البنيوية و"ما بعد البنيوية": الاستمرارية والانقطاع
بقلم: خلدون النبواني
ستشهدُ
البنيويّة - التي أغرت الكثير من المثقفين الفرنسيين في بداية الستينات -
تحوُّلاً حاسماً عام 1968. فحتى تلك السنة، ظلّت البنيوية المرجع الرئيسيّ
لكتابات ليفي ستروس وجاك لاكان ورولان بارت وميشيل فوكو ولوي ألتوسير.
يُظهر لنا كتابا "الكلمات والأشياء" لميشيل فوكو و"كتابات" لجاك لاكان،
اللذان ظهرا عام 1966 أن أعمال هؤلاء المثقفين لم تخرج حتى ذلك التاريخ عن
تصوّرات البنيوية بشكلها التقليديّ. ولكنّ فرنسا ستشهد (بدورها) ظهور حركةٍ
سياسيّة واجتماعية وثقافية ثوريّة، بل وسياسيّة أيضا بعد سنتين من ظهور
هذين المؤلفين. في أيار/مايو من ذلك العام سينزل العمال والطلاب وأساتذة
الجامعات إلى الشوارع الباريسيّة مطالبين بإصلاحٍ شامل، وستُطالب شخصياتٌ
ثقافية كبيرة (كانت على هامش الجامعات الحكومية الرسمية الكبرى) بإصلاح
نظام التعليم في الجامعات الفرنسية الرسميّة التي وجدوا أنها كانت محافظة
وتقليدية.
لقد كانت حركة مايو 68 مناسبة أيضاً لسارتر ليأخذ دوره من جديد بوصفه
زعيماً ثقافياً يسارياً، بعد أن تراجع حضوره بشكلٍ كبير لصالح سيطرة
البنيويين، وخاصة أمام سطوع نجم ميشيل فوكو. ولكنّ البنيويين لم يكونوا
غائبين عن الأحداث حينها بل كانوا حاضرين وبقوّة. سيؤكِّد جاك لاكان
-مُعترضاً على ذلك الشعار الذي كُتِب على سبورات السوربون إبان ثورة
أيار/مايو 68 القائل إن "البُنى لا تنزل إلى الشارع"-: إذا ما كان هناك شيء
أثبتته أحداث أيار/مايو، فهو بالتحديد نزول البُنى إلى الشارع. (1)
مكَّنت
سنة 1968 "الهامش" الثقافي الفرنسيّ من أن يتمرّد ويثور على "المركز"
التقليديّ المتمركز في السوربون حينها. إنه الخطاب المتراكم للهامش الذي
سيغيّر علاقات القوّة، ويؤكّد نفسه أمام تهميش المركز الرسميّ. هكذا وفي
أعقاب حركة 68 سيُضطرّ "المركز" إلى الاعتراف ﺒ"الهامش" محاولاً امتصاص
غضبه بإجراء بعض الإصلاحات الجامعية على نظام التعليم، ثم افتتاح جامعة
فانسن (باريس الثامنة) للأساتذة والطلاب اليساريين المتمرّدين ضدّ هيمنة
المركز ونظامه التعليميّ. في تلك الجامعة ستدرّس الفلسفة بطريقة غير
أكاديميّة لتجد روح معارضة النظام والنسق والمعايير نوعاً من الاعتراف بها
وبشرعيتها، وستطبع هذه الروح المتمرّدة كلّ ما هو نسقيّ وانضباطيّ على
إنتاج من سيعرفون باسم مثقّفي ما بعد-البنيوية.
ولكن
ما العلاقة بين تلك السنة المُضطربة وما بعد-البنيويّة؟ يؤكّد الفيلسوف
الألماني مانفريد فرانك الذي كرَّس ثلاثين محاضرة لدراسة ظاهرة البنيوية
الجديدة néo-structuralisme ما يلي: "أياً يكن، فإنّ البنيوية-الجديدة التي
أُريدُ معالجتها هنا لم تظهر، بوصفها حركة نظرية، إلا حوالي عام 1968(2)".
