مفاهيم معالم لفهم الخطاب في ضوء التداولية
تقديمنقدم في هذا العمل بعض الألفاظ والمصطلحات، التي شكلت، ولا تزال، المحور الأساسي الذي تنصب فيه التداولية كمنهج لتحليل الخطاب، فليس لهذه المصطلحات طابعا إجرائيا، لأن غايتنا من ذلك هو أن نجعل المحلل والناقد لأي خطاب كان، أن يكون على دراية بماهية التداولية و بما يمكن أن توفره له من آفاق تجعله قادرا على استنطاق الخطابات بأسلوب دقيق وسوي؛ ومع ذلك نكرر مقولتنا التي أعلنا عنها في مناسبات عديدة، وهي أن التداولية ما هي سوى وجهة نظر وزاوية، ينظر من خلالها إلى اللغة والوجود، بل لا توجد نظرية تداولية متكاملة ومحكمة الأطراف، بإمكاننا أن نعتمدها في تحليلنا للخطاب الأدبي أو غيره، على غرار السيميائية السردية أو الأسلوبية…ونقول إن التداولية تجاوزت العديد من المتاهات التي وقعت فيها البنوية، بسبب إقصائها العديد من الأبعاد التي شكلت الأسس الثابتة التي بنيت عليها اللغة البشرية، وبسبب ضربها عرض الحائط دور السياق، بأبعاده المتعددة، في تأدية العملية التبليغية، ومكنت التداولية، أخيرا، الباحث من أن يفتح آفاقا جديدة في البحث والتحليل والفهم الدقيق للغة والخطاب.
التداولية يتعين علينا، عند الحديث عن التداولية، أن نحدد هذا المصطلح بوضعه ضمن سياقاته التي يتجلى فيها،
[1] فقد نقصد به ميدان من ميادين الدراسة اللسانية، أو تيار في تحليل الخطاب بالوقوف على إجراءات النظريات التي شكلت التداولية، أو تصور خاص باللغة ونظرة إليها، تأخذ بعين الاعتبار مختلف العناصر التي أهملتها البنوية في تحديدها للبعد الحقيقي للغة.
التداولية كنظرية (ات) في التحليل اللساني أول من وضع أصبعه على هذا المفهوم، محددا إياه تحديدا يأخذ بعين الاعتبار كل إشكالات اللغة، السيميائي شارل موريس، الذي حصر التداولية في علاقة العلامات اللغوية بمستعمليها، بعد حصره لعلم الدلالة في العلاقة الرابطة بين العلامات اللغوية وما تدل عليه، وعلم التراكيب فيما يربط العلامات اللغوية بعضها ببعض، و نقصد بعلاقة العلامات بمستعمليها هو النظر في الإجراءات التي تسمح بتأويل الملفوظات ضمن السياقات التي نتجت عنها؛ فالتداولية كعلم، هي أيضا دراسة اللغة ضمن الاستعمال، بمقابل دراسة اللسان كمنظومة مغلقة من الأدلة.
ولقد تطور هذا التصور للتداولية، منذ البدء، على يد فلاسفة اللغة التحليليين أمثال أوستين وسيرل وفتجنشتاين، بعد تأسيس لتداولية الأفعال الكلامية التي أضفت على اللغة بعد المؤسسة التي تضمن تحويل الأقوال إلى أفعال ذات طابع اجتماعي و مؤسساتي.
التداولية كتيار في دراسة الخطاب و تحليله يتعين علينا تحديد مضامين هذا التيار في دراسة الخطاب الإنساني وتحليله، باعتباره مجموعة من الأقوال غير المصرح بها، يبنيها المتخاطبون في شكل استنتاجات تخضع لمعطيات السياق، وقد وضع أسس هذا التيار الفيلسوف الإنجليزي جرايس، أثناء وصفه لما سماه مبدأ المشاركة وأحكام المحادثة، كما تدخل جهود ديكرو في هذا التيار بأعماله حول قوانين الخطاب والاقتضاء والأقوال المضمرة…
التداولية كتصور للغة ليست التداولية مجرد نظريات لدراسة اللغة وتحليل الخطاب، فقط، بل هي، أيضا، نظرة وتصور للغة، نتجت عن إدراك الإنسان لتداخل وتشابك عوامل عديدة، شكلت عالم التبليغ اللغوي؛ وتمتد هذه النظرة، في هذا المجال – زيادة على الركام الكبير المعروف حاليا بالتداولية – إلى جهود الإغريق القدماء، حين تحدثوا مثلا عن الشروط اللغوية وغير اللغوية لتحقيق التبليغ الفعال، وأفضل من يمثل ذلك فن الخطابة لأرسطو؛ إضافة إلى جهود العلماء العرب، باختلاف علومهم، في إبراز هذه النظرة المتعددة الأبعاد للغة.
