لم تكن مقبرة تماماً، أعني لا تشبه المقابر كثيراً، فليس من سورٍ حجريّ أو
من حديدٍ له نصالٌ ذهبية… وأُسودٍ من حديدٍ في السورِ، وسوى ذلك ما من
سورٍ هناك أصلاً ولا غير ذلك مما يشبه المقابر، مثلاً أشجارٌ قديمة قاتمة
وممرّات ٌمزروعة أو مرصوفة من حصى أو أحواض حجرية في مقدّمة القبور… ثُم في
الأعياد يضعون فيها عروق الآس، وزيزفوناً وأزهاراً…
مجرّد قبورٍ، حوالي ثلاثين منها، من طينٍ أبيضَ خفيضٍ مدوّر تناثرت بأعلى
وبجوانبِ رابيةٍ، مدوّرةٍ بدورها…
ما من زوايا أو حافاتٍ حادةٍ كتلك التي يكوّنها الرخام ُوالحجرُ، ما من
شاهداتٍ حجرٍ طويلة- أو قصيرة- كتبوا عليها بخطوطٍ فخيمة عباراتٍ عظيمة
المعنى، أو من بلاطةٍ رخامٍ ودرجاتٍ قليلة عند المقدّمة، تلك المقدّماتُ
التي تدلّ عادةً أين يقع الرأس، المقدّمات تلك التي تدلّ ، هكذا حَسِبتُ
مرّة، إلى أيّ جهةٍ ستمضي القبور، بمعنى أن تذهب جميعها إلى جهة واحدة،
كأنها سفنٌ مثلاً…
وفي الحقيقة قبل أن أرى هذه المقبرة لم أفكّر مرّة بهذا، أعني لم ألحظ
حقيقةً أنّ القبور تتوازى ومقدماتها تتجه جميعاً في جهة واحدة كأنها قوارب
صغيرة تمضي معاً إلى جهة ما، مجرد شبهٍ بين القبور وقواربَ صغيرةٍ تمضي في
موكب لم يخطر ببالي مرةً مقبرة بدون حارسٍ ولا سورٍ وبلا حفّارِ قبورٍ، لم
أتخيّل لها حفّارَ قبورٍ يستدعونه حين ثمة جنازة ٌما وموتُ أحدٍ ما، بلا
سورٍ وتستطيع أن تتنـزّه فيها متى شئتَ… ما من مدخلٍ لها فتقول من هنا
أدخلُ ومن هناك أنتهي، هي هكذا مفتوحةً تتمدّد في السُهب الرملي، مثلها مثل
السُهبِ تَرى من نهايتها - من كل نهاياتها - في الشتاء الثلوجَ التي تغطي
"حَرَمون" بالأبيضِ… السماوي شيئاً ما، ويغرقها المطر حين يُغرق السُهبَ
والريحُ تَسِفّ بها كما تسفّ بالسُهب.
لم تكن تلةً حتى، كما يمكن أن تفكّر في تلةٍ، أعني صخوراً في جهةٍ،
وأعشاباً أو انهداماتٍ في الجوانبِ، حسبُ ربوةٌ من أرض شاسعة بلا حدود،
بيضاءُ ومدوّرةٌ وفسيحة، ولا ترتفع عن الأرض إلا قليلاً.
نعم تشبه تلة ًولكن لا تربو عن الأرض إلا بمقدار ما عبْر َألفِ سنة، لا
أعرف، ربما بضعَ مئاتٍ من السنين، راكموا فيها أجساد من ماتوا، راكموها
وفوقها الترابُ، ببطء واحداً واحداً، راحوا يفعلون ذلك كل سنتينِ مثلاً أو
كل خمسٍ، فكّرتُ أنهم هكذا كوّنوا ببطء شديد رابيةً من الأرضِ، وأنّ ما من
غرضٍ لها أو وظيفةٍ، مجردُ رابيةٍ من الأرض… أجيال ٌوراء أجيالٍ كانت في
النهاية تمضي من هنا إلى عدمٍ ما، عدمٌ ما ينشىء مرتفعاً من الأرض، وأن
حيواتِ هؤلاء الذين ماتوا لم يبق منها ما يُلمس ويُرى سوى هذه الرابية من
أرض بيضاء.
ومراتٍ في الليل – مرّتين تحديداً - وأنا أمرّ بسيارتي مسرعاً بجانبها
ذاهباً إلى موضعٍ أزوره كل حينٍ (الطريق إلى هناك يمرّ من على مسافة مئة
مترٍ منها تقريباً ثم ينثني بعيداً عنها) رأيتُ، كما يرى عابرٌ في آخِر
الليلِ، أنّ ثمة أشخاصًا هناك، حوالي عشرة، يقفون حول نارٍ كبيرةٍ أشعلوها
وأنّ شرراً غزيراً يطيرُ، وألسنةَ لهبٍ تعلو تضيئهم وتضيء القبور، لم أعرف
لم َهم هناك، قلتُ شخوصٌ في الليلِ أشعلوا ناراً عند المقبرة…
مجرد مقبرة، لا تدلّ على شيء ما – فلسفياً مثلاً- ولا تفضي لشيء… ليست
كنايةً عن فكرةٍ "وجوديةٍ " مثلاً وليس لها أن تدفعك لتسجيلِ انطباعاتٍ ما…
"رومانسية"مثلاً، أو غير ذلك خطر ببالي ليلتها، ولا أعرف من داعٍ
لذلك، أنّ أرضنا مازالت تعبر في الفضاءِ، فضائنا هذا (وما من فضاءٍ لنا
غيره) معلقةً كما كانت أبداً في طرفٍ من المجرّةٍ… وأنها الآن ما تزالُ
تنعمُ بفاصلٍ دافئٍ بين عصرين جليديين، وأننا لا بدّ محظو
الأربعاء يونيو 09, 2010 4:34 pm من طرف سميح القاسم