حيث
يستهوي أسلوب جبران الآخرين يصيبني شخصيّاً بالضيق، ولا أرتاح إليه إلّا
في نتاجه غير المعروف كثيراً. مثل رسائله إلى ماري هاسكل ومي زيادة
وميخائيل نعيمة وسواهم، أو أجوبته إلى الصحافة عن أسئلة محدّدة.
كنتُ أعيد مطالعة ردّ جبران “نابغة المهجر” حسب تلقيب “الهلال” على
استفتاء أجرته المجلّة المصريّة عام 1920 مع مجموعة من الكتّاب حول مستقبل
اللغة العربيّة (أعادت دار الحمراء طبع الاستفتاء، بالإضافة إلى موضوعات
أخرى ذات صلة، تحت عنوان “نجاح الأمّة العربيّة في لغتها الأصليّة” من
إعداد الدكتور يوسف قزما خوري). يقع الردّ في أكثر من خمس صفحات (نشرته
“الهلال” في عددها الثامن والعشرين) ويتضمّن سبعة أجوبة عن سبعة أسئلة إذا
أعيد نشرها اليوم (أو غداً) تكون في محلّها تماماً وليس عليها تجعيدة
وتُقرأ بشغف لا لمضمونها الرائي فحسب، بل لأسلوبها النابض واشتداد عصبها
وتدفّق الكلام تدفّق الشلّال، خلافاً لمسحة النعاس التي تغشى لغته في
التأمّل والمناجاة. لا أريد الاستشهاد بمقاطع هنا لأن أي اجتزاء سيُنقص
المبتغى وينحرف به. يكفي القارئ العودة إلى الكتب المحتوية على رسائله،
ومن أهمّها كتاب توفيق صايغ “أضواء جديدة على جبران” حيث الترجمة العربيّة
للرسائل المتبادلة بينه وبين ماري هاسكل، ليرى الفرق بين كتابة جبران
“المطلقة” وكتابته “التاريخيّة”، في الأولى يُغيّم ويهيم ويستلقي في طيّات
روحه كأنه يحاكي نفسه في سكون عزلة سرمديّة، وفي الثانية يراوح بين
التهويم والسير على الأرض، يتجسَّد، يتشخصن، يغدو في متناول التعاطف
اليومي إلى حدّ ما، “يتحرّك”.
إذا أخذنا بالتصنيف الطَبْعي أو المزاجي ربّما أمكن اعتبار جبران من فئة
الصدريين، أو الرئويّين، وأمكن بالتالي إسقاط سيطرة الرئتين على أسلوبه،
حيث ندخل في مناخ مزيج من السلاسة والكآبة، من الشفافية والتكرار، من
الخريف الثائر على نفسه والأعماق المستلذّة بالالتفاف بعضها تحت بعض،
كأمواج، عوضَ أن تقفز صعوداً، تغوص نزولاً حتّى التلاشي.
لا أدّعي بهذه الكلمات الإحاطة بلغة جبران، أوّل المُحْدثين والذي لا تزال
لغته إحدى أمّهات لغات الحداثة، لكنّها محاولة سطحيّة وسريعة لملاحظة هذا
الفرق بين كتب كـ”الأجنحة المتكسّرة” و”دمعة وابتسامة” و”العواصف”
و”النبي”، ومراسلاته ومجادلاته الصحافيّة، كما في مناظرته مع أمين
الغريّب. هنا نشعر بسخونة أعصابه وإشعاع عينيه وهناك يسحقنا صوتٌ آتٍ
دوماً من علياء الوحي ومن عرش الحقيقة. إنّ ما يضايق في لغته “المطلقة”،
كالمبالغة في الوعظ والأمثال والكناية والاستعارة والمجاز والرموز، يتخفّف
حتّى الحدود القصوى في نثره “التاريخي”، والتكرار نفسه هنا لا يعود مملّاً
لأنّه “حيويّ” غير “سكوني”، والتوتّر يدخل تلقائيّاً بفضل التحاور، وفي
الرسائل ينضاف النَزَق إلى رشاقة الأسلوب، الرشاقة التي، على رقراقيّتها
في النثر “المطلق”، كثيراً ما تفتقر إلى التنوّع وغالباً ما تنداح
تموّجاتها كالزيت.