لقد سمحت حركة أيار/ مايو، على ما يبدو، لبعض التوجّهات الفكرية الجديدة
أن تعلن ميلادها، وأن تخرج من الظل إلى الضوء أو من الإمكان إلى الفعل.
هكذا فإنّ أسماء دريدا، ودولوز، وليوتار، وبودريار، إضافة إلى أسماء كانت
تحسب على حركة البنيوية قبل تلك السنة مثل لاكان والتوسير وفوكو، ستصبح
كلها أسماء ممثّلي ما سُميّ ﺒ "ما بعد-البنيوية".
لكننا
نجد أنفسنا هنا أمام سؤالٍ لا مناص منه، إذ علينا أن نعرف ماذا تعني تلك
البادئة "ما بعد" وهل هي دليل على الاستمراريّة أو على الانقطاع بين
البنيويّة وما بعدها؟ للإجابة على هذا السؤال سنستحضر هنا ثلاثة أطاريح
مُقدّمة من قبل مانفريد فرانك بصدد ما بعد-البنيوية. "الأطروحة الأولى هي
أن البنيوية-الجديدة تعرّف نفسها، على خُطى هيغل ونيتشه، بوصفها تفكيراً
يأتي في مرحلة انتهاء الميتافيزيقا. والأطروحة الثانية هي أنّ هذا التفكير
ما بعد الميتافيزيقي هو كذلك تفكيرٌ لاحقٌ على البنيوية. […] الأطروحة
الثالثة هي أنّ البنيوية-الجديدة تُجذِّر وتقلب، وفق منظورٍ فلسفيّ،
البنيوية التي سبقتها والتي تعتبر نفسها منهجيّة للعلوم الإنسانيّة أكثر من
كونها حركة فلسفيّة(3)". من جهته يُفضِّل فرانك تسمية "البنيوية-الجديدة"
على مُصطلح "ما بعد البنيويّة"، ويشرح ذلك بالقول: "يبدو لي مُصطلح "ما بعد
البنيويّة" مُصطلحاً غير مُحدّد بشكلٍ كبير؛ فانخفاض الدولار وحركة السلام
هُما أيضاً لاحقان على البنيوية، دون أن يكونا بذلك مرتبطين بها. […] إنّ
البنيوية الجديدة ترتبط مباشرةً بالفعل بالبنيويّة الكلاسيكيّة […] إنها
تحتفظ بعلاقة داخليّة مع هذه الأخيرة. وبكلمة أُخرى ليست البنيويّة-
الجديدة لاحقة ببساطة على البنيويّة، بل هي ترتبط بها بأسلوب نقديّ وهي قد
لا تكون مفهومة بدون هذا الأصل. (4)" أما بالنسبة لنا، فإننا سنحتفظ هنا
بلفظ "ما بعد" إذ أننا لا نرى أنّ هذه البادئة تُمثِّل قطيعةً نهائية مع ما
سبقها. فمن الممكن لها أن تحمل في نفس الوقت معنى اللحاق والتجاوز الذي
يحتفظ بعلاقة داخلية بل بنقد داخليّ مع البنيوية التي أنجبتها. وهذا لا
يعني كذلك نوعاً من قتل الأب، وإنما نوعاً من الاستمرارية المعترِفة بما
تقدّم والشكّاكة في الوقت نفسه بما أنتجها.
