أضواء خافتة تغمر المكان،
لوحات فنية كثيرة معلّقة على الحوائط، بدت كأشباح تمد ألسنتها لتلعق ثباتي
الواهن، تقدمت خطوات بطيئة وثقيلة، كأنني ذاهبة إلى موتي، تستقبلني أصوات
مزعجة، ولا أحد يدلني على المكان، الأنوار خافتة، تشعرني بالضيق أكثر من
الأصوات المزعجة، الواضحة، شعرت بدّقات قلبي تخترق الجدران واللوحات
المعلقة عليه، حاولت أن أبدو أكثر هدوءاً، لكن اضطرابي من المنتظر؛ غلب
قدرتي على الثبات،
إنها أنا/هي. الآن تذهب إلى ماضيها بكل إرادتها، يرافقها الخوف الممزوج
برغبتها في تفقد موتاها واستدعاء محاسنهم ومساوئهم في معالم طريق روحها،
التي اعوّجت وانبجست مئات المرات في حربها الشرسة ضده. يشبه عمرها هذه
اللوحات الفنية المعلقة على جدار بدأت ترشح منه آلام العمر المزمنة. فيها
ما يبهر وكثيرها لا يمكن تفسيره. هل كانت فنانة لوحاتها أم أنها كانت مجرد
مقتنية لها لا أكثر. تنغمر الأسئلة مٌرّة ولاذعة وهي تفك أزار العمر عن
عريه الحقيقي في جماله وتشوّهه . تحاول أن تلملم أطراف المشاهد الموّجعة من
أطراف الغياب، الحرمان الممزوج بالأمل؛ الفقد المرهون بالولادة؛ والعشق
المتيّم بعوالم سحرية أدركت متأخراً أنها لا تتحقق؛ وأصدقاء ذهبوا كل إلى
غيابه، غير آبهين بتركة الحنين الموجع التي تركوها في قلبها. تمعنت في
لوحاتها، تتبعت كيمياء الروح وهي تدلق بعضاً من ألقها وألمها لتتحول إلى
أيقونة معلّقة على جدار أو مخفّية في جوارير تزورها في مواسم الغياب ، فبان
لها الرحيل وهو يسوق قطيع أمنياته نحو بلادٍ غير مخطط لها. عجنتها بالفراق
والحنين وعيون لا تصاحب سوى غيوم سرعان ما تغيب ليحلّ غيرها في سلاسة
أبهرتها، دون بكاء أو أنين ، إحداها تحل مكان الأخرى ، وبصمتٍ ينبئ عن
ترفعٍ لم تتقصده.
السماء والغيوم وأصوات حشرات الليل وجهاز الراديو وأوراق وقلم وعتمة محببة،
أصحاب المنفى والعمر المنتظر . دارت الدنيا دورة متعبة لا كمال فيها ولا
متعة، خطفت معها سر قوتها وضعفها وأوقعتها في أسر الانتظار ورضا امرأة
ميتة، كانت أمها وشبيهة روحها وكسرة عينها أمام الله والروح.
تطبق اللوحات على صدري غير المنتعش بذكريات أرهقته، الأضواء الخافتة تراود
الروح عن استسلامها المؤكد لشرك الغياب، ضجيج الخارج يجترح مأتم الروح
باستفزاز متوقع، لا يجوز معه اعتراض أو تأفف، القلب يخوض غمار حربه الصامتة
في وحدة مفرطة في تراجيديتها، لكنه الليل وأفاعيله مصحوباً بكآبة لم تعد
طارئة في الآونة الأخيرة وأنا كالمسلوبة أمام عشقٍ حزين الدلالة، لا أدرك
إلى أية هاويةٍ انتهيت، أتنقّل على غير هدى من روحي، أجوب عتبات الحنين دون
ارتواء، أقلّب العالم بين يدّي فلا أعثر على موطيء قدم لي، أخوض حروباً
تنتهي بالخسارة دائماً، فأزوي إلى ألمي سنيناً عجافاً، أرتق ما وهن من شؤون
القلب فلا أفلح أيضاً، وكأنّ الحياة غريمتي، ولا مفر من الرضوخ لسطوتها،
أعاند جراحي مرات كثيرة فأتلّقى مزيداً منها. أجرجر خفّي الخيبة بألفة
مفرطة فأستسلم لجرحي غير عابئة بقوائم الأمنيات التي تنقص. أقرأ كتباً
للغياب وأكتب نصوصاً لا تأمل في قراءة مغايرة.
أعيش موتي كما يجب أن أكون، خارج الذات وخارج العالم وفي قرقعة الذكريات
إلى غير حين
السبت مايو 29, 2010 11:06 am من طرف هشام مزيان