نقرت الدودة بيضتها الصغيرة السوداء
المتوضّعة على قفا الورقة الخضراء التي تفتّحت من برعمها منذ أيام ثم خطتْ
خارجها بأرجلها العشر، خمسا في كلّ صفّ، وبحركة متناغمة تقدّمت مسافة
تساوي ضعفي طولها، حتى وصلت لحافّة الورقة وأخذت تقضمها، كوجبة طعام حلمت
بها منذ وضعتها أمها هناك، أكلت بنهم شديد، فأتت على معظمها، ثم حركت
أرجلها العشر وانتقلت لورقة أخرى في نفس البرعم، وهي تفرز مخلّفات ما تأكله
وراءها.
العنكبوت الذي حملته الريح قد انتهى من نسج شبكته، انتظر بهدوء في إحدى
زواياها طريدة تحملها الريح من ذوات الأجنحة، وليسلّي نفسه راقب تلك الدودة
النهمة، وزادته شراهتها عجبا فغزل خيطا وانحدر باتّجاهها.
"أنت أيتها الدودة " ناداها العنكبوت، تطلّعت ذات القوائم العشر لفوق
ولم تعره اهتماما. من جديد نادها، فردّت وهي تمضغ قطعة من الورق الأخضر"
اعذرني ِأيّها العنكبوت، فليس لديّ وقت لأحادثك، فأنا في عجلة من أمري، يجب
أن آكل سريعا لأتحوّل فراشة.
اهتزّت شبكة العنكبوت لكثرة ما ضحك، وتكلّم من بين قهقهاته: فراشة، لو
كنت فراشة لكنت على لائحة طعامي، ومن على لائحة طعامي لا أقيم معه حديثا
معه بل ألسعه بإبرتي هذه وأتناوله.
ردّت الدودة بغمغمة، ففمها مملوء بالأخضر: لو كنت على قائمة طعامك لهربت
هذا ما كانت ستخبرني به غريزتي وما أخبرتك به غريزتك أيضا.
العنكبوت توقّف عن الضحك وانسحب لفوق سريعا. لم تعره الدودة اهتماما حتى
أنها تطلعت لفوق ورأت شيئا يتخبّط ذا ألوان حمراء وصفراء، تمتمت: ليس من
لون غير الأخضر.
مضى وقت كاف لتكون الدودة قد أنهت البرعم، فانتقلت لفوق حتى وازت شبكة
العنكبوت، رمقت العنكبوت الذي انتهى من نسج شكل اسطوانيّ على أحد خيوط
شبكته، وتابعت قضم الورق الأخضر، لمحها العنكبوت وناداها: لو رأيت الفراشة
التي اصطدتها، لقد ملأتْ بطني بعصير متعدّد الألوان حتى أنّ حظّي اليوم كان
جيّدا فاصطدتُ أخرى وخبّأتها ليوم الحاجة، لربما إذا مازلتِ على إصرارك
بأن تكوني فراشة سألتهمك وتقدم نحوها، التفتت الدودة إليه وتابعت قضم الورق
الأخضر.
صرخ بها العنكبوت: أنت عديمة الإحساس. كلّ ما تعرفينه هو أن تأكلي
وتأكلي لا بدّ أنّ هذا الأخضر الذي تأكلينه قد سبب لك العمى والبلادة، فمن
سابع المستحيلات أن تتحوّلي لفراشة. خذي قليلا من الاستراحة، وانظري حولك
لتعرفي مقدار غبائك .
ردّت الفراشة بحنق: أنت الغبيّ.
فتابع العنكبوت غير عاتب: انظري لتلك الزهرة، هناك فراشة قولي لي بما
تشبهينها؟
رفعت الدودة رأسها وقالت: حتما لا أشبهها ولكني سأصير فراشة .
ردّ العنكبوت: أنا العنكبوت المعروف عنّي صبري وصيامي وتأمّلي لما حولي.
وقد نقلتني الريح من مكان لآخر وأعرف من هم على لائحة طعامي، ولم أر
يوما مخلوقا تافها كنوعك من الدود يتمنّى أن يكون على لائحة أعظم الصيادين
في العالم.
وكم أتمنى أن يكون الدود من أمثالك على لائحة طعامي لأذيقك من سمّي
وأتلذذ بمصّ عصرتك الخضراء التافهة.
تراجع العنكبوت لإحدى زوايا شبكته فيما تابعت الدودة قضم الورق الأخضر.
وتتابعت الأيام والعنكبوت يصطاد الفراش وتتساقط هياكلها الجوفاء قرب
الدودة التي تضخّمت إلى أن أتى يوم اختفت فلم ينتبه لاختفائها العنكبوت،
ولا هي تذكرته فآخر ما تذكرته قضمة خضراء.
على غصن أسفل شبكة العنكبوت كانت شرنقة بدأت تنشقّ لتخرج منها فراشة
زاهية الألوان، تسلّقت جانب الغصن وانتظرت تحت ضوء الشمس لتجفف أجنحتها،
وفي غريزتها حكمة كبير الفراش الذي يقول:
"الكون عالم من الألوان"
حركت أجنحتها. تطلعت في كل الجوانب. سحرتها ألوان الأزهار. وتمنّت أن
تطير عن هذه الشجرة ذات اللون الوحيد المثير للغثيان، ولكن لا بدّ من
الانتظار حتى تنشف الريح والشمس أجنحتها.
حان الوقت، ركبتْ نسمة هواء وارتفعتْ، اهتزّت شبكة العنكبوت، فخرج مسرعا
من إحدى زواياها.
الأربعاء يونيو 09, 2010 4:38 pm من طرف سميح القاسم