مفاهيم التداوليةاللعبةإن "اللعبة"
[2] أو "الألعاب اللغوية" هو مصطلح يراد به الصبغة المؤسساتية للغة أثناء الاستعمال، فعندما نتكلم ، نكون قد أخضعنا كلامنا لمجموعة من القوانين الضمنية ـ تجعلنا نميز بين الكلام السوي وبين غيره، مثلما هو الحال بالنسبة لقواعد مباراة التنس أو لعبة الشطرنج، ممّا يفسر ما اصطلح البعض على تسميته باستراتيجيات الخطاب، فلكل من أطراف الخطاب أسلوبه الخاص في مقابلة الطرف الآخر في الحديث، ويُعد فيتجنشتاين من المؤسسين الأوائل للتداولية؛ وقد حصر مانغنو التداولية في أنماط ثلاثة: القانون والمسرح واللعبة، إن الكلام باعتباره فعلا متحققا في الواقع لا ينفصل عن المؤسسة، فمجرد نطق المتكلم بصيغة الأمر يكون قد أضفي على نفسه مرتبة الآمر، فيضع الآخر في مرتبة المأمور، ويتحقق ذلك بتوفر شروط محددة، وهي شروط خاضعة لأعراف كل لغة، فقد جعلنا ذلك نتحدث عن التعاقد الذي يمكِّن المتكلمين من التعارف على الصيغ الكلامية المناسبة لكل حال من أحوال الخطاب، ويرى «فتجنشتاين» أن الخطاب ليس مجرد عملية تبليغية بين طرفين ضمن إطار زماني ومكاني، ولا هو أفعال كلامية تتحقق وفق نسق قانوني معين ، إنما هو لعبة تضبطها قواعد محددة ترتبط مباشرة بكل فعل من أفعال الحياة، وهذه القواعد تتشكل في ثلاثة أنواع: قواعد اجتماعية وقواعد استبدالية وقواعد نحوية، والاصطلاح هو الذي يحدد لنا وجه القاعدة الاجتماعية؛ ويضع فيتجنشتاين قيدا لمفهوم القاعدة، لا يعدو كونه لعبة من ألعاب اللغة، فنظرا لعدم وجود قواعد معيّنة تلزم لاعب التنس،مثلا، بارتفاع معين للكرة لا يجب تجاوزه، فإن المشارك في الخطاب لا يصح له خرق قواعدها الأساسية وغير الأساسية التي يدعوها «القواعد الفردية». والحال أن هذه القواعد هي نماذج ومُثُل صالحة لعدد كبير من أحوال المتخاطبين، فهي تسمح بتنويع النشاط الكلامي تنويعا غير متناهٍ، فهذه المُثل تشكل، في الغالب، نوعا من السلم المتدرج:"عندما أقول مثلا: إن هذه النقطة من الحقل البصري زرقاء، فإنني لا أعرف ذلك فحسب، بل أعرف أيضا أن النقطة ليسـت خضراء ولا صفراء ولا حمراء … فبعملية واحدة قُيِّض لي تطبيق سُلم الألوان برمته".
