2011-11-26 من مواقف الفكر التنويري رسالة طه حسين الى الملك
|
| |
وأنا
أعيد قراءة بعض أعمال الدكتور طه حسين، وبعض ما كُتِبَ عنه، في ذكرى
وفاته، كما اعتدتُ أن أفعل مع كل الذين لهم مكانة خاصة في نفسي، أثارتني
رسالته التي كان وجَّهها للملك فاروق، في فبراير من العام 1947، وهي رسالة
مفتوحة، نشرها العميد في أحد أعداد مجلة الهلال، بعنوان ‘ قلب مغلق’، وهو
يعني، طبعاً قلب الملك.
كان سياق الرسالة هو ما آل إليه الوضع الاجتماعي لمصر من قهر سياسي
واجتماعي، وسَعْي الملك، آنذاك، للهيمنة على الحياة النيابية، وتوسيع
سلطاته، بوضع يده على كل ما يتعلق بأمور الحُكم، وأجهزة الدولة المختلفة،
إضافةً إلى ما أصبح عليه الملك من عزلة عن الشعب، ومن ابتعاد عن الحياة
العامة بما فرضه على نفسه من حُجُبٍ وأستار، فالملك بتعبير طه حسين؛ كان
مشغولاً بنفسه، حتى يئس الناس منه، وأعرضوا عنه، فلم يعد يطمع منهم فيه
أحد.
كان هذا الإعراض والانشغال عن حياة الناس، والابتعاد عن مشاكلهم، وما
يصيبهم من ظلم ومن يأسٍ، هو ما ذهبت إليه الرسالة، التي كان المخاطب فيها
هو الملك، أو قلب الملك، الذي هو ضميره ومسؤولياته التي لم يعد يقوم بها
تُجاه شعبه، أو تجاه ما يفرضه عليه واجبه كحاكم، أو كملك، مَصالِحُ الناس
في يده، ورهينة بما يمكن أن يتّخذه من قراراتٍ.
لم يكن الملك، من منظور الرسالة يهتم بما يجري حولَه، ولم يكن يستمع
لشكاوى الناس، أو يُزيل عنهم بعض العبء، أو ضَنَكَ العيش، أو يعلن تضامنه
معهم. لا شيء من هذا كان، والملك منصرف عن مهامه، مشغول بغير ما يشغل
الناس، وله حياةٌ أخرى، هي غير حياة هؤلاء الذين يرزحون تحت أعباء الضيم
والفقر والبؤس والحاجة.
فالملك، أصبح كالسراب، لا يبلغه أحد من مواطنيه، أو كما يقول طه حسين ‘
وإذا أنت سراب يحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ووجد عنده
الحزن واليأس وخيبة الأمل وكذب الرجاء ‘.
والمثير في علاقة الناس بالملك، أنَّ هؤلاء كانوا على علم بثراء الملك،
وما يعيش فيه من بذخ ورفاه وغنى، وما كان يعقده حول نفسه من طوقٍ، كان
يزيد الناس حَنَقاً وحقداً عليه.
فَهُم حين يلتمسونه، لا يجدوه، يفقدونه ‘ حين تُظْلِم البأساء ‘، أو هو ‘ أبعد الناس عنهم يُغْلِظ العيش، ويعظم البأس ‘.
كانت رسالة طه حسين قاسيةً على الملك، بالقدر الذي كان به الملك قاسياً
على شعبه، يعيش منشغلاً عنهم بلذاته ونزواته، وما راكمه من ثرواتٍ. وكانت،
في الآن ذاته، رسالة تحذير من المصير الذي قد يحدق بالملك، إذا هو لم يخرج
من هذا الصمت القاتل، الذي قد يصير وَبَالاً عليه وعلى حكمه؛ ‘ وهل علمتَ
أن قلبك مهما يكن حظه من الصلابة والصلادة ومن الإصمات والقسوة، لن يستطيع
أن يقاوم الأحداث، ولا أن يثبت للخطوب … وإن ساعة من الدهر تأتي على هذه
القلوب الصلبة الصلدة فتذيبها، أو تحيلها هباءً تذروه الرياح … وهذه
الساعة آتية عليك وعلى قلبك فذاهبة بك وبقلبك إلى حيث يذهب الناس ثم لا
يرجعون ‘.
لم يكن طه حسين مُهادِناً في الرسالة، ولا مُراوغاً، فهو توجَّه إلى الملك
مباشـرةً، وفضح ما يجري، ليس في علاقة الملك بالشعب، وفي إهماله لأمور
الناس، ولما يعانونه من يأس وبؤس، بل إنه اتَّجَه إلى نفس الملك، وإلى ما
يعيشه هو من رخاء، في ما الناس يعانون من انتشار وباء الكوليرا، التي كان
اجتاح مصر في العام
نفسه، وكان الاحتلال الإنجليزي ما يزال يتلكأ في ترك البلاد كاملةً
لأصحابها. فهو باعتباره مثقفاً، كان يرى أن الوضع يقتضي أن يتدخَّل ليقول
كلمته، وأن يخاطب الملك بهذه الطريقة، رغم خطابه له من قبل، في سياق آخر،
باحترام وتقدير. فالوضع لم يعد يقبل مزيداً من الصمت، ولا مزيداً من
المساومات، أو التمجيد الذي لا داعِيَ له.
لم يكن طه حسين فقط، كاتباً يشغله الأدب والتاريخ، فهو، رغم ما تثيره
تقلُّباتُه السياسية، وانتقاله بين عدد من الأحزاب، وبعض مواقفه التي ما
تزال مثار نقاش وخلاف، كان بين الذين آلَوْا على نفسهم أن يحملوا إلى جانب
عبء الكتابة والتفكير، عِبْءَ الحياة العامة، وأن يكونوا مراقبين لما يجري
في الواقع، أو في حياة الناس اليومية.
