[إن الرسالة المسيحية،
في نظر جيرار، بإعلانها براءة الضحية المدان من طرف الجمهور العام، قد
أدانت الزيف والخداع المتضمن في الطقوس الاجتماعية التي ترسى بواسطتها
المجتمعات الإنسانية السلم بين أعضائها. وهذا هو السبب الذي يجعله لا يثق
ولا يعتقد في الفضائل المنسوبة لعملية التضحية].
مفكر التنافس ولد روني جيرار René Girard سنة 1923 بمدينة Avignon بفرنسا. ودرس بمدرسة Chartes ،
ثم درس الأدب في جامعة إينديانا بالولايات المتحدة الأمريكية حيث دافع
سنة 1953 عن أطروحته للدكتوراه. وفي سنة 1957 درس في جون هوبكنز حيث كتب
كتابه الأول "الأكذوبة الرومانسية والحقيقة الروائية" (1961). وفي سنة
1968 عين أستاذا في جامعة الدولة في نيويورك؛ وهناك درس وليم شكسبير
والاتنولوجيا خلال إعداده لكتابه الثاني "العنف والمقدس" (1972). ثم عاد
سنة 1975 إلى جامعة جون هوبكنز، ثم درس في ستانفورد ابتداء من سنة 1980
حيث أسس بمعية Jean Pierre Dupuy
مركزا متعدد التخصصات للبحوث النظرية. ولروني جيرار عدة مؤلفات تدور حول
الفكر الأنتروبولوجي والتحليل الأدبي، وقد طور، منذ تلك الفترة، نظرية
أصيلة حول التنافس ودوره في المجتمعات الإنسانية، وذلك من خلال معطيات
تاريخ الأديان، وتحليل المؤلفات الأدبية. وهو الآن متقاعد ويعيش في
الولايات المتحدة الأمريكية. وقد نشر مؤخرا مجموعة حوارات من الحوارات
يتناول فيها مجمل أعماله، وذلك تحت عنوان: "أصول الثقافة" منشورات D. de Brower باريس 2004.
من مؤلفاته كذلك
- كبش التضحية باريس 1982
- ذاك الذي معه الفتنة باريس 2001
- الطريق القديم للناس المنحرفين باريس 2001
- الصوت المبهم للواقع باريس 2004
هل روني جيرار مؤرخ أديان،
أن ناقد أدبي، أم أنتروبولوجي، أم فيلسوف؟ أو هو كل ذلك في نفس الوقت؟ كيف
يمكن للمرء أن ينتقل من تحليل الحسد لدى شكسبير أو من التهكم لدى سارتر
إلى التعليق على التلمود، مرورا بتحليل طقس التضحية بالعبيد لدى قبائل
داياك في جزيرة بورنيو وأسطورة أوديب، دون ممارسة البحوث الميدانية
والاختبارية المثقلة بالمراجع والإحالات؟ فابتداء من "الأكذوبة الرومانسية
والحقيقة الروائية" (1961) و"العنف والمقدس" (1972) و"أشياء خفية منذ
تأسيس العالم" (1978)، و"كبش الفداء" (1982)، لم تتوقف أعماله عن التطور،
ملامسة جمهورا أوسع من دوائر المتخصصين، ومولدا بالتأكيد، ردود فعل نقدية
بل أحيانا متشنجة من طرف هؤلاء. وقد أخذ على فكر روني جيرار أكثر من مرة
أنه "قطعة زبد جد صغيرة على قطعة خبرز كبيرة"، أو أنه يجر وراءه أطروحات
طموحة تكاد تكون عصية على الاختبار والتقبل. ومع ذلك فقد عقدت سنة 1982
ندوة بسيريزى لاسال خصصت لفحص تحليله الأنتروبولوجي للتضحية والفداء، ومنذ
سنة 1994 قامت مجلة "العدوى" (Contagion )
بمتابعة واسعة لأعماله كما نظم لقاء دولي سنوي حول العنف والمقدس، وتلك
دلائل على أن أعمال روني جيرار تحظى باهتمام العالم الجامعي.
نقرأ أحيانا أن روني جيرار هو الإنسان ذو الفكرة الواحدة.
وعندما نسمع هذا النقد لا ندري بالضبط بم يتعلق الأمر هل بمبدأ المحاكاة،
أم بالقتل المؤسس، أم بميكانيزم التضحية والفداء، أم بمظهرهما في
الإنجيل.. أم ماذا؟ ما هي هذه الفكرة الوحيدة الفريدة التي يشار إليها في
هذا النقد؟
والحقيقة أن كل هذه الأفكار تندرج ضمن بناء واحد مركب،
بنظرية عامة حول أسباب التنافس الصراعي بين بني البشر، وعن نتائجها
الطقوسية، وعن علاقتها بتاريخ وتطور المؤسسات. ها نحن إذن أما عمل كبير
أمام "بناء سردي انتروبولوجي ضخم" لم يعد اليوم في مكنة أحد، عمل لا يتردد
في ادعاء امتلاك مفتاح أصول ومنابع الثقافة الذي هو عنوان آخر كتاب
لجيرار (2004). من أين إذن يمكن أن نمسك بهذا البناء الفكري الكبير؟
في سنة 1979 وبعد صدور كتابه "أشياء خفية منذ تأسيس العالم"
احتدم نقاش حاد تخطى حدود الحرم الجامعي والنقاشات الجامعية: ألم يكن
روني جيرار، وهو ينسب للمسيحية أنها عرت وأدانت الزيف والغش المتضمن في
آلية التضحية والفداء، ألم يكن يخلط تاريخ الديانات بالديانات نفسها؟ ومنذ
ذلك الوقت ركز جيرار في دراساته على تحليل هذه القطيعة التي أحدثتها
الرسالة الإنجيلية ضمن التراث المسيحي. ومن هذه الدراسات "أرى الشيطان
يسقط كالبرق" 1999 و"ذاك الذي تحل بواسطته الفتنة" 2001 و"الصوت المبهم
للواقع" 2002.
فهل روني جيرار، كما يكتب هو نفسه، "دوركهايمراديكالي" أم هو لاهوتي ما بعد حداثي؟
ها هو جيرار يحاول أن يقدم أجوبة عن ذلك في الأسطر اللاحقة.
- العلوم الإنسانية: ما هي هذه الفكرة التي ينسب لك الدفاع عنها منذ أن بدأت تكتب؟
- روني جيرار: ترتكز نظريتي على حدس رئيسي: وهو أن الرغبات
الإنسانية هي رغبات تخضع لقانون المكاحاة، أي أنها رغبات محاكاتية، أو
بمعنى آخر أنها رغبات تتجه نحو موضوعات يرغب فيها الناس الآخرون أيضا.
وكلما كانت رغبة الآخرين قوية وشديدة كانت أنا أيضا قوية وشديدة. وفي خضم
هذا التنازع يمكن أن يأتي حين تكون فيه رغبة الآخر في الشيء أهم بالنسبة
لي من الموضوع المرغوب فيه ذاته: وعندئذ يصبح التنافس صراعا شخصيا وتتنامى
احتمالات اندلاع عنف مفتوح. إن الصراع الإنساني هو بالأساس نتاج للتنافس.
لدى الحيوانات نجد أن الصراعات الناتجة عن التنافس، كالتنافس الجنسي مثلا،
تجد حلها، على وجه العموم، عن طريق فرض علاقات سيطرة: فالحيوان الأضعف
يخضع للحيوان الأقوى، وينتج عن ذلك استتباب نظام تراتبي مستقر إلى حد ما.
أما لدى بني الإنسان فالأمر لا يسير بنفس الطريقة: ذلك أن الناس لا يخضعون
تلقائيا. بل يقومون بأعمال عنف لا تنتهي داخل النوع. وهكذا يمارسون
الانتقام المؤجل ويجعلون منه، عبر التقليد والمحاكاة، قضية الجماعة. إن
العنف الإنساني إذن عنف معدي: فهو ينتشر في الجماعة من فرد لفرد. وهذا ما
سميته "أزمة المحاكاة" والتي يمكن أن تؤدي إلى قيام مذابح جماعية. وإذا ما
نظرنا إلى هذه المسألة من وجهة نظر التطور، فإنها لن تبدو سمة ملائمة أو
جيدة. بالفعل فعلماء المستحاثات البشرية (Les paléoanthropologues )
يفترضون اليوم أن العديد من المجموعات الإنسانية أو القبلإنسانية ربما
تكون قد اختفت فقط نتيجة للعنف الممارس بين بني البشر. وربما كانت
استمرارية وبقاء الجنس البشري مهددين لو لم تكن هناك ميكانيزمات وإواليات
لإيقاف دورة الانتقام أو الأزمة العنيفة.
وهذه الإوالية التي سبق لي أن وصفتها في كتاب "العنف
والمقدس" هي إوالية القتل المؤسس التي اكتشف الناس من خلالها الدواء
الموقت، لأزمة المحاكاة: وذلك بنقل العداء إلى ضحية واحدة وحيدة، حاملة
لكل الرغبات المتنافسة، التي أصبحت موضوع كراهية جماعية ؟؟؟؟ . إن الفدية
المضحى بها تضفي عليها صبغة العدو من طرف الجماعة كلها، وبذلك يتم إيقاف
الصراعات بين الطوائف. وكل أساطير المجتمعات القديمة تضم مراحل من هذا
النوع. وأنا أضع إوالية التضحية والفداء هاته كأصل ومصدر لكل الطقوس،
والتي يعتبر مثالها المتطور والواضح هو طقس كبش الفداء الذي يصفه الإنجيل
(الاصحاح السادس عشر)، وكذا طقس الفارماكوس في بلاد اليونان القديمة:
عندما تحل المصائب بمدينة ما، تتم التضحية بإنسان أو بحيوان محتفظ به لأجل
هذا الغرض.
- ما هي وظيفة طقوس التضحية والفداء؟
- إن هذه العادات الطقوسية، التي يعتبر
الدور الأساسي لها هو إحلال السلم وإقراره لدى الجماعة، كما بينت ذلك في
كتابي "أشياء خفية منذ تأسيس العالم"، نموذج ومثال لكل طقوس التضحية
والفداء. ومنذ ذلك الوقت ما فتئ الإنسان يقلد ويحاكي بوعي وتصميم فعل
القتل الجماعي الذي كان في البداية تلقائيا وأصبح بالتدرج يتجلى في
مؤسسات: إذ يتم اختيار ضحية ما، ويضحي به في طقس فداء جماعي، وبذلك يرسى
السلم ويعم الرخاء.
إن العادات الطقوسية هي تكرار رمزي بدرجة ما لعملية القتل
المؤسس: وهذا السبب الذي يجعلني أتحدث عن أصل الثقافة. لقد كانت الشعوب
القديمة على حق: فالعادات الطقوسية ذات أصل وظيفي. هناك من يتصور أن ليس
للعادات الطقوسية قاعدة أو أساس، وأنها مجرد ابتداعات محضة، وأنها رمزية
بالكامل. لا، إنها تمثلات وتمثيلات لأحداث مؤسسة: وهي بالأحرى تهدف إلى
إقامة وإقرار السلم واجتناب الانتقام. إن المجتمعات العتيقة تؤول هذه
الظاهرة على أنها بمثابة تجل للآلهة. والانتروبولوجيا لا تأخذ مأخذ الجد
خطاب الناس أنفسهم الذين يقولون بأن العادات الطقوسية تستخدم أساسا لإقامة
أو ترسيخ الجماعة، أو إلى إنزال المطر... الخ. لكن نظرية المحاكاة يمكنها
أن تفعل ذلك.
الجماعة كلها قائمة على أساس هذه العادات الطقوسية المرسخة
للسلم: الزواج، طقوس الانتقال، الطقوس الموسمية... إن العادات الطقوسية (Rite )
هي الفعل الإنساني الأساسي: ففعل التضحية بذبيحة هو الفعل الحضاري
بامتياز. إنه إوالية (ميكانيزم) للاحتفاظ والاختزان: فكلما مارس مجتمع ما
فعل التضحية بكبش فداء تناقص مستوى العنف فيه. لذلك يتعين الاعتقاد في
نجاعة التضحية بكبش فداء.
* إلى أي حد يسري طقس التضحية هذا على مجموع الإنسانية لا فقط على المجتمعات التي مارسته فعلا؟
* ميكانيزم التضحية بكبش فداء إوالية تشمل الإنسانية كلها.
نحن جميعا نحمل في ذواتنا هذا النوع من رد الفعل الانعكاسي الذي يقوم على
ركل كلب بضربة قدم أو على توجيه دبزة أو ضربة يد مجموعة إلى ركن الطاولة
عندما نكون في حالة غضب. وهذه الضربة تجعلنا نهدأ ونسكن. ونحن، عند قيامنا
بهذا النوع من رد الفعل نعرف أنه لا معنى له، ولكن هذا على أي حال أحسن من
أن نذهب لنلوي عنق مجاورنا.
إن طقوس التضحية والفداء هي امتداد وتطوير جماعي لرد الفعل
التلقائي هذا. فالأضحية لا يتم اختيارها هكذا بشكل عشوائي وتلقائي:
فالتضحية بالحيوان لا توجد إلا في المجتمعات التي مارست ترويض الحيوان
وتمرست عليه. وعلى وجه العموم لا تتم التضحية إلا بالحيوانات التي هي
قريبة من الناس، والتي تنتمي أو تعود ملكيتها إليهم، لأنها هي البديل
الرمزي عن الأضحية البشرية. وهذه الأضحية البشرية تعني، في المجتمعات التي
مارست هذا النوع من التضحية، الرمز البديل عن الشر الذي هو حاضر في كل
فرد من أفراد الجماعة. وهذا هو السبب