0inShare
Share on Tumblr" لم يعد هناك مكان للفلسفة الميتافيزيقية ، فيجب أن تحل محلها فلسفة العلم ،
و على الفيلسوف الميتافيزيقي أن يختفي ليظهر فيلسوف جديد يكون خادما للعلم ،
و ذلك بالتأليف بين مبادئ و نتائج العلوم المختلفة " 1
سليم دولة لماذا تحتاج اليوم المجتمعات العربية ، و المغرب من ضمنها ، إلى تبني الفكر الفلسفي العلمي ، في برامجها التعليمية و التربوية ، أكثر من أي وقت مضى ؟
كإجابة بسيطة نقول ، إن فعل الفلسفة التنويري يتقوى ، و يعمل دورها النهضوي بفعالية ، و بوظيفته الطبيعية المتوقعة ، هذا الدور الذي بات من الضرورات الأساسية في حياتنا المعاصرة ، و ليس من قبيل فكر المؤتمرات و الصالونات السائد و المهيمن ، حين تبدو للعيان مؤشرات الأزمة الخانقة ، تلوح في البيئة المجتمعية التي تنتمي إليها تلك الفلسفة ، سواء تعلق الأمر بالبيئة المحلية القريبة ، من عامة الناس و الأسر و التلاميذ ، بالمفهوم الوسطي الجهوي و الوطني ، أو تعلق بالبيئة الثقافية القومية العربية و كذلك الدولية و الكونية البعيدة ، حتى و إن كان مفهوم البعد راهنا لا يقبل أن يطرح للنقاش . إن أزمة مجتمع .. لا تعني إذن بؤس الفلسفة ضرورة .. إلا إذا اختار أهلُها تبئيسها و تأزيمها عن غير وعي منهم ..
فلا شك في أن العالم اليوم ، على المستوى القيمي و الفكري الخالص ، يتجه صوب الباب المسدود ، على الأقل في نظرنا ، ارتباطا بعدة عوامل أهمها و أخطرها ، تلك التي تصب جميعها، في بؤرة ما هو اجتماعي شائع و متداول ، تدل عليه طبيعة الشارع في الكثير من أمم هذا العالم ، بما يعرفه من توتر اجتماعي ، و حركات دينامية احتجاجية مكثفة ، و صراعات سياسية عديدة ، و كلها أجواء مشحونة بالاحتقان ، لها علاقة مباشرة و جدلية قوية ، ببقاء هذه الشعوب آدمية ، و محافاظة ، قدر الإمكان ، على أدنى شروط وجودها الطبيعي و القانوني و الوطني . نتحدث عن حضور الأزمة بهذا الشكل المنفلت في هيكلة ما هو اجتماعي ، و تفاقم مظاهرها الصارخة بصفة لم يسبق له مثيل ، في تاريخ الأزمات ، الأمر الذي يعني وجود اختلالات عميقة في بنية نوعية الصراع الجاري ، و الذي لم يعد صراعا طبيعيا و سويا و متوازن الفعل و التفاعل ، في راهن المجتمعات العربية خصوصا ، بل صار صراعا موجها و مسيّسا ، بصورة أفرغته السلطات العامة و الخاصة ( بدلالتها الوطنية أو الإمبريالية الدولية ) من محتواه الإيجابي ، و بات تتحكم في مساراته المتشعبة و حركاته المتسارعة ، مدا و جزرا ، قوى السلطة المتواطئة و المركبة و المقنعة ، ذات البعد السياسي التقليدي ، و المنطلقات الاقتصادية المعولمة ، و الأهداف الاجتماعية المخطط لها بشكل جيد ، و ذلك بتحقيق الصيرورة التاريخية المنشودة ، و حسم الصراع الاجتماعي و القيمي ، لصالحها ضد القوى الحية في المجتمع ، بفرض فكر الاستهلاك السلبي ، و بسط ميتافيزيقا التقنية الغازية ، و تحفيز التنشيط الوجداني و الهرولة الجسدية ، و تبرير سياسة الحصار العلمي مع تشديد الخناق ، و إشاعة ثقافة الحيف و الطبقية التعليمية ، فيما يخص قضية الارتقاء العلمي ، و تحصيل الشهادات الجامعية و العلمية ، ذات الطابع التكويني المهني و العالي ، و ذلك بسن إصلاحات مرقعة ظرفية و موجهة ، و اعتماد معيار الزبونية ، و سلطة المال و الإعلام المجرور ، و الحزبية الضيقة ، بدل الكفاءة العلمية و المعرفية و الاستحقاق الفكري الموضوعي .