[3]وفي مفهومه لألعاب اللغة، يركز فتجنشتاين على قضية أساسية هي: الشك، فالشك في لعبة اللغة لا وجود له، إذ يتعين أن لا تثبت التجربة عكس ذلك، فكلنا يعلم أن الاستحمام في البيت يتم في غرفة الحمام، فإذا نزل شخص ضيفا عند أحد أصدقائه، وأراد أن يستحم، فإنه يعرف مباشرة أنه سيتوجه مباشرة إلى غرفة الحمام، وتشكل كل لعبة، كما يقول فيتجنشتاين، شكلا من أشكال الحياة: الأمر والعمل بموجبه، أو وصف حدث ما، أو تمثيل مسرحية، أو وصف شيء حسب مظهره ومقامه، أو ابتكار حكاية، الغناء في صلب حلقة…
ويمكِّن الجانب الاستبدالي المتكلم، وذلك في الأشكال اللغوية المكونة لقواعد اللعبة، من إحداث عدد لا متناه من الأقوال، في عدد لا حصر له من الأحوال؛ وأخيرا، نقول إنه من بين قواعد اللعبة، ما يتعلق بالمتكلم ذاته (سلوكه، رتبته، صوته، إيماءاته، حركاته…) ومنها ما يتعلق بعلاقته بغيره من المتخاطبين.
المسرح لم يلبث الإنسان منذ القديم أن وصف الحياة فشبهها بالمسرحية التي يقوم فيها الأشخاص بأدوارهم المنوطة بهم، وعدم الخروج عن الأعراف والقوانين والمؤسسات التي تحكم تفاعلاتهم، فقد ظلت التداولية منذ نشأتها تُنكر الفكر السائد في المجال اللساني والذي يحصر اللغة في وسيلة نقل المعلومات، وأعادت الاعتبار للعنصر التفاعلي للغة، بإعطائها الأهمية للإطار الذي يتم فيه التفاعل، وهو إنّية التلفظ؛ فقد وضعت اللغة مجموعة من القواعد تسمح بإنجاز عدد من الأفعال اللغوية وفق مقامات محددة، فهي مقامات تمنع أي شخص من انجاز فعل الأمر، إذا لم تتوفر شروط هذا الإنجاز، وهي المقامات التي تمنع انجاز فعل البيع والزواج والطلاق وفتح الجلسة القضائية، ما لم تتوفر شروط ذلك؛
ولقد وُظف مفهوم الدور في تحليل الخطاب، للدلالة على تحديد السلوكات اللغوية للمتخاطبين، فهناك سلوكات تنم عن وضعيات الفاعلين الاجتماعيين ووظائفهم، وسلوكات تشير إلى نمط من أفعال شخصية وسردية معينة، وهناك أخرى تحيل إلى النمط التلفظي الذي يتواجد فيه المتخاطبون، فنقول مثلا إن الذي يطرح سؤالا، يقوم بدور الذات السائلة، والآمر بدور الذات الآمرة؛ ولا بأس أن نكرر في هذا المقام ما سبق وأدلينا به فيما يتعلق بالتصور القديم لمفهوم المسرح، الذي يرى أن الحياة مجرد مسرح واسع، يلعب فيه كل إنسان دوره المنوط به، وهو مفهوم تجسد في التصور الذي يعتبر اللغة سجلا من العلاقات الإنسانية ومجموعة لا حصر لها من الأدوار، يختار منها المتكلم ما يناسبه منها ليفرضه على الآخر في الوقت نفسه، وذلك في إطار منظومة من القواعد والأعراف الاجتماعية والمؤسساتية، كما يشكل مفهوم المشهد التلفظي، الصورة التي يبنيها الخطاب من المقام التلفظي، ويعتبره شارودو الفضاء الداخلي للتلفظ الذي يتجلى في الدور الذي يضفيه المتكلم على نفسه، و يفرضه في الوقت نفسه على المخاطب؛ أما النمط الثاني فهو المسرح، الذي يقول فيه«مانغنو»
[4] إنه من السهل الانتقال من النسق القانوني إلى الدور ، إذ إن المسرح صورة مصغرة للعالم والحياة حيث توزع الأدوار على كل شخص، وبالتالي يكون خطاب الممثلين والشخصيات المسرحية هو نفسه خطاب المتكلمين في الواقع، بحيث لا يمكن للمؤلف أن يخرج عن الأعراف الخطابية والاجتماعية للغة التي يكتب فيها.
