04 يونيو 2013 بقلم
منتصر حمادة قسم:
الدراسات الدينية حجم الخط
-18
+ للنشر:صدر عن المركز الثقافي العربي الدار البيضاء/ بيروت ومؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث" كتاب " تحرير العقل الإسلامي"، للباحث قاسم شعيب، وهو كتاب من الحجم المتوسط (206 صفحة، الطبعة الثانية، 2013)، وقد جاء العمل موزعا على مقدمة ومدخل ("العقل الإسلامي.. هموم التحرير والتنوير") وستة فصول متضمنة العناوين التالية: "النص القرآني.. واستراتيجيات القراءة"، "خارج الحداثة.. صدام السلفية والعلمانية"، "ضلال الإيديولوجيا"، "الإسلام وتحولات الواقع"، "إنسانوية الإسلام"، "ضد هيغل.. جبر التاريخ أم فاعلية الإنسان". يرى في تمهيد الكتاب أن عقلنا الإسلامي لم يكن في حاجة إلى التحرر من قيود التاريخ وعصبيات المجتمع وزيف الساسة وفساد الواقع كما هي حاجته اليوم، بحيث إننا أمام عقل يدعي الانتماء إلى الاسلام، لكنه في العمق يبتعد عنه قليلاً أو كثيراً في مبادئه وأحكامه ومفاهيمه، ولعل الفتاوى والأفكار التي تلتبس بالإسلام وتصل إلى حد التناقض لا تعبر عن تنوع وغنى في الفكر الإسلامي بقدر ما تعبر عن كثافة التشويه الذي لحق بالإسلام حتى أنه أصبح من اليسير التشريع للفساد السياسي والانحراف الأخلاقي والانحطاط القيمي باسمه، مضيفا أنه عندما يتجمد عقل الإنسان، يصبح مجرد تابع مقلد مستلب عديم الفعل والإنجاز، ومثل هذا الاختلاف لا يعبر عن عقل مفكر يريد مقاومة خور الذات ونكوصها، ولكنه يعبّر عن عقل متخشب يقدس الحجر والشجر والبشر، ويميل إلى احتقار الذات والإقرار بعجزها الدائم .ولعل مشكلة أكثر المسلمين هي تجميدهم لحركة العقل بدعوى أن ما في كتاب الله وسنة رسوله ما يغني عن العقل، وهو ما أنتج على مستوى الواقع مجموعات من الحروفيين والنصيين، لقد كان الخوارج من هذا النمط، ونضيف مع هؤلاء التيار السلفي، أو التيار الذي يصفه المؤلف بالنصيين، ممن يغفلون عن جملة من الحقائق الجوهرية، أهمها أن القرآن لم يأت بديلاً عن العقل بقدر ما جاء هادياً له ومرشداً، فمثل العقل والقرآن كمثل البصر والضياء، فالعين لا يمكنها أن تبصر دون ضياء، ملاحظا أن مشكلة النصيين في هذا الزمان أكثر بؤساً من تلك التي كان يعانيها النصيون الأوائل، على الأقل مع هؤلاء ـ يقصد الأوائل ـ كانوا يتعاملون مع النص بشكل مباشر، أما هؤلاء فإنهم مجرد تابعين لهم في نصيتهم، ويبقى القاسم المشترك بينهما غياب القراءة العقلانية والعلمية للنص، وإلغاء أية أبعاد اجتماعية أو معرفية أو تاريخية أو سياسية في فهمه.
من الفصل الأول المخصص لاستراتيجيات قراءة النصوص القرآنية، نقرأ للمؤلف أنه لا مشكل في تعدد القراءات بما أن النص ذاته يترك مناطق خاصة للمتلقي يسهم من خلالها في استخلاص الدلالة لا من حيث كونه مبدعا كما هو ادعاء التفكيكيين، بل من حيث إن منتج النص يتعمد ذلك حتى يجد المتلقي لذة القراءة، مضيفا أن الربط بين النص العادي والحالة النفسية أو الاجتماعية لكاتبه ممكن ولكن ذلك لا يمكن أن يكون مطلقا لأنه ليس دائما تتدخل الحالات الخاصة لمبدع النص في توجيه نصه، لولا أن هذا الربط ملغى فيما يخص النص القرآني أو الروائي الصحيح لأن كلام الله بكماله وجلاله منزه عن مثل هذه الحالات، ولأن النبي أو المعصوم منزه عن أية خلفيات ذاتية أو عقد نفسية.