إنه التأصيل الرسمي ، و التأسيس الواقعي لفكر الاحتواء ، و لاستراتيجية بعيدة المدى ، شعارها الجوهري هو إتعاب الخصم حتى لحظة الانهيار ، عكس ما سماه نيتشه بإرادة القوة .. أي السلطة هنا ( الذات المسيطرة الحاكمة ) ، بتشكيلتها المادية المتحدث عنها ، و بأبعادها الرمزية القريبة من النوازع الشعبية السائدة ، تؤسس لأسباب قوتها الراهنة و الآتية ، من أجل الحفاظ على دوام صيرورتها التاريخية و المستقبلية ، و دعم قدرتها على مواصلة شرعنة عنف السيطرة ، غير المشروعة ..، و تمطيط نسيج أبجديات تاريخ قوتها و سيطرتها و جبروتها ، الذي أرادته أن يكون دائم الاستمرارية ... و تفعل ذلك كله على حساب التأسيس المقابل و العكسي ، لإرادة الضعف و تكريس التخلف ، و فكر الثبات و السكونية ، تحقيقا لغرض إضعاف قدرات القوى الشعبية العادية ، أو المحسوبة على طبقة المثقفين و المتنورين معرفيا و تعليميا ، و المناصرة لقضايا الحق في الوجود الكريم للمواطن ، و العدالة الاجتماعية ( المغتصبة ) ، و المساواة ( الصورية ) ، و التحرر الفعلي من احتلال النفوس و العقول ... ليس فقط من اعتقال الذات المضادة ( السياسي و الاقتصادي ) ، بل و كذلك من اعتقال الذات ( الإرث العام الاجتماعي و التقليدي ) . لأن الإنسان مهما كان ، يحدده ما هو قيمي و أخلاقي ، بالمعنى الراقي للكلمة ، باعتبار أن ( مهمة الفيلسوف المقبلة هي تحديد تراتب القيم )2 ، نظرا لأهمية مفهوم المعنى و القيمة لدى إنسان اليوم ، في إطار البحث عن المواقع ، في سلم التراتب المجتمعي .. الشيء الذي فرض على نيتشه أن ينشغل أكثر ، طيلة مسار حياته الفكرية و الفلسفية ، بمبحث القيم و الأخلاق ، و يحظى هذا المبحث ضمن أبحاثه و اهتماماته الفكرية عامة بحصة الأسد . بل أكثر من ذلك اعتبر نيتشه مبحث القيم ، من أولى المباحث التي يجب أن يهتم به كل فيلسوف يريد أن يكون جادا و ناجحا في أبحاثه الفلسفية ، بعد ذلك ، آثر موقعة مبحث المعرفة كمبحث موالي في الرتبة الثانية ، يليه مبحث الوجود في المرتبة الأخيرة .
إن واقعا عربيا كهذا ، و بالملامح الدرامية التي يتسم بها ، خاصة بالنسبة لشروخ منظومة قيمه النازفة ، منذ رحلة الاستعمار السياسي ، و بقاء الاحتلال الذاتي ، بإرثه الثقيل و المكبل لجسده ، لن يحتاج فيه أهاليه إلا لعقل فلسفي نقدي فعال ، يكون الأداة لكشف المستور و المحجوب ، من المفارقات و التناقضات و مظاهر الداء ، و الفساد و التعصب القبلي الفارغ ، و الاستغلال و الجهل و الأمية الثقافية ... و هلم جرا ، و في نفس الوقت ، محاولة منه لتقديم المعالجة المناسبة للمشاكل المطروحة ، و اقتراح الحلول البديلة لوضع مماثل ، و ذلك باعتماد منهجية التفكيك ، و تركيب معطيات الفكر العلمي الديمقراطي المبدع و الحر ، و تجديد فعاليته المنهجية ، ثم بناء الحكم النقدي الهادف ، و صياغة الاستنتاج بشكل علمي ، بعيدا عن نوازع الأهواء و قواعد التقليد ، كما تريد له ثقافة السلطة المحتكرة لميدان اللعب السياسي و الاجتماعي ، داخل الحقل الشعبي الوطني ، باعتبار أن ( قاعدة كل عمل فلسفي هي الوعي المباشر بالمفاهيم لا تعريف المفاهيم )3 .