العقد إن العقد هو أحد الأسس التي تبنى عليها العملية التخاطبية والتبليغية، فقد عرّفه معجم تحليل الخطاب
1 بكونه يحيل إلى ما يجعل الفعل التبليغي معترفا به من جميع الأطراف، وذلك من ناحية المعنى، إنه شرط أساسي لتحقيق التفاهم والإفهام بين أطراف الخطاب، ليتمكنوا من التفاعل عن طريق بناء المعنى، وهو الهدف الأسمى من أي فعل تبليغي – تواصلي؛ والملاحظ أن العديد من العلماء والنقاد والمحللين، قد سبق أن تناولوا هذا المفهوم، دون استخدام مصطلح العقد التبليغي؛ إذ تناوله بنفنيست في تأسيسه لما سماه بالقطبية الموجودة بين "أنا" و"أنت" التي يتأسس عليها كل نشاط خطابي، وتناولها باختين في تنظيره للحوارية، التي يقول عنها إنها تبنى على ما سبق قوله
le déjà dit؛ وقد رأينا أن هذا المفهوم سيطر – في تحديد ماهية الأفعال اللغوية – عند أصحاب الفلسفة التحليلية:"أوستين وسيرل"، وخاصة سيرل، أثناء حديثه عن القصد الجماعي، ولكننا نشير إلى أن مفهوم العقد في هذا المقام هو مفهوم مجازي، بمعنى أنه لا يمكن تقنين صريح لهذه الظاهرة، وإنما يتم التعاقد عادة بأسلوب ضمني، وخرق العقد في هذا السياق لا يؤدي إلى عقاب مماثل لعقاب الشخص الذي لم يحترم قاعدةً منصوص عليها في إحدى تشريعات المجتمع، فالعقد في العملية التبليغية إذن هو شرط من الشروط التي يتحقق في ظلها أي فعل تبليغي، مهما كان شكله "سواء أكان شفهيا أو مكتوبا، داخليا كان أو حواريا تعدديا "، إنه يسمح للأطراف المتخاطبة بالتعرف على بعضهـا البعض عن طريق صفات الهوية التي تميز كل عنصر منها، ومعرفة الغاية التي تكمن وراء كل منها، والاتفاق على غرض موضوع التبادل أو المناسبة وهو ما يسميه شارودو بالمناسبة، وتفهُّم أهمية العوائق المادية (وهي الظروف) التي تحدد ذلك الفعل.
وقد وضع شارودو تصورا لتحديد ماهية العقد باعتباره أحد "العوائق المقامية للخطاب، عامة، في كتابه
2[5] الصادر عام 1997، والذي ضمنه حوصلة أعماله فيما يتعلق بالأدوات السيميولسانية لتحليل الخطاب الإعلامي، واكتشاف آليات بناء المعنى الاجتماعي بملاحظة الظواهر اللغوية، وهو في رأينا أفضل ما أُلف في هذا الميدان، منذ أن اهتم المحللون، بتحليل الخطاب انطلاقا مما وفرته اللسانيات والسيميائية من أدوات إجرائية؛ فقد تساءل شارودو
3[6]عن الكيفية التي يتبادل بها أعضاء التركيبة الاجتماعية الكلام وعن التأثير والتأثر الجاري بينهم وعن قدرة بعضهم على إقناع الآخر، وأكثر من ذلك كيف يمكن لهم إسداء قيمة معينة للفعل التواصلي؟ وكيف يتمكنون من بناء المعنى؟ إذا انعدم الإطار المرجعي لذلك؛ وللإجابة على ذلك شبه شارودو المقام التبليغي بمشهد مسرحي تعتريه عوائق المكان والزمان والعلاقات والكلام، المتحكمة في التبادلات الاجتماعية التي تشكل قيمتها الرمزية، فهذه العوائق تتحقق بضبط الممارسات الاجتماعية وتنظيمها بغرض إضفاء قيمة مؤسسة عليها، وهذا الأسلوب يسمح ببناء التعاقدات والمعايير السلوكية اللغوية التي، إذا انعدمت، انعدم التواصل والتبليغ الإنساني، فالمقام التبليغي، إذن، هو الوحيد الذي يملك على القدرة على إعطاء معنى وقيمة للفعل التبليغي، وهو ما يجبر أطراف العملية التبليغية على احترام عناصر هذا المقام "ومنه جاء مفهوم "العوائق التبليغية"، إذ باحترامها لهذه العناصر، تعترف له ولغيره بوجودها، وينبثق هذا الاعتراف ممّا أسماه بعض فلاسفة اللغة "النية المتبادلة"، فهو الذي جعل شارودو يقول إن الأطراف (التخاطبية) يربط بينها نوع من الاتفاق المـسبق حول ما يشكل معطيات هذا الإطار المرجع، إنها تتواجد في وضعية تخضع فيها لمقصد وإستراتيجية محددين، وتخضع أيضا لعقد بغرض الاعتراف بشروط تحقيق نمط من التبادل الكلامي، بسبب إقحام نفسها فيه؛ وهنا نخلص – مع شارودو – إلى نتيجة هي أن مدلول أي فعل تبليغي يتوقف، بالضرورة، على عقد تبليغي؛ قبل التعرض لتحديد مكونات هذا العقد، نشير إلى أن شارودو نفسه يرفض إعطاء مفهوم العقد، صبغة قانونية وفقهية ، كما ذهب إلى ذلك العديد من الباحثين، فمفهوم العقد عنده، يختلف عن ذلك العقد الاجتماعي لجان جاك روسو، إنه مفهوم يتأسس على التصور الذي جعل الأشخاص يلتقون، ويتبادلون بناء المعنى بغرض التواصل، انطلاقا من مجموعة من المعطيات، وهذا يستلزم الاعتراف المتبادل بين هؤلاء؛ ويضرب شارودو مثالا لذلك بالخطاب السياسي، فحينما نستمع إلى الرجل السياسي أو نقرأ له، نكون قد أخضعنا أنفسنا لمجموعة من المعطيات والمتغيرات التي تسمح لنا بفهم مغزى الخطاب السياسي. "فبالنسبة لي، يكتسي العقد قيمة إجرائية، إلا أن مصطلح العقد، قد أضاف جديدا لمفهوم المقام، إذ إن المقام يتحدد بمكونات الهوية والمناسبة، والعقد هو المقام، منذ اللحظة الّتي يعترف فيه الأطراف بالمعطيات المختلفة للتبادل".
[7] ونود أن نطرح هنا إشكالا، يتعلق بالوسيلة التي تتوسط أحيانا الأطراف وتحول دون التقائها أحيانا أخرى، بمعنى، إن مفهوم، العقد كما شرحناه سابقا، يطرح علينا إشكالا حينما نتحدث عن التبادل في الحالات الطبيعية، لأن الصحافي، مثلا، لا يخاطب قراءه أو مشاهديه ويتبادل أطراف الحديث مباشرة معهم، فيشير شارودو إلى أن علم وسائل الإعلام هو الذي يتكفل بدراسة هذا الإشكال، بتساؤله عن تأثير الوسائط المادية في العملية التبادلية، كما هي موجودة في الظاهرة التبليغية العادية، ويضرب مثالا على ذلك بالصحافة المكتوبة التي تؤثر فيها مجموعة من المتغيرات من نمط: اليومية والأسبوعية والشهرية، التي لا يمكن أن نتغاضى عنها في دراستنا للتبادل في الخطاب الصحافي المكتوب.
القانون علينا أن نذّكر أن العديد من فلاسفة القانون ساهموا بجدارة في نشأة التداولية، أهم هؤلاء
وأشهرهم أوستين (صاحب نظرية الأفعال الكلامية) وبيرلمان (صاحب النظرية الحجاجية الحديثة)، وأن دوسوسير، و بعض من سبقه من علماء اللغة والاجتماع، قد أشاروا إلى ماهية اللغة التي تكمن في الصبغة الاجتماعية التأسيسية، و نحن ندرك أن أي مؤسسة في المجتمع، سواء أكانت واقعية أو رمزية، تخضع لمجموعة من القوانين والأعراف، تضبط سلوكات المتخاطبين، وهذا تجنبا للفوضى؛ ويقول د.طه عبد الرحمن في حديثه عن القواعد، أو ما سميناه نحن، سابقا، القوانين:"و لما كان التخاطب يقتضي اشتراك جانبين عاقلين في إلقاء الأقوال وإتيان الأفعال، لزم أن تنضبط هذه الأقوال بقواعد تحدد وجوه فائدتها الإخبارية أو قل فائدتها التواصلية، نسميها بقواعد التبليغ…كما لزم أن تنضبط هذه الأفعال بقواعد تحدد وجوه استقامتها الأخلاقية أو قل التعاملية، نسميها بقواعد التهذيب."