لعل في استحضار هذه المرحلة، وفي استحضار مثقفيها، من أمثال طه حسين وغيره
من أفراد جيله، ما يمكنه أن يكشف عن الدور الذي كان يلعبه المثقف في
الانتصار للشعب، ولمصالح الشعب. وحتى عندما كان بعض هؤلاء، ومنهم طه حسين،
يتحملون مسؤوليات في بعض مؤسسات الدولة، فهم كانوا يدخلونها بمواقفهم،
وبمشروعاتهم، وكانوا يحرصون على وضع مواقفهم على محك هذه المسؤوليات.
المثير في موقف موقف طه حسين من الملك، وما أحدثته الرسالة من ردود فعل،
هو تعيين طه حسين وزيراً للمعارف [التعليم]، في حكومة الوفد، بعد مرور
ثلاث سنوات على كتابة رسالته للملك.
كان جواب طه حسين، لمن نظروا إلى الأمر باستخفافٍ وتَنَذُّرٍ، أو ممن
حرصوا على تكريس التقليد، وتثبيت الفكر السلفي، هو حرصه على تعميم التعليم
ومجانيته، وهو ما اختزله في شعاره الشهير ‘ التعليم كالماء والهواء ‘، وفي
دعوته لديمقراطية التعليم، واستقلال الجامعة.
لم يكن وزيراً بدون مشروع، أو وزيراً يُنَفِّذ الأوامر، فهو حين قبل
بالوزارة، كان يعرف ما سيفعله، وكان على استعداد للتراجع، إذا ما رأى أن
مشروعه غير قابل للتنفيذ، أو أن الوزارة تتعارض مع أفكاره وطموحاته
الثقافية والفكرية، ومع رغبته في التغيير، وفي تكريس الفكر الحداثة
والتنوير.
لا يمكن لأي كان أن ينكر الدور الذي لعبه طه حسين في خدمة التعليم، وفي
إعادة النظر في مناهج الدراسة والمقررات المدرسية، حتى قبل أن يصير وزيراً
للمعارف،وما قام به من إصلاح في الجامعة، والأثر الكبير الذي تركه في
الحياة العلمية والفكرية العامة، والصراعات التي خاضها مع المؤسسات
التقليدية التي وقفت ضد مشروعاته التنويرية.
لم يكن مشروعه يكتفي بالمدرسة أو بالجامعة، بل إنه كان مشروعاً مجتمعياً،
يضع الثقافة والتكوين المعرفي، ضمن أولوياته، أو يعتبرها إحدى مقدمات
التنوير.
الرسالة التي كان توجَّه بها للملك، لم تكن بدافع الوصول إلى الوزارة، فهو
دخل إلى الوزارة عن طريق الوفد، وهو كان أحد أعضاء الوفد، وله علاقة
بزعمائه، وهم كانوا يعرفون مواقفه واختياراته، كما خبروا قدرته على النقد
والمواجهة، حتى حين كان على خلاف مع الوفد، كما أن وجوده في الوزارة لم
يكن عبئاً على الوفد، ولم يترك لخصومه، من المثقفين والسياسيين ورجال
الدين، ما يدفعهم لانتقاده، أو لاعتبار رسالته هي من قبيل الرغبة في
الحصول على مكاسب.
في تصوري الشخصي، أن طه حسين، كان ضمن القلائل من المثقفين الذين لم تكن
كتاباتُهم، غير ما يفعلونه. فهو جمع بين الفكر والممارسة، وحتى حين اختار
الليبرالية، فهو كان يعرف حدود الحرية التي ستُتيحها له، وأيضاً حريته في
اختياراته السياسية، قياساً بما كان سائداً من قيود في غيرها من مذاهب.
في الرسالة، كما في الدور الذي قام به في الوزارة، ما يشير إلى الدور
التنويري الذي لعبه ليس في حياة المصريين، بل في الثقافة والفكر العربيين.
لعل في اختيار الفكر الحر، وفي اعتبار النقد أداة تنويرٍ وكشف، ما جعل من
كتابات طه حسين تبقى سارية المفعول، رغم ما يمكن أن نرفضه منها اليوم، أو
ننتقده، أو نعتبره غير مفيد لزمننا أو متجاوزاًن في رؤيته ومفاهيمه، بما
في ذلك ما جاء في كتابه ‘ في الشعر الجاهلي ‘. مازالت بعض كتب العميد
ممنوعة ومصادرة في بعض الجامعات والمدارس العربية، لكن الفكر النقدي الذي
كرَّس له طه حسين حياته، في الفكر كما في السياسة وفي الحياة العامة، كان
بين ما ساهم في خلق أفق فكري جديد، وساهم، بشكل لافتٍ، في رفض
المُسَلَّمَات، واعتبار اليقين، أداةً لا تصمد في مواجهة الشَّك.
كما أن طه حسين، هو نموذج للمثقف الذي، بقدر ما ساهم في الحياة العامة،
وفي العمل السياسي، بشكل مباشر وفعلي، وعمل بالصحافة، فهو حرص على أن يكتب
بوعي نقدي، في مجالات الفكر والأدب، وان يكون مشروعه، شاملاً، أو يُساير
متطلبات ‘ النهضة ‘، التي كان منخرطاً فيها بوعي تاريخي، لم يتوفر
للكثيرين ممن اكتفوا بالكتابة والتأليف خارج هذا النوع من الوعي