2012-08-03 فن التأويل النقدي عن ياوس
|
| |
1921 و توفي سنة 1997 في
كونستانس، هو عالم أدب ألماني، منظر ورائد في الدراسات الرومانية، اهتم
بموضوع الأدب الفرنسي للقرون الوسطى والمعاصر. بدأ دراسته في براغ سنة 1942
بجامعة الرايخ الألمانية. بعدها درس بهايدلبرغ الفيلولوجية الرومانية،
والفلسفة، والتاريخ والدراسات الجرمانية. أصبح سنة 1959 مديراً لقسم
الدراسات الرومانية/ الفرنسية بموُنَسْتَر. وأسس مع فولفجانج إيزرWolfgang
Iser وآخرين مجموعة بحث بعنوان: "الشعر والهرمينوطيقا"، سنة 1963، ثم
انتقل ليدرس في جامعة كونستانس، حيث ألقى محاضرته الافتتاحية سنة 1967
بعنوان: "تاريخ الأدب كتحد لعلم الأدب"، وقدم فيها الخطوط العريضة لنظريته
"جمالية التلقي" (أو ما بات يعرف بمدرسة كونستانس). لقد استعرض فيها
تصوراته في البحث في علم الأدب.
كما حاضر ياوس في جامعات كثيرة بأوروبا وأمريكا، حيث شجع على فهم الآداب
الرومانية من العصور الوسطى حتى العصر الحالي. كما دافع عن استعماله للبعد
الهيرمينوطيقي وقواعده الفلسفية. درس ياوس الفلسفة على يد جادامير Gadamer،
الذي ألهمه استعمال الهرمينوطيقا الفلسفية في الأدب والشعر. لقد اهتم
ياوس، إذن، بالأدب الفرنسي وتاريخه، وكان يكتب ويحاضر بالفرنسية. ومعظم
دروسه التطبيقية كانت فرنسية (عن بروست، وديدرو، وموليير، وبودلير...). وقد
أثارت محاضراته في الستينيات من القرن العشرين الاهتمام حول تاريخ الأدب،
وغياب الاهتمام بتاريخ القراءة للنصوص. واكتشف أفق انتظار الجمهور متأثراً
في ذلك باللسانيات وبالتواصل الأدبي. وقد أطلق مشروعه النظري والمنهجي الذي
يدعو فيه إلى النظر إلى الأدب من زاوية جمالية التلقي؛ أي، تمرس القارئ
وتأثره بذلك. وكنتيجة لهذه العملية تصبح تاريخية الأدب مرتهنة بالعلاقة
الحوارية بين النص والمتلقي. والهدف من ذلك هو الاهتمام بتلقيات القراء
المتعاقبة للنص. وهكذا طرحت جمالية التلقي إبدالاً جديداً على النقد
الغربي، ثم العربي بعد ذلك، وهو الاهتمام بأثر الأدب في القارئ. جمع ياوس
بين الفيلولوجيا، والنقد والفضول العلمي، إلى جانب الرغبة في التأمل
الفلسفي. واتبع في تعامله مع الآداب الرومانية مسالك جديدة، وجعلها مركز
اهتماماته المتعددة. وقد ألف ياوس مجموعة من الكتب نذكر أهمها: أبحاث في
شعر الحيوان بالقرون الوسطى، و الزمن والتذكر في "البحث عن الزمن الضائع"
لمارسيل بروست، ونظرية التلقي، ومسالك الفهم، وكتاب مشاكل الفهم 1.
نشر ياوس آخر كتاب له، في حياته سنة 1994، بعنوان: مسالك الفهم Wege des
Verstehens2 عن دار النشر فينك بميونيخ، وهو كتاب يصنف ضمن مجال الأدب
العام والمقارن والنقد. وعنوان الكتاب: مسالك الفهم، يبعد مشروع ياوس منذ
البداية عن كل هيرمينوطيقا دغمائية. يرى أن الفهم يتم بواسطة طرق مختلفة؛
أي، عن طريق الأسئلة الجديدة أو الأسئلة القديمة المطروحة بشكل مختلف،
وتفتح منافذ جديدة ومتعددة للفهم، (فهم الآخر وفهم النصوص). يسعى مشروع
ياوس، إذن، إلى إثبات العلاقة بين الفهم، والتفسير، والممارسة، وتوحيدها.
ويتعلق الأمر هنا بفهم للآخر وفهم للنصوص؛ وهو فهم لا يسلك مسلكاً واحداً
بالنسبة للجميع، بل يتخذ مسالك متعددة ومختلفة. إن الفهم هنا هو مجموعة من
الأسئلة التي تطرح من جديد وبشكل مختلف، وكل واحد يبحث عن طريق فهمه الخاص،
حيث يجرب مجموعة من العمليات والمسالك.