ومن الفصل الثاني المخصص لموضوع الصدام بين السلفية والعلمانية، يتوقف المؤلف مليا مع مشروع الراحل محمد أركون، معتبرا أن مشكلته كانت مزدوجة، فهو لا يرى في الحداثة الغربية سوى دين عالمي جديد قدرنا الانخراط فيه فكرا وسلوكا علما وتقنية دون أي محاولة لنقد هده الحداثة، أما الإسلام، فهو في نظره كان يمثل حداثة عصره، أما اليوم، فإنه لا يمكن أن يكون حديثا. ومن الواضح ـ يضيف قاسم شعيب. أن أركون يفهم الإسلام فهما ستاتيكيا جامدا، فهو لا يتمكن من فهمه إلا من خلال الرؤى السلفية المتخشبة، وهي في الحقيقة مشكلة أخرى يعاني منها بعض أنصار الحداثة، ومعتبرا أن سؤال من أين نبدأ من الإسلام أم من الحداثة؟ سؤال خاطئ جوهريا، لأن هذه البداية لا بد أن تنطلق من الذات من أجل تنظيفها من جهلها وتعصبها وجمودها، ولا يجب أن تكون البداية من خارج الذات لأن ذلك لن يكون إلا تجاهلا للمضامين الفاسدة والمغشوشة للذات العربية. "ضلال الإيديولوجيا" هو عنوان الفصل الثالث، حيث لا يخرج الخيار الأمثل حسب المؤلف في معرض تقييم الخطابات الإيديولوجية، عن تبني الحوار بين الاتجاهات الفكرية المختلفة، بما يستدعي أولا الشك في الإيديولوجيا ونقد مكوناتها، حتى لا يتحول إلى مجرد شعار، كما يستدعي الاعتراف بحق الآخر في التفكير بالطريقة التي يشاء، والإيمان بالعقيدة التي يريد، وبعكس الخطابات التكفيرية، [وهذا ينطبق خصوصا على بعض الفصائل المتشددة في تيار "السلفية الجهادية"]، معتبرا أن ممارسة الأنبياء كما يقدمها القرآن كانت تنطلق دائما من احترام المقابل في إنسانيته، وهم لذلك كانوا يخاطبون الجميع بـ"يا أيها الناس" وليس "يا أيها الكافرون"، لأن الاعتراف للطرف المقابل بإنسانيته يقربنا منه.
في الفصل الرابع، نرتحل مع قلاقل مفهوم التاريخانية، كما نطلع على ذلك في العناوين الفرعية لهذا الفصل، وجاءت كالتالي: " معنى التاريخية، نزعة التوقيف، البحث عن مخرج، تجديد علم الأصول، فقه مجتمعي " منددا بتغيب أبواب فقهية كثيرة تهتم بسلوك الدولة تجاه مواطنيها وسلوك المؤسسات الاقتصادية والثقافية والتنظيمات السياسية والسلوكيات البيئية وما إلى ذلك، بما يتطلب إعادة النظر بشكل ملح في المنهج الاستنباطي، وفتح المجال من أجل صياغة علم أصول جديد يكون قادرا على استيعاب التحولات العميقة في طرائق التفكير وموضوعات الأحكام.
أما الفصل الخامس، وأحد أهم فصول الكتاب، مادام يتطرق لـ"إنسانوية الإسلام"، فقد خصص المؤلف حيزا كبيرا لنقد الحتمية التاريخية وتأكيد الفاعلية الإنسانية معتبرا أن الإنسان عندما يكتشف القوانين التي تحرك التاريخ من خلال علم التاريخ وفلسفته، ويتمكن من معرفة العوامل التاريخية التي تؤثر في صياغة فكر الإنسان ومشاعره وقيمه، يمكنه بذلك كله أن يحطم سجن التاريخ ويصنع بنفسه هذا التاريخ، ليستنتج أن مسيرة التاريخ ليست خطية مرسومة بشكل مسبق دون استشارة الإنسان، بل إن الإنسان هو من يرسم خط التاريخ سموا وانحطاطا.