[8] وتسمح هذه القواعد بانجاز وإنجاح الأفعال الكلامية، ففي هذا المجال، يتحدث سيرل عن القواعد التأسيسية التي تسمح للشخص بالقيام بفعل الأمر، والترفع في الوقت نفسه عن الملتقي الذي يجد نفسه في مرتبة المأمور، وكلاهما يخضع للقوانين التي تحكم المؤسسة اللغوية، هذه المؤسسة التي تفرض عليّ الالتزام بالصمت إلا بإذن القاضي في المؤسسة القضائية، وتسمح للقاضي نفسه بفتح الجلسة فتحا يسمح لكل أطراف العملية القضائية بالحديث، مع الالتزام بأدوار كل طرف، إنه القانون نفسه الذي يجعلني محل استهزاء الناس إذا غامرت بتلفظ عبارة " أعلن عن فتح الجلسة " في المحكمة، و هو نفسه القانون الذي يحقق فعل الطلاق بعبارة يتلفظ بها الرجل، ولا يتحقق هذا الفعل إذا تلفظت المرأة بنفس العبارة؛ ومفهوم القانون يتجلى في مجال آخر من التداولية وهو مجال قوانين الخطاب (على حد تعبير ديكرو) و أحكام المحادثة (على حد تعبير جرايس)، حيث يتجلى هذا المفهوم في كونه مجموعة من القواعد المكمّلة للقواعد التركيبية والدلالية، تستمد وجودها من المجتمع، ومما جُبل عليه الإنسان من قدرات ذهنية استنتاجية، وتتحكم في لعبة التبادل الكلامي بين الأشخاص، وتحدد في الوقت نفسه أدوار المتخاطبين والبعد التبادلي الحواري للخطاب ومنزلة الشخص عند تناوله الكلام؛ ويكمن الهدف الأساسي من هذه القواعد في تمكين المتكلم من صياغة أقواله على نمط أكثر إقناعا وإبلاغا وأحسن أداء، وأهم هذه القوانين، في نظر جرايس، قانون المشاركة الذي يضمن عدم انقطاع العملية التواصلية، باعتراف كل طرف من الخطاب بحقه في التناوب على الكلام، ويسمح في الوقت نفسه للأشخاص المتخاطبين باحترام القواعد التي تواضعوا عليها.
الحواريةيُعد باختين مؤسس هذا المفهوم، بإحالته إلى مجمل العلاقات التي تربط الملفوظ بباقي الملفوظات التي أنتجت سابقا، وتلك التي سينتجها المخاطبون بعد إصدار المتكلم لذلك الملفوظ، فتضمن الحوارية إنشاء واستمرار العملية التواصلية، وتسمح للمخاطبين بالتأثير على بعضهم البعض؛ ولقد أثرت أعمال باختين في الحوارية على التّصور اللّساني للّغة، حديثا، حيث صار التّفاعل الكلامي محور أي نظرية تتناول اللّغة كموضوع للدّراسة، ويكمن سر نجاح هذه النّظرية في نظرتها إلى اللّغة على أساس وظائفها التّواصلية والمُبَنيِنة للواقع، إذ يرى باختين أن التّعبير ليس فعلا فرديا، لكنه نشاط اجتماعي حدّدته مجموعة من العلاقات الحوارية، فالحوار إذن، لا يمكن حصره فيما يجري بين شخصين في المحادثة اليومية، إنّه يشمل أيضا كلّ إنتاج كلامي صادر عن الإنسان، ويدخل المونولوج ضمن أنواع الحوار بكونه كلاما صادرا عن شخص متوجها نحو شخص آخر، ولو كان غائبا، ويخضع لنفس مكونات الحوار، وهو الأمر الّذي جعل باختين يضفي عليه بعدا تفاعليا، بنفس درجة الحوار، فهذا البعد التّفاعلي للمونولوج أثبتته حوارية النّشاط الكلامي؛ فاللّغة، إذن، ليست هي الأشكال المجردة، ولا التّلفظ المونولوجي، ولا الفعل النّفسي الفيزيولوجي لإنتاجه، بل هو الظّاهرة الاجتماعية للتّفاعل الكلامي، المتحقق بالتّلفظ والمتلفظين، فالتّفاعل الكلامي يشكل الحقيقة الأساسية للغة، ولا يشكل الحوار، بناءً على