ربما لم أفلح في توضيح ما كنت أحسبه واضحاً بذاته. وقد نبّهتني بعض
التعليقات الناقدة إلى هفوات لا تزال تعتور بعض مناحي ما ظننته واضحاً.
ولعلي أحمل ديناً يثقل كاهلي ولا أقدر على ردّه طالما أني لم أفلح دائما في
التجاوب قرباً ومحبّة مع كلّ من ناقشوني أو ناقضوني في مقالات مستقلة أو
تعليقات مكملة. والحال أنّي في غمرة مديح لا يشفع وتجريح لا ينفع، كنت أشيح
بوجهي قليلا عن حوار العقلاء عساني آخذ لنفسي نفساً جديداً وأجتهد بعيداً
عن عقلية المناظرة التي ما أحببتها يوماً.
لا أدري إن كان بوسعي أن أدّعي الآن القدرة على رفع كلّ التباس وأقول :
هذه قناعتي وهذا أنا مرّة أخرى. وقد كدت أقول في مرّة سابقة : هذا أنا
للمرّة الأخيرة. لولا أن عادت المياه إلى مجراها. والآن بعد أن جرفت المياه
الجارية مياها أخرى، فهل يحقّ لي أن أزعم بأنّي رجعت إلى نفس النهر، إلى
نفس الرأي، إلى نفس الفرضية، أم أننا لا نسبح في النهر الواحد مرّتين، كما
كان يردّد الحكيم اليوناني هيراقليطس؟
سأبسط اعترافاً قد لا يجمعنا لكنه لن يفرّقنا بالتأكيد : ليس هناك منّا
من يمكنه أن يكتب في نفس "الأوان" مرّتين. إلاّ أن يكون الماء راكداً. وإنّ
ماءً نرتوي به لن يكون آسناً إلاّ في ما ندر. لا يُخطئ من لا يتحرّك، لكن
من الخطيئة أن لا نتحرك لكي لا نخطئ.
كثيرون منّا لم يعودوا إلى "الأوان" ولا هم سيعودون، لكنهم يبدؤون فيها
كل مرّة من جديد ليس تزلّفا لمهبّ الرياح، وإنما لأننا لا نكون أبداً إلا
حيثما يمكننا أن نصير. وحين يتعلق الأمر بالصيرورة، فعلينا أن نتسامى فوق
نرجسية اللحظة. إننا بكل قناعاتنا وأقوالنا مجرّد عابرين في كلام عابر،
بحسب لغة محمود درويش.
هل التهمتني العدمية أخيرا؟
مسعاي أن أثبت عكس ذلك.
وإذن دعوني أقل : ها أنا ذا من جديد. وحسبي الآن أن أقلّص حجم التفاؤل
لأرفع حجم التفاهم، أو هكذا أظن أحياناً وربما دائماً. فهل أخطأت هذه
المرّة؟
أراني بعد طول سجال اهتديت إلى خلاصة واضحة وصريحة :
يتوفر الإسلام على شريعة تبدو وكأنها من بين أكثر شرائع الأرض عنفاً
وتأخّراً، بل وحتى أنها تبدو بدائية في بعض جوانبها. فمسائل الرّجم وقطع
اليد والجلد والقصاص والطاعة والعورة والضرب غير المبرح… ليست ممّا يثير
إعجاب أحد، إلاّ أن يكون الأمر محض مواربة أو رياء.
لكنّ للعملة وجها آخر مختلفا تماما. ودعنا نقلها بنفس الصدق والوضوح :
في المقابل يتوفّر الإسلام على عقيدة متقدّمة. بل إنّ الإسلام في مستواه
الأنطولوجي ليبدو من أكثر الأديان تقدّما. فمسائل تعالي الذات الإلهية إلى
درجة رفض كلّ تجسيم أو تصوير أو ترميز عبر الإيقونات أو غيرها تجعل الإسلام
من أكثر الأديان انفتاحاً على الحرية الوجودية للإنسان.
هكذا هو الإسلام كما كان وكما صار يبدو الآن. ما العمل؟ هل نرمي الطفل مع
الغسيل؟ نظرياً سيبدو هذا الاقتراح مريحاً بيد أنّ كلفته العملية بالغة.
