد من دون مبادئ موجهة ومرجعيات سوى فكرة حكومة مؤقتة غير معروفة صلاحياتها، إلى جانب إصرار الروس الدائم على أن تبقى مسؤولية الأمن في سورية، ممثلة بوزارتي الداخلية والدفاع، في يد الأسد في المرحلة الانتقالية! بينما تحدّث كيري بلغة يكتنفها الغموض عن مستقبل الأسد، فقال للصحفيين: وحدهما المعارضة والنظام يمكنهما تحديد شكل الحكومة الانتقالية لإجراء انتخابات ديمقراطية
[7].
أعربت أوروبا عن تأييدها الفوري لهذا الاتفاق، ومعها الصين والدول الإقليمية المساندة للنظام، وكذلك جامعة الدول العربية. وفي المقابل، لم تُظهر الدول العربية المؤيدة للثورة السوريّة حماسًا واضحًا للاتفاق.
وضع هذا الاتفاق الشعب السوري أمام مفصل جديد صعب، عنوانه الحل الدولي المفروض من فوق، حيث يجري الدفع بالائتلاف الوطني للانخراط في تسوية منقوصة، فيما ستعمل الإدارة الأميركية عبر الضغط على الدول العربية وتركيا للتوقف عن تقديم أي مساعدة عسكرية على ضآلتها، في وقت يبدو فيه النظام قد شرع بمساندة حزب الله وقوى طائفية عراقية (عصائب أهل الحق)، والحرس الثوري الإيراني في أول فصول التطهير الطائفي، خاصة في حمص حول القصير، وفي البيضا، وحي راس النبع في بانياس على الساحل.
أتى هذا الاتفاق في ظروف سجّل فيها النظام عدة نقاط لصالحه على المستوى السياسي؛ فإعلان جبهة النصرة الولاء للقاعدة ومبايعتها للظواهري زاد من قلق الغرب من تنامي دور القوى التكفيرية والإرهابية في صفوف المقاومة المسلحة السوريّة، وقد استثمر النظام وأصدقاؤه ذلك إلى الحد الأقصى. كما سمح العدوان الإسرائيلي على دمشق للنظام بتغطية مذبحة بانياس والبيضا وحملة التطهير الطائفي التي تقوم بها ميليشياته. هذان الحدثان منحا النظام فرصة لتكرار ادعائه بأنّه مُستهدف من إسرائيل، وأنّه ضحية مؤامرة روج لها طويلًا، كما سهل على زعيم حزب الله حسن نصر الله الإعلان عن وقوفه إلى "جانب المقاومة الشعبية" في سورية ضد الاستهداف الإسرائيلي، ليغطي على حرب حزبه في القصير، وعلى نهجة الطائفي في سورية. كما منحته أخطاء المعارضة ممثلة بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السوريّة جرعة من الرضا، عندما أظهر رئيس الائتلاف [المستقيل] أحمد معاذ الخطيب ترددًا قياديًا انعكس على أداء هذا الائتلاف في إدارة الشأن السوري، وحرمه من استثمار الإنجازات السياسية والدبلوماسية التي حصل عليها من اعتراف جامعة الدول العربية به كممثل رسمي للشعب السوري بديلًا من النظام، واستلامه سفارة سورية في الدوحة. ولولا الدعم والمساندة التي أتته من قرار الأمم المتحدة الأخير باعتباره المحاور الرئيس عن الشعب السوري لكانت الأضرار أكبر.
لا يتوقع حدوث تطورات سياسية كبيرة حتى انعقاد مؤتمر جنيف تُغيِّر من صورة المشهد السوري، لكن الأكيد أنّ الائتلاف الوطني والجيش السوري الحر سيتعرضان للضغط كي ينخرطا في التسوية المقترحة، وسوف تستثمر الإدارة الأميركية تناقضات المعارضة وتنوعها لدفعها إلى تنازلات مؤلمة، هذا إذا استمر توافقها مع الروس بشأن عقد المؤتمر. لكن يبدو أنّ قوى الثورة السوريّة ومعها الائتلاف الوطني والجيش الحر حددت سقف الممكن والمستحيل، في سياق التفكير بالتسوية؛ فأي حل سياسي سيتمخض عنه إبعاد الرئيس سيكون - ضمن الظروف المعقدة التي تعيشها سورية - نجاحًا للشعب السوري ولثورته وهزيمة ساحقة للنظام، وبالمقابل، فإنّ أي حل سياسي في سورية لا يتضمن استبعاد الرئيس فهو هزيمة للشعب السوري ونصر باهر للنظام ولركائزه وأسسه وأساليبه في الحكم والقهر.
إن المعارضة لا يمكنها أن تتسامح مع أقل من إزاحة الرئيس وتنظيم انتخابات حرة تحت رقابة دولية، ومحاسبة الضالعين في القتل. وقد دعم هذا التوجه، تأكيد السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة والأردن ومصر، في اجتماعها في أبو ظبي في 14 أيار/ مايو الماضي، بأنّه لا مكان للأسد في مستقبل سورية
[8].