انبنى محتوى الكتاب على التساؤل المحوري عن أهمية تاريخ المفهوم بالنسبة
لقدرات الفهم. وجاءت مواضيع الكتاب كنتيجة لهرمينوطيقا مفتوحة للنقاش تدعو
إلى اتباع المسالك المقترحة للفهم أو المرور بمسالك أخرى. ويندرج الكتاب
ضمن مجال علم الأدب وعلم اللغة والنقد العام والمقارن، وأيضاً ضمن مجال
الفلسفة والدراسات الألمانية الحديثة. والكتاب عبارة عن مجموعة من المقالات
كتبها ياوس بين سنة 1985 و1993؛ وهي دفاع عن تاريخ الأدب، ثم عن أدب
القرون الوسطى، وعن التجربة الجمالية كذلك. ويدافع ياوس هنا بقوة عن
الهرمينوطيقا الأدبية التي تخلصت من الدغمائية الدينية. فهي بالنسبة إليه
هرمينوطيقا نقدية، متحررة من السلطة، ومن الماضي ومن التقاليد، هي متفتحة
ونسقية.
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء. الجزء الأول، وهو جزء نسقي، يبدأ باستظهار
ذهني لتاريخ مصطلح الفهم، من أجل تبرير جمالية فهم المعنى انطلاقًا منه،
أي فهم الأدب والفن. وعلى هذا النحو أراد ياوس تقديم الهرمينوطيقا للقارئ
على أنها ليست نظرية متقوقعة على نفسها، بل هي نظرية للممارسة والتطبيق.
هكذا يدافع ياوس عن فن التأويل الأدبي، وعن المبدأ الحواري للهرمينوطيقا
الأدبية وللفهم الجمالي الممتد إلى تجربة الحياة، مثل تلقين الدين والحق
والسياسة أو الأخلاق. ويفتح المطلب الجمالي فهم الآخر، لكنها أيضاً تصعبه.
وتدليل هذه الصعوبة وهذه الازدواجية لهذا المطلب الهرمينوطيقي يتجلى في
تكوين القول المأثور الذي يقول: إن فهم كل شيء، يعني الصفح عن كل شيء.tout
comprendre, c’est tout pardonner
والجزء الثاني، جزء تاريخي، يختبر فيه ياوس المنهجية الهرمينوطيقية بسلسلة
من الأمثلة المستوحاة من كتاب Jona3، عن تقليد الطبائع4، وعن دانتيDante ،
وعن شكسبير Shakespeare، وعن إيفيس بونوفوي Yves Bonnefoy (كممثل للشعر
المعاصر) حتى قاموس الخزرج لبافيك Pavic (كخلاصة لمحادثة الدين). ومقالات
هذا القسم هي مجموعة من الأبحاث الأكاديمية كتبت أساساً من أجل مجموعة
البحث في (الشعر والهرمينوطيقا)، حيث أدمج ياوس طرقه في الحوار المتعدد
التخصصات والذي يخدم تجربة مجموعة من مسالك الفهم، اعتماداً على ما جاء به
الفيلسوف هامبولت في إصلاحه الجامعي، الذي دعا إلى تداخل الاختصاصات. ومن
مواضيع هذا الجزء، هرمينوطيقا الغريب، ونظرية الطباع، وقراءة لدانتي وتاريخ
تلقي الملك لير لشكسبير، وأخيراً شعر التذكر عند إيفيس بونوفوي. وقد كتب
ياوس مقالاً مطولاً حول إشكالية غياب الشعور بالهوية الذاتية وغياب الشعور
بوجود فضاء داخلي خاص بالمرء. وقد تتبع ياوس دراسة الموضوع داخل الفكر
اليوناني من زاوية نظرية الطباع وليس من منظور الجسد.
وفي الجزء الأخير النقدي، يوثق ياوس الآراء حول اكتشاف الفردية في عصر
النهضة، من خلال رسم البورتريه حول التفكيكية (بول دو مان Paul de Man)،
حول التاريخانية الجديدةNew Historicism ، وحول عتبة عصر ما بعد الحداثة،
وحول جورج ستاينر George Steiners، وثيولوجية الفن، وحول العلاقة بين
الهرمينوطيقا الأدبية والموسيقية، وأخيراً، و ليس آخراً، حول إصلاح العلوم
الإنسانية. وفي هذا الجزء محاولة من ياوس للإجابة عن أسئلة التأويل الأدبي
في الثقافات الحالية ولاستخراج الأجوبة من وجهة نظر الهرمينوطيقا الأدبية.