إن عبارةً مثل “في نفسي المظلمة كواكب ملتمعة ينثرها الوجد عند المساء”،
أو “أنا غريبٌ في هذا العالم، أنا غريب وفي الغرابة وحدة قاسية ووحشة
موجعة”، أو “في قلبي الرقيب قمر يسعى تارةً في فضاء متلبّد بالغيوم وطوراً
في خلاء مفعم بمواكب الأحلام”، قد تُعجِب أو تُسْكر على مدى صفحتين أو
ثلاث من كتاب، لكنّها إذا ملأت الصفحات بل الكتب أحدثت في النفس شعوراً
بالرتابة والضيق لا يُحتمَل.
الفرق بين أمثاله ورموزه وبين أسلوب الكتاب المقدّس أن أسلوبه الوعظي
مونولوغي وأساليب الكتاب المقدّس ريادية افتتاحيّة تنبض وتتفجّر أعتى من
الصواعق. حتى نيتشه في “هكذا تكلم
زرادشت ” الذي تأثّر به جبران بين 1908 و1910 خلال إقامته في باريس، لم يستطع
تجنّب فخ جمود الإرشاد الإصلاحي، وهذا الضعف وقع فيه جميع الأدباء
والمفكرين ممّن اعتبروا أنفسهم أنبياء وتخيّلوا أمامهم شعباً يستسئلون
أنفسهم أمامه ويبشّرونه بـ”الحقيقة”. أحدهم أندريه جيد في كتابه “الأغذية
الأرضيّة”. اللهجة الإصلاحيّة منوّمة، وإنْ سلكت نهج “الإفساد”، أو الثورة
على الأديان والأعراف كما عند نيتشه وقبله الماركي دو ساد. التوجيه
“الإفسادي” يُغري بنضارة صدمته، ومع هذا لا يلبث أن يقع في الرتابة.
فالمشكلة ليست في محتوى التوجيه، بل في أسلوبه. ما إن يقف “معلّم” فوق
منبر حتّى تنتصب العصا وراء ألفاظه. كلّهم، مهما اتّسعت آفاقهم، يريدون
شيئاً من حريّاتنا. ما ينقذ الكتاب المقدّس من هذه الآفة هو أنّه تارة
يظهر لكَ ممتلكاً الحقيقة وطوراً يفقدها. يبسط أمامك بحاراً من التيه إلى
جانب مروج الهداية. وأنبياؤه شعراء متهتّكون أو فاضلون، أنت وحظّك،
والإنسان هنا يتقلّب بين البهيمة والقدّيس وبين الزنديق والبارّ. القداسة
في الكتاب المقدّس منبعها الواقع البشري في لانهائيّة تنوّعه وفي “تطوّر”
الله. قداسة الصدق والعري كما هي قداسة الجهل والأسرار. وحين نصل إلى
العهد الجديد لا تنختم الأزمان ولا حتّى العهد القديم، بل تتكامل ويفضي
العهد الأخير مع رؤيا يوحنا إلى عتبات توقّع أزمان أخرى. تيّار الحياة
يهدر باستمرار وليس هناك حقيقة واحدة جامدة معلّقة على حائط الخلود.
والمسيح لم يكتب إرشاداته، بل حكى وارتجل وحاور ونوقش وناقش وغضب وحَنَّ
وضَعُف وخاف. وأفضل الأناجيل في هذا المعنى ليس إنجيل يوحنا، اللاهوتي
الفيلسوف، بل أناجيل متّى ولوقا ومرقس البسيطة الناقلة كالريبورتاج،
المائجة مع الأحداث الواثبة الحافلة بالمفاجآت وأصوات الأبواب تُفْتح تلو
الأبواب. الكلام هنا يخضّ خضّاً وإذا أصابه ملل حيناً فهو أشبه باستراحة
بين عاصفتين.
أردتُ من هذه الكلمة لفت النظر إلى ناحية من جبران لم يُشبعها الدرس هي
شخصيته عَبْر مراسلاته ونشاطاته الصحافيّة، ومقارنة هذه الشخصيّة بتلك
التي تتراءى عَبْر كتاباته الوجدانيّة المُطْلَقَة. لعلّ النقد يحاذر،
أيضاً، تحنيط التعامل مع جبران ويكسر أكثر فأكثر نهج التقديس الذي غالباً
ما أحاط ويحيط بالكلام عليه.
آخر تحديث ( الثلاثاء, 18 أكتوبر 2011 09:08 )
كاتب هذا المقال:
رئيس التحريرمقالات أخرى للكاتب