وعلى صعيد آخر، يُثير المؤلف انتباه القارئ كيفأن الإرادة الإنسانية الهادفة لا يمكن تصورها بدون الأخلاق؛ معتبرا أنه من قبيل البداهة أن الإنسان بلا أخلاق يُعد إنسانا عنيفا فاسدا ومستبدا، لأن الأخلاق هي وحدها التي تعطي الإنسان الإرادة التي يتمكن بها من التحكم في أهوائه ورغباته وإنصاف الآخرين، كما أن الأخلاق المؤسسة على الإيمان الصحيح هي التي تمنع من انحدار الإنسان إلى وهدة الانحطاط. على أن أهم ما جاء في هذا الفصل، من وجهة نظرنا، الرسالة التي يوجهها المؤلف إلى المثقفين والعلماء، واعتبر أن هؤلاء مطالبون بالخروج من سراديبهم من أجل أن يقتربوا أكثر من الناس ليساعدوهم على محاربة عناصر التخلف عندهم كما هو الجهل وذهنية الخرافة واللامبالاة وضعف الإرادة، قبل أن يخلصَ إلى أن الفكر الذي لا يخدم الإنسان هو مجرد ترف لا قيمة له، ولا يختلف الأمر مهما اختلف عنوان هذا الفكر كلاما أم تفلسفا، منطقا أم أصولا، عرفانا أم تصوفا، إسلاما أم كفرا، مادية أم مثالية، ديمقراطية أم استبدادا.. فكل تلك المقولات القديمة: الفن من أجل الفن، والدين من أجل الدين، والفلسفة من أجل الفلسفة، والعلم من أجل العلم، كلها أصبحت مقولات فارغة تنطلق من ذهنيات مترفة لا قيمة عندها للإنسان.
نختتم هذا العرض الأولي في هذا الكتاب النوعي بالتعريج على ما جاء في الفصل السادس والأخير، وجاء عنوانه كالتالي: "ضد هيغل.. جبر التاريخ أم فاعلية الإنسان"، متضمنا العناوين الفرعية التالية: الكشف الخلدوني، الموضوعية في فلسفة التاريخ، تأليه التاريخ، فاعلية الإنسان، وأخيرا، عوامل النهضة. يلاحظ المؤلف في هذا الصدد أن القرآن يعطي الناس الدور المركزي في عمليات النهوض، وبدون هذا الدور لا يمكن تحقيق أية نهضة، فالناس هم الكتلة المؤثرة التي يؤدي إهمالها، وممارسة الإقصاء والاستبعاد ضدها إلى فشل أية مشاريع نهضوية، وبالنتيجة، يمكن الجزم مع المؤلف أن الإسلام بهذا المعنى أول مدرسة تعطي للناس بشكل واضح الدور المركزي في بناء الحضارة، ولذلك فإن العرب ـ إن أرادوا لأنفسهم فلاحا ـ مدعوون إلى إعطاء الناس دورهم في أية عملية نهضوية، وبدون هذا الدور سوف تفشل كل المشاريع التي تدعي النهضة كما فشلت مشاريع كثيرة سابقة.
وأخيرا، ينتقل المؤلف إلى أدوار أو محددات أخرى موازية لمحدد/ دور الناس/ لنقل، أنه ثمة عوامل أو محددات موازية مؤثرة في عمليات التغيير وبناء الحضارات، وبدونها لا يمكن إنجاز أي شيء، وهي القيادة الفكرية والسياسية الواعية والعارفة بقوانين حركة التاريخ، لنصبح في نهاية المطاف أمام عناصر لا بد أن تتفاعل فيما بينها لتحقيق النهضة وهي: "الناس، والقيادة، ومعرفة قوانين التغيير، ووجود القيم المنشودة، " وبدون هذا التفاعل بين هذه العناصر لا يمكن إنجاز شيء.