وقد ختم ياوس كتابه بمقال يجمع فيه بين التطبيق والنظرية، حول العلوم
الإنسانية وإبدالها في حوار التخصصات.
ويعد ياوس من الكفاءات الأجنبية التي استفاد منها العالم العربي والمغرب
بشكل خاص، وذلك من خلال استقبال أعماله التي تصب في مجال إصلاح العلوم
الإنسانية مباشرة وبواسطة الترجمة، وقد زار مدينة فاس والرباط، عام 1994،
وألقى محاضرتين عن فن التأويلية الأدبية. ويعتبر ياوس من أوائل المدافعين
عن فن التأويل الأدبي الذي يتجاوز دغمائية النص الكنسي، وينفتح على مسالك
مختلفة للفهم. وقد جاءت شهرة ياوس وأهميته أيضاً من خلال نظريته (جمالية
التلقي).
ونظراً لأهمية ياوس وأهمية كتابه الأخير مسالك الفهم، فإنني أشير إلى أهمية
المقال الأخير منه، الخاص بالعلوم الإنسانية وأهميتها، وهو بعنوان:
"نموذجية العلوم الإنسانية في حوار التخصصات"5. لقد عمل ياوس جاهداً على
تجديد العلوم الإنسانية والتزم بروح معرفة حوارية، متداخلة الاختصاصات
ومتجاوزة لحدود الفروع. فتصورات ياوس تهم القارئ وقدراته المعرفية، كما تهم
التجربة الجمالية ذات السياقات المعقدة. وقد طرح ياوس في أعماله الأخيرة
أسئلة مركزية ومحورية عن مجال الجمالية التاريخانية والأخلاق. والتزم بحوار
العلوم الإنسانية والدفاع عنها، فظهرت سنة 1991 مذكرته العلوم الإنسانية
اليوم6، ضمنها مقالته المطولة "نموذجية العلوم الانسانية في حوار
التخصصات"، وهذه المقالة نشرها في كتابه مسالك الفهم سنة 1994.
تكمن أهمية هذا الفصل من الكتاب أولاً، في أن ياوس اعتمد فيه على ما جاء به
إصلاح هامبولت الجامعي. وهو إصلاح طالب فيه هذا الفيلسوف الألماني
باستقلالية البحث العلمي ودمجه مع الدرس العادي. وقامت فكرته على الوحدة
والترابط والتكامل بين البحث العلمي والتعليم. وثانياً، في دعوة ياوس إلى
إعادة تعريف العلوم الإنسانية كعلوم للثقافة بامتياز، من خلال تجديد
الوظائف الثلاث لها: فهي عابرة لحدود التخصصات، ومتكاملة، وحوارية. وعمل
على تفعيلها، أي تجديد العلوم الإنسانية وخلق روح الحوار المتجاوز لحدود
التخصصات، في إبدال جديد للنظرية الحديثة للعلوم الإنسانية من خلال التعرف
على تاريخانية وكيفية تشكل العلوم الإنسانية الألمانية بالمقارنة مع العلوم
الإنسانية الأخرى. وقد خصصت وزارة التعليم والبحث العلمي بألمانيا سنة
2007، سنة للعلوم الإنسانية7 (أو العلوم الطرية)، بعدما كانت تحتفي فقط
بالعلوم البحتة. وكتب عالم الاجتماع الألماني وأستاذ علوم الفلسفة في جامعة
جوته بفرنكفورت، هارالد فيلتسرHarald Welzer مقالاً هاماًً يدعو فيه إلى
التوقف عن نعت العلوم الإنسانية بأنها عديمة الفائدة. وكان عنوان المقال هو
: "لماذا نحتاج إلى العلوم الإنسانية؟"8.
وقد عرفت الساحة الجامعية المغربية، بدورها، نقاشاً أكاديمياً في السنين
الأخيرة، يتعلق بإشكالات العلوم الإنسانية والحديث عن أزمتها وأزمة وجودها.
وقد احتضنت كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، أكدال، ندوة علمية،
سجل فيها المشاركون تأخر المغرب في مجال البحث العلمي فيما يخص علوم
الإنسان وعلم الاجتماع9، واقترحت تصورات جديدة هامة. ويمكن القول أخيراً،
إن هذا الكتاب يفتح أفاقا ًللبحث في العلوم الإنسانية في الجامعة المغربية
والعربية كذلك، ويغني النقاش عنها وعن حقيقة أزمتها وعن دور المدرسة ودور
وسائل الإعلام في تشجيع البحث فيها وعرض نتائجها على الجمهور