هنا ، تبدو لنا الفلسفة ، بمفهومها النقدي ( الأرضني ) ، بتعبير دولوز ، ضرورة ملحة ، باعتبارها الفكر الوحيد المؤهل ، لرفع تحدي تعزيز قدرات الإنسان المعرفية و العلمية بصفة عامة ، و في المجال التعليمي و التربوي بصفة خاصة ، و كذا مقاومة الفكر التضليلي ، و التفقيري و الظلامي الشرس ، الذي يحاول البعض ( الأفراد و الجماعات و المؤسسات ) تكريسه و التبشير به و فرضه ، في إطار إرادة بناء الإنسان الضعيف الأجوف ، و صناعة الفرد النمطي المستلب ، و المتهافت على تكبيل الذات ، و تعذيبها الطوعي ، دون الحاجة إلى قهر الآخر ، الموجود أصلا و ضمنا بشكل رمزي ، كما يطرحه بورديو في كتاباته .. هذا التحدي الكبير الذي يتوقف من جهة ، على محاربة ، كما أشرنا سابقا ، مظاهر الوعي الزائف ، التي تنشط بتفاقم سيطرة القوي على الضعيف ، و من جهة أخرى ، بإرساء تقاليد قرائية فلسفية و فكرية جادة ، ابتداء من داخل بيوتنا و أسرنا ، و انتهاء بمؤسساتنا التعليمية ، بجميع أصنافها ، و بشكل أخص المؤسسات التعليمية العمومية ، التي يراهن على اغتيالها التربوي و الفكري ، بحكم دلالتها الشعبية الحضارية ، و قيمتها التنويرية المستقبلية لكل الشعوب الثالثية ، و التي يراهن عليها كل تقدم مجتمعي حقيقي بلا منازع .
إنه ، بتبني الأنظمة التعليمية العربية بصفة عامة ، و النظام التعليمي المغربي بصفة خاصة ، تصورا واضحا للمادة الفلسفية ، باعتبارها فكر علمي محرر ، كباقي أنماط الفكر الإنسانية ، إن لم نقل يفوقها جميعها ، من حيث إجرائيته و مدى فعاليته الراهنية ، نظرا لطبيعة المرحلة الحالية ( سيادة الأزمة المجتمعية ) و التي تتسم بالكثير من التوتر العرقي و الثقافي و السياسي ، و كذا بقابلية فريدة و واضحة ، لتحفيز الفكر النقدي ، و القول الفلسفي الملتزم بقضايا الانسان ، و بالتالي تحقيق المصالحة المعرفية الحميمية ، المفتقدة اليوم بين المجتمع ، كميدان للعلاقات الاجتماعية ، الآخذة في التحول و التصارع الفكري ، و الفلسفة كفكر نقدي جدلي أصيل ، يبغي التأسيس و البناء ، و إعادة الاعتبار لمكانة الفلسفة الراقية ، و قيمتها العقلية و المعرفية ، التي تميزت بها في القرون الماضية ( نموذج ابن رشد و عصره ) .. نقول بتبني للدولة ، من خلال سلطتها الوصية على القطاع ، هذا التصور الإجرائي لمفهوم الفلسفة و الدرس الفلسفي ، في إطار مشروع تربوي و سياسة تعليمية و ثقافية شاملة ، تكون بالفعل قد خطت الخطوة الجريئة الأولى ، من أجل إرساء الدعائم الواقعية و الضرورية ، غير الواهمة ، لتعليم معرفي علمي حقيقي .. و محرر لإنسان المستقبل العربي .