ونحن نستطيع بشكلٍ عامٍّ جدّاً أن نُحدِّد نقاط الاستمرارية بين البنيوية وما بعدها على النحو التالي:
1-
ستحتفظ ما بعد-البنيويّة من البنيويّة بالاهتمام بموضوع اللغة وبعلاقات
الاختلاف بين العلامات اللغويّة. 2- ستُمثِّل الشكلانية (الصوريّة) أحد
مظاهر الاستمراريّة بين البنيويّة وما بعدها. والمقصود هُنا الصيغة الكليّة
التي أدت إلى اختفاء "الذات" وتفكك "الأنا". 3- ستحتفظ ما بعد البنيويّة،
بل وستُجذّر، رفض البنيويّة الكامل لكلّ ما هو ميتافيزيقيّ وستكشف آليات
السُّلطة أو ستُفكِّكها. فكلتاهما، البنيوية وما بعدها، لا تبحثان عن جوابٍ
نهائيٍّ لكلّ أسئلتنا كما أنهما لا تقومان كذلك ببناء نسقٍ فلسفيٍّ كُلي
أو نظريّة عامّة. إنهما ترفضان معاً المعايير الكونيّة ولا تقبلان بغائية
التاريخ. كما أنّهما تدافعان عن الاختلاف في مقابل الهويّة، وعن التنوُّع
في مقابل الوحدة، وعن الانتثار في مقابل التجميع. 4- كما كان البنيويون،
سيكون ما بعد البنيويين أيضاً كُتاباً كبارا. إنّ لديهم جميعاً اهتماماً
ملحوظاً بالفنون وبالأدب. 5- مثل البنيويين، لا يُمثل ما بعد البنيويين
مدرسةً فلسفيًة منسجمة أو تياراً فكرياً مُتناغماً، بل هُم مُختلفون فيما
بينهم، رغم بعض نقاط التقاطع التي تجمعهم تحت اسم "ما بعد البنيويين".
هذه
عموما نقاط الاستمرارية بين البنيويّة وما بعدها. في حين أنّ نقاط
الانقطاع تقودنا إلى أطروحة فرانك الثالثة، أي تلك التي تعلن أنّ ما بعد
البنيويّة تُجذِّر وتقلب الإثنية اللغوية للبنيويّة. في الحقيقة أنه وعلى
الرغم من تنوُّع أولئك الذين نسمّيهم "ما بعد بنيويين"، إلا أنهم يحتجّون
جميعاً ضدّ فكرتين لاصقتين بالبنيويّة الكلاسيكيّة.
الفكرة
الأولى هي فكرة "النسق" التي عرَّف بها سوسير اللغة بوصفها "نسقاً من
العلامات". لقد بدا لما بعد البنيويين أنّ مصطلحات من قبيل النسق والنظام
والبنيّة والنظرية الشاملة والمعايير الكونيّة ..الخ هي مخلّفات ميتافيزيقا
تمّ تجاوزها. الفكرة الثانية هي فكرة "الضبط". في الحقيقة، يحتوي النسق،
عند سوسير كما عند ستروس، نمطًا من القانون الداخليّ الثابت يقوم بضبط
العلاقات بين العناصر التي يحتويها. سيقوم ما بعد البنيويين بمعارضة هذا
القانون الضابط بفكرة "ما هو غير قابلٍ للضبط"(5). من هنا نتفهم رفضهم
الدائم لكل ما هو ضابط ومُراقِب ومُتحكِّم. من هنا نجدهم يهاجمون المركز
الضابط والمهيمن ويدافعون عن الهامش المقاوِم للنظام في مقابل المعايير
المفروضة من قبل ذلك المركز.
مع
بداية الثمانينات، ومع عودة انتصار اليمين الثقافي والسياسي في أوروبا،
عادت فلسفات المركز لتهيمن على الوسط الثقافي الأوروبي، حيث هاجمت ما بعد
البنيويّة، وعملت على إدانتها بالمطلق بوصفها فلسفة عبث أو فلسفة عدميّة
نيتشويّة، وقد انتقلت الإدانات عندنا إلى العالم العربي على نحوٍ هزليّ.
رغم كلّ الانتقادات التي وُجّهت ضدّ ما بعد البنيويّة والتي قد نتفق أو
نختلف مع بعضها، إلا أنّ هذه الفلسفة تظلّ مثالاً على قدرة الهامش الفلسفيّ
على أن يقول لا، وعلى أن يتمرّد على التنميط وعلى السُّلطة وضد محاولات
تلوين العالم والفكر بلونِ واحد، حتى لو كان اللون الأبيض.
الهوامش: