2012-08-14 الجسد مبدأ تواصل مع الآخرين
|
| |
يكتسي موضوع الجسد لدى ميرلوبونتي
أهمية بالغة لمدى معالجته للموضوع من جوانب عدة بداية من الادراك الحسي و
الرؤية مرورا بالحركة و النزعة الجنسية فقد أعطى للجسد دورا هاما لتجاوز
الطرح الفلسفي الكلاسيكي الذي ترك مشكلة تعارض الفكر و المادة، من خلال
معظم مؤلفاته، حيث يرى أن اتحاد النفس و الجسد يتم في كل لحضة أثناء حركة
الوجود ، وعلى هذا الأساس فإن الكوجيتو عند ميرلوبونتي هو الذي يعترف بأن
فكرتي هي واقع لا يقبل التصرف، ويلغي أي شكل من أشكال المثالية،
ويُمَكِّنني من اكتشاف نفسي ككائن في العالم . وإذا كان سارتر Jean Paul
Sartre(1905-1980) بقي أسيرا لثنائية الوجود في ذاته والوجود لذاته L’être
Pour soi et L’être en soi فإن تجربة ميرلوبونتي تذهب إلى القول بجنس ثالث
من أجناس الوجود، غاب أيضا عن الكوجيتو الديكارتي الذي عجز في حل العلاقة
القائمة بين الإنسان والعالم.
هذا الجسد الذي عادة ما يُفهم بأنه بؤرة تناقض و موطن التباس و كل مقاربة
له ينتج عنها اختيار فلسفي و حتى ديني. و هكذا تتأرجح هذه المقاربة بين
الإدانة أو التشهير بالجسد كحجاب و عقبة و سجن و ثقل و قبر ، بإيجاز كموضوع
استلاب و قسر ، و بين تعظيم الجسد و تقريظه كجهاز استمتاع و أداة متعددة
الوظائف للعلاقات الاجتماعية ، بإيجاز كوسيلة للتحرر الفردي و الجماعي . و
في مختصر لأبعاد الظاهرة الجسدية يقول إدواردو غاليانو في إحدى قصائده:
تقول الكنيسة : الجسد خطيئة
يقول العلم : الجسد آلة
تقول الإعلانات : الجسد مشروع تجاري
يقول الجسد : أنا مهرجان
و بعيدا عن هذه التصنيفات وبدلا من الانطلاق من ثنائية النفس و الوعي ينبغي
حسب ميرلوبونتي على الفلسفة من الآن فصاعدا الانطلاق من الجسم الحي هذا
الذي سيغدو في النهاية على حد رأي نيتشه ميدان الحرب و السلام ، القطيع و
الراعي ... إن هو إلا أداة صغيرة و ألعوبة صغيرة لعقلك العظيم ، و ما الروح
إلا كلمة أطلقت لتعيين جزء من هذا الجسد ، و بهذا نشهد مفهوما جديدا و
دورا حديثا للجسد مع نيتشه. فنحن الفلاسفة كما يقول لسنا أحرارا في أن نفصل
بين الروح و الجسد ، كما يفصل بينهم الناس العاديون. لهذا سعى نيتشه و
بخلاف سـابقيه من الفلاسفة إلى الخروج عن التقليد المنضوي تحت مقولات
المادية و المثالية. و هو نفسه الذي ينطلق منه ميرلوبونتي في عدم الفصل بين
الروح و الجسد لكن بإخضاعه – الجسد - إلى منهجه الفينومينولوجي ذي الأصول
الهوسرلية و بانفراد خاص في المعالجة المحكمة التي تستبعد ثنائيات الفلسفة
التقليدية. و ميرلوبونتي لم يقم بعملية استنساخ تامة للفينومينولوجيا
الهوسرلية، و إنما سعى إلى مجاوزة هوسرل Edmund Husserl (1905-1838) و طرح
بديل للكوجيتو و الوعي وكتابه الأساس، فينومينولوجيا الإدراك الحسي، يركز
على هذه المسألة لكن هذا الأمر لا يعد تنكرا للمعلم، بل أراد أن يكون على
مسافة واحدة حتى يستطيع أن يستوعب الفلسفات السابقة عليه و في النهاية
يتجاوز و يخرج من طوق الكوجيتو بتحليلات إبستيمولوجية يتم فيها رفض الأنا
المتعالي الهوسرلي و نقل الفينومينولوجيا من مستوى الظاهرة إلى مستوى
الوجود الإنساني و من التلقائي إلى المفكر فيه، فلسفة هدفها النهائي الولوج
إلى الأشياء ذاتها و هو الهدف الذي حاول تحقيقه خلال مشواره الفلسفي
الحافل.