والحال أن العقلانية تعني أن نذهب إلى النتائج بأقل كلفة ممكنة.
تلك المفارقة التي تشقّ الوعي الإسلامي هي بالذات ما يلاحظه هيجل حين وصف
الإسلام بأنه دين التجريد من جهة، ودين التعصّب من جهة ثانية. ولنقل بأنه
دين عقيدة مجرّدة بما يمنح الحرية الأنطولوجية للإسلام، ودين شريعة متعصبة
بما يحرم الإنسان من الحرية الاجتماعية. لكن هل تراها تستقيم الحرية
الأنطولوجية في غياب الحرية الاجتماعية؟
ستكون استراتيجية التأويل كما أنافح عنها محاولة لتجاوز هذه المفارقة
التي تجعل الإسلام يبدو وكأنه "في وضعية ميتافيزيقية غنية بالتناقضات" وفق
توصيف بليغ لكرستيان جامبي(1).
في هذا التجاوز نبتغي المراهنة على الأفق الأنطولوجي الذي يفتحه الإسلام.
لكن لماذا مثل هدا الرهان من أساسه؟ ألا تكفي الحداثة الغربية كما يرى
ويروي الكثيرون؟
من يرى الإسلام دون أن يدرك تخلف شريعته فإنه كمن لا يرى. ومن يرى
الحداثة الغربية دون أن يدرك أزمتها الأنطولوجية فهو الآخر كمن لا يرى،
لأننا لا نستطيع أن ننظر من غير أن نرى تخلفاً في الشريعة هنا وأزمة في
الأنطولوجيا هناك.
لقد قام النسق الحداثي الغربي على ما كان يسميه كانط بمسلمات العقل
العملي، وعلى رأسها مسلمة خلود النفس.
كانت تلك المسلمة بمثابة الأساس الهشّ الذي قامت عليه عمارة شاهقة من
أخلاق الواجب والسلوك المدني ومحبة الخير والمصلحة العامة. وعندما تبدّدت
فكرة الخلاص وخلود النفس أصيب النسق الأخلاقي الحداثي بأزمة وأوشك على
الانهيار، إن لم يلتمس أساساً أنطولوجيا جديداً. رأى نيتشه أن يترك
الانهيار يعمل عمله بل وأن يعجل به ابتغاء بداية عهد جديد. وكانت غاية
سارتر إنقاذ أخلاق الحداثة على أساس مبدأ الوجود العرضي عوض مبدأ الخلود،
وكان قصده بالذات الردّ على تصريح سابق لشخصية إيفان في رواية دوستيوفسكي،
الإخوان كارامازوف، حين أطلق صيحته المدوية : "لا توجد فضيلة من دون حياة
أبدية". لم يكن مبتغى سارتر سهلا حين أراد أن يبرهن على إمكانية وجود
الفضيلة ليس فقط داخل وجود عرضي، وإنما بفضل عرضية الوجود. لكن ما يجعل
المبتغى السارتري في غاية الصعوبة يتعلق بطبيعة الأفق الأنطولوجي للمسيحية
الغربية والتي تجعل الخلاص والخلود ضمن التطلعات المركزية.
سارتر لم يكن ناجحاً في ميتته، إذا صدقنا كثيراً من الروايات. وربما هذا
ما جعل ديريدا ينتبه إلى أن أهم ما يجب أن تعلمنا الفلسفة هو كيف نموت وكيف
"نتعوّد على تقبل الوفاة المطلقة (الوفاة بلا خلاص ولا انبعاث ولا
قيامة)…"(2).
لكن ألا يستدعي هذا الدرس الدريدي محاولة استشراف أفق أنطولوجي جديد؟
وهنا أزعم أن للأنطولوجيا الإسلامية دورًا ما.
هذا القول ثقيل. أعلم ذلك، أحتاج إلى ألف دليل ودليل. لا، بل أحتاج فقط
إلى الاستدلال وحسن الإصغاء. ولنعتبر ما أفعله الآن مجرّد تمرين أوّلي. هذا
يعني أن الطريق ما يزال طويلا أمامنا، ومن قال غير ذلك؟
إذا صدقنا جاك أطالي فإن هوس المرأة بالخلود يبدو ضعيفاً(3). وإذا صدّقنا
مالك شبل فإنّ هوس المسلمين بالخلود يبدو ضعيفاً4. وإذا صدّقناهما معا
فسيكون للمسلم وللمرأة امتياز أنطولوجي، إنه امتياز المصالحة مع ما اصطلح
عليه سارتر بالوجود العرضي.
لكن ما مغزى هذا الامتياز؟
تكمن نقطة قوة الحداثة في أنها جعلت هوس الخلود هدفا علميا، ما أدّى إلى
نتائج إيجابية في مستوى الرعاية الصحية وارتفاع معدل الحياة وانخفاض نسبة
وفيات الأطفال، ونحو ذلك.
إلا أنّ لهذا النصر العلميّ المحقّق كلفة أنطولوجية، فاليوم وفي هذه
الساعة تكون آلاف الجثث راقدة في مستودعات خاصة لحفظ الجثث، داخل الولايات
المتحدة الأمريكية وفي أوروبا الغربية، على أمل أنّ التقدم العلمي قد يعيد
إليها الحياة في ميقات يوم غير معلوم.
فماذا تعني مثل هذه المشاهد؟
يحتاج الوعي الحداثي إلى المصالحة مع مبدأ الوجود العرضي، يحتاج إذن إلى
أفق أنطولوجي جديد.
هنا بالذات سيكون بعض ما أدعو إليه واضحاً :
يجب أن تأخذ أخلاق الحداثة موقع الشريعة عندنا، وفي المقابل يجب أن تأخذ
الانطولوجيا الإسلامية موقعها ضمن الثيولوجيا الغربية، وأن تساهم على وجه
التحديد في بناء ما يرجح الكثيرون أنه نوع من "ثيولوجيا ما بعد الحداثة".
وأحتمل بأن مثل هذا الانفتاح المتبادل قد يحمل مخرجاً من الحالة العدمية
التي أكدها الكثير من الفلاسفة بدءاً من نيتشه وهايدجر وليوشتراوس وغيرهم.
فما الذي يمكن للإسلام "المتأخّر" أن يقدّمه للحداثة الغربية؟
يدنو الوعي الإسلامي من المصالحة مع مبدأ الفناء والوجود العرضي، لهذا
الدنوّ نقط ضعف تتعلق بأن حرمة الحياة عندنا واهنة. لكن لهذا "الوهن"
مكتسبات حقوقية من بينها أن الإسلام لم يحرم حقوقا تستند إلى الوجود العرضي
والمؤقت : الحقّ في الطلاق، الحقّ في الإجهاض، الزواج المؤقت…
هناك أمر مثير لا يحدث في غير مدننا وحواضرنا، كما يلاحظ بإعجاب واستغراب
مالك شبل، في القاهرة أو الجزائر أو غيرهما من مدن العالم الإسلامي قد
تتحول مقبرة وبسرعة إلى محطة طرقية للحافلات أو عمارة سكنية. هل هو مجرّد
إهمال لحرمة الأموات؟ أم هو التعامل الواقعي والعقلاني مع حقيقة الموت أو
مع الموت كحقّ وفق لغة القرآن؟
نعم علينا أن نعترف بأنّ لهذا الحقّ وضعا ملتبسا طالما أنه قد يسوق البعض
نحو الانتحار المجاني، وهو ما نراه يحدث بالفعل بما أن "الموت علينا حقّ".
لكننا في المستوى الأنطولوجي نستطيع أن نستعيد هذا الحقّ من أجل مصالحة
كبرى بين الوعي وبين الوجود العرضي.
نعم الوجود مجرّد صيرورة من الفناء ومن لحظات تجرفها لحظات.
وربما بعد فنائنا يكون لنا انبعاث في الخيال، هذا إذا صدق وصف صدر
المتألهين الشيرازي لرؤيته، وهي في كل الأحوال رؤية جميلة وقد تكفينا
وتعفينا من البحث عن وجود خالد على أنقاض هذا الوجود العرضي.
ومن أدرانا أن يكون الوجود مجرّد خيال يعقبه خيال مجرّد؟
الثلاثاء يونيو 08, 2010 6:25 pm من طرف هند