ذلك، العملية الكلامية الدائرة بين شخصين أو أكثر، إن الإنتاج الكلامي الإنساني كله يدخل ضمن الحوار، نظرا لما يحيل عليه هذا الأخير من إعادة صياغة وتحوير وتكرار خطابات سابقة، فالخطاب المكتوب، حسب باختين ،هو "جزء من حديث أيديولوجي على مستوى أعلى: فهو يجيب ( على سؤال) ويدحض (فكرة) ويؤكد (حقائق) ويستبق إجابات واعتراضات افتراضية ويبحث عن مساندة… فكل تلفظ مهما كانت درجة دلالته وتمامه، لا يشكل سوى جزء من تواصل كلامي غير منقطع للحياة اليومية والأدب والمعرفة والسياسة".
[9]والملاحظ أن أعمال باختين استطاعت أن تؤثر على العديد من الدّراسات اللّسانية والنقدية، مثلما هو الحال بالنّسبة لأعمال النّاقدين جيرار جينيت وجوليا كريستيفا في موضوع التّناص، وأعمال ديكروO.Ducrot
، في تعدّد الأصوات، وأعمال مانغنو وجان ميشال آدم في تحليل الخطاب.
الذاتيةإنّ وجود الإنسان لا يتحقق إلا باللغة، كما أن إدراكه لذاته لا يتم إلا بها، وباعتبار أنّ العالم لا ندركه إلا باللغـة، فإنّـه يتأسس كلّه حول مفهوم الذات، والذاتية، انطلاقا من هذا التصوّر، هي: قدرة المتكلّم على أن يفرض نفسه كفاعل.
[10] وهي لا تعرَّف بالتحديد النفسي لها عن طريق إدراكنا لمختلف العواطف والأحاسيس بقدر ما هي ذلك الكل النفسي الذي يضمن استمرارية الوجود الداخلي للإنسان، وهي بذلك تتجلّى في عناصر لغوية مثل الضمائر وظروف الزمان والمكان…، وهي التي دعاها علماء نظرية التلفظ المبهمات ، حيث تظهر الذاتية فيها عند نطق المتكلّم بـ "أنا" ، إذ يكون قد وضع، مباشرة، أمامه "كائنا" آخر، هو "أنت"، ويشكل هذا الأخير الإطار الخارجي المقابل للإطار الداخلي الممثل في ذات المتكلّم، هذه القطبية – على حدّ تعبير بنفنيست – لا تعني أبدا التناظر بقدر ما هي وضعية الذات المتعالية بالنسبة لـ "أنت" الذي يمثل "الآخر،" وهذا يشكل تكاملا بينهما، إذ لا وجود لطرف دون الآخر، وفي الوقت نفسه تكون العلاقة بينهما متعاكسة، إذ إنّ هذه العمليّة تجعل الطرف الثاني "أنت" يتحوّل إلى "أنا" فيفرض ذاته بجعل الطرف الأول يتحوّل إلى الجانب الخارجي من العملية؛ وبهذه الجدلية – كما يذهب إلى ذلك بنفنيست – تتحقّق الأسس اللسانية للذاتية، حيث أشار إلى أنّها تشكّل العامل المشترك في جميع اللغات، وتتحدّد ضمن الاستعمال، فلا نجـد لغة تخلو من ضمائر الشخص، وهذا لا يعني أن الذاتيّة تتجلّى فقط في ضمائر الشخص، بل تتعدّى إلى مفهوم الزمان، فتحديد مفهوم الحاضر ودلالته ومرجعيته يكون بتطابق الحدث بإنّيـة الخطـاب، فالحاضر هو تلك النقطة من الزمن التي يتمحور فيها خطاب الشخص المتكلّم؛ ثمّ إنّ إدراك الماضي والمستقبل يتوقف عليه، والماضي هو الزمان السابق لعمليّة التلفظ،، أما المستقبل فهو الزمن البعيد لعمليّة تلفظ المتكلّم بكلامه، وينطبق ذلك على المكان، إذ إنّ تحديده يقف على النقطة من الفضاء التي يتحدّث فيها الشخص، فالبعد والقرب نقطتان يتمّ إدراكهما من النقطة التي يتحدّث فيها المتكلّم، ومن هنا نرى أنّ مفهوم الذاتية ينطبق على الشخص ويرتبط بالزمان والمكان إذ إن تمحور الخطاب في شخص المتكلّم هو الذي يعطي الأبعاد الحقيقيّة للمفهومين السّابقين .