الآخر و موضوع الحرية
يمارس الآخر على الإنسان الوجود الذي يرتضيه ويتماشى مع طموحاته وأفكاره
وهذا من شأنه أن يعيق كل الإبداعات والسمات التي هي ميزة الإنسان في حد
ذاته، لهذا يرى سارتر أن الحب مشروع لا يمكن تحقيقه وما هو إلا محاولة
للسيطرة على الآخر، ونفس الشيء عندما يحبني الآخر فإنني بالنسبة إليه
موضوع، باستطاعتي أن أؤثر في حريته بطريقة تجعلني أمتلكه كما أمتلك شيئا
آخر وهذا ما قصده سارتر في قوله يبدو لنا الحب هو في ماهيته مشروع يهدف إلى
أن يجعل المرء نفسه محبوبا. من هنا هذا التناقض الجديد وهذا الصراع
الجديد: كل واحد من العاشقين هو أسير للآخر كلّيا من حيث أنه يريد أن يحبه
هذا الأخير و لا يحب غيره . و إذا كان الآخر على حد تعبير سارتر هو "الغير،
أي الأنا الذي ليس هو أنا، وأنا لست هو" ، فإن وجوده بالنسبة لي يكون
موضوع إذا وقع تحت نظري أحقق من خلاله تجسدي كما يمكن أن يحيلني بنظرته إلى
موضوع. و نلمس في الطريقة الأولى تناول الأنا للآخر كموضوع و أداة كما هو
في الرغبة الجنسية تحديدا، لأن الرغبة تقصد الآخر في جسمه لتحقيق تجسد
الأنا و تكون العلاقة هنا ليست علاقة وعي بوعي بل علاقة جسد بجسد فتظهر
الرغبة تعبّر عن نفسها بواسطة المداعبة كما الفكر بواسطة اللغة" . وفي
الرغبة الجنسية و المداعبة يتم تجسد الآخر لأكتشف في النهاية تجسدي الخاص.
لكن يحدث أن تتحول هذه الرغبة بعد المباشرة الجنسية إلى فشل و تناقض لأنها
تفقد مادتها و تصبح مجردة مما يجعل الأنا ترجع إلى الموقف ذاته الذي حاولت
أن تخرج منه بواسطة الرغبة و في هذه الحالة تتوجه وجهة أخرى هي السادية
التي تسعى لامتلاك حرية الآخر, و محاولة تجسيد الآخر هنا تتم عن طريق العنف
حيث يريد السادي أن يستحضر اللحم بشكل مغاير لوعي الآخر : إنه يريد
استحضار اللحم عبر معاملة الآخر كأداة , فهو يستحضره عبر الوجع عكس الرغبة
التي استعملت المداعبة.
يتضح مما سبق أن سارتر يلتقي مع ميرلوبونتي ففي الحديث عن الأنا و الآخر
يحيلنا إلى الحديث عن جدلية السيد و العبد التي يتحدث عنها هيجل Hegel
(1770-1831). وباعتبار أن لي جسدا يمكن أن أصبح سيدا في مقابل الآخر الذي
يتحول إلى عبد، و بواسطة (نظرة) يتحول جسدي إلى كائن للآخر. و مرئية جسدي
هذه هي التي تُحدث ما نسميه تخاطرا. إذ يكفي إشارة طفيفة من تصرف الآخر
لتنشيط خطر المرئية هذا، فعلى سبيل المثال، تشعر امرأة أن جسدها مرغوب فيه،
وتلتهمه النظرات خلسة، حتى دون أن تنظر هي ذاتها إلى أولئك الذين ينظرون
إليها. و حتى يكون الآخر آخرا حقا حسب تعبير ميرلوبونتي فإنه لا يكفي و لا
يجب أن يكون بلية... بل على الآخر أن يكون مرآة لي كما أنا مرآة له و تجعل
منا نحن أنفسنا لا نمتلك لشخص و لذواتنا صورتين جنبا إلى جنب، بل صورة
واحدة نكون متضمنين فيها كلانا، و لا نجعل من وعيي بنفسي و بالأسطورة التي
احملها عن الآخر نقيضين، بل كل منهما هو قفا الآخر.
و في مسألة الحرية و بما أنها مبدأ أساسي للتواصل بين الذوات والآخرين يقول
ميرلوبونتي : إن حريتي الفعلية ليست متعالية على وجودي، لكنها موجودة هنا
أمامي في الأشياء ، بما يعني رفض لفكرة الحرية كما بلورتها الفلسفة الغربية
ككل، خاصة الحرية المطلقة الذي قال بها سارتر ويتساءل ميرلوبونتي "ما
الحرية إذن؟ إنها أن تولد وان تولد معناها أن تولد من العالم وفي العالم
والعالم قائم بشكل مسبق ولكنه غير مكتمل التكوين في العلاقة الأولى نحن محل
جذب بينما في الثانية نحن منفتحين على جملة من الممكنات اللامتناهية ومع
ذلك يبقى هذا التحليل تحليلا مجردا ذلك أننا في حال الوجود ضمن علاقتين على
حد سواء إذ لا مكان لحتمية مطلقة ولا اختيار حر وأنا لست شيئا أبدا ولا
وعيا خالصا إنه المفهوم الجديد للحرية عند ميرلوبونتي حيث يقوم بتعويمها
داخل العالم ويربطها بالأشياء فتصبح الحرية هي العالم وهي الأشياء في آن
واحد .
إن القول بأن الحرية صميم الوجود وجوهره لا يعني القول بحرية مطلقة لا تعرف
الالتزام. والقول بأن الإنسان حر حرية مطلقة ينطوي على تناقض جعل من
الحرية نفسها مبدأ لامعقول ليس له أدنى معنى ولو سلمنا بمثل هذه الحرية
فسيكون من العسير علينا أن نفهم معنى الالتزام engagement، ذلك أن الحرية
المطلقة لا تشعر بإلزام الحاضر وإلحاح المستقبل لأنها قوة خالصة لا تشعر
بوطأة الظروف ولا تحس بضرورة الفعل ، فالالتزام ضمن الإطار الاجتماعي يتطلب
منا مراعاة الآخر، بما أن الإنسان ليس فردا وحيدا في العالم يفعل ما يشاء،
وبالتالي الحرية تعني تحمل المسؤولية والالتزام بالإطار العام.
الحرية عند ميرلوبونتي متضمنة في قدرة الشعور الإنساني على موضعة
Objectivation مواقفه في سياق تصرفات الفعل الممكنة، و نفس رأي سارتر لكنه
يختلف عنه في أنه يقرر أن الحرية لا يمكن إن تكون شاملة كلية إنما تكتسب
تدريجيا ونقطة ابتدائنا هي دائما المعاني المقررة اجتماعيا ، فالحرية ترتبط
بالماضي و تنبثق من المطلق وتعمل في حدود المواقف التي تتواجد فيها، وتفيد
من المواقف السابقة والخبرات التي تقدمها، وليس بوسع الإنسان أن يتنصل من
ماضيه، لكن بوسعه تحويل مجرى حياته، ليس تحويلا مطلقا وليس على شكل طفرات
لكن على شكل انحناءات صغيرة في مسار الحياة.
إنني حتى وان استطعت أن ابني الوعي بالماضي بواسطة حاضر فبالتأكيد لن يفلح
في فتحي على المستقبل وحتى وان استطعنا أن نتمثل بالمستقبل بالطريقة التي
أوردناها فيبقى كي نعرضه أمامنا ان يكون لدينا حس بالمستقبل فهذه الخيوط
الزمانية متداخلة ومتشابكة إذ لا يمكن الفصل بينهما، فهي تعبر عن شيء واحد
هو الذاتية ولعل ميرلوبونتي يرى أن الحاضر يتمتع بامتيازات تجعل من الوجود
والوعي شيئا واحدا.
والحرية مرتبطة بالزمان لأنها تمارس ضمن إطار زماني، فهي تعانق الحوادث
التاريخية والطبيعية وتسير معها، وهي تملك القدرة على إعطائها بعدا شخصيا
يجعلها فبمتناول الفرد، وذلك قصد تعديلها أو تحويلها، وهنا يؤكد ميرلوبونتي
على أننا لسنا دوما أدوات طبيعية في يد القوى الطبيعية الميكانيكية
والصيرورة التاريخية، بل يمكن أن نعانق هذه القوى ونحول، أو نعدل عجلتها
ونبقى دائما متميزين عنها لأننا نملك القدرة على التراجع