التمثّلات الاجتماعيةتكمن أهمية هذا المفهوم، في مدى استيعابنا للبعد الحقيقي للكلمات التي يستخدمها المتخاطبون، وبصفة خاصة أثناء العملية الحجاجية، فهم يعمدون إلى اختيار دقيق لأوصاف ونعوت يسندونها للمتلقي بغرض التأثير عليه؛ فقد أدركنا العلاقة الوطيدة بين الخطاب كإنتاج فردي والتمثّلات الاجتماعية كبناء ذهني في مرحلة أولى، وكتصوّر جماعي في مرحلة ثانية، إنّ التمثّلات الّتي هي ظواهر فردية ومجزأة تلتقي وتتجمّع لتصير تصوّرات جماعية تهيكلها مختلف الشّبكات الاجتماعية، "وتنتهي بتشكيل الآراء والمواقف والمعتقدات والقوالب الاجتماعية الجامدة"؛
[11] وباعتبار اللّغة ظاهرة اجتماعية، فإنّها إحدى الوسائل الّتي تنعكس فيها التمثّلات الاجتماعية؛ وقد تبيّن، من خلال أعمال موسكوفيسي Moscovici (وهو مؤسّس هذا النوع من الدّراسات في مجال البحوث النّفسية الاجتماعية)، أنّه كان يسعى – وهي غايته القصوى – إلى إقامة روابط بين النّشاط اللغوي وتمظهُر التمثّلات الاجتماعية، ويؤكّد أ. وينديش، في هذا الإطار، أنّ التمثّلات الاجتماعية يتم تبنّيها في ظلّ التفاعل الاجتماعي،
[12] وهو التفاعل الّذي أثبتت "اللّسانيات التداولية واللّسانيات الاجتماعية" أنّه يتجسّد، أساسا، في اللّغة.
وقد بيّن ر.هاري
[13] R. Harry، في دراسة أقامها على بعض المفردات الخاصّة بالعواطف والأحاسيس، أنّ المفردات تستخدم كوسيلة لتحقيق أغراض ضمن النّشاط الإنساني، وبالخصوص لتفسير نشاط الغير، دون أن يشكّل سلوكه ذاك التزاما فرديا، وتفسيرا شخصيّا لظاهرة ما، وقد أثبت أيضا أنّ البنية النحوية، الّتي هي نتاج البنية الفكرية، هي نفسها وسيلة تعكس كيفية تمظُهر التمثّلات الاجتماعية، والدليل على ذلك اختلاف اللّغات في تقسيم الضّمائر، وهذه الفكرة دعّمها برنار بي B. Py بقوله إنّ اللّسانيات أثبتت منذ وقت طويل أنّ البنية المعجمية للغة ما، تلعب دورا هاما في الكيفية الّتي يدرك بها مستعملو هذه اللّغة العالمَ، حيث يضرب لنا مثلا بالتمييز الدّلالي للسويسري النّاطق بالألمانية بين مصطلحي ازدواجي اللغة bilingue
وzureisprachig
[14] الدالين على الناطق المزدوج اللّغة، فهو حينما يستخدم كلمة ازدواجي اللغة، يقصد بها الآخر، وحينما يتحدّث عن نفسه، يستخدم المصطلح الألماني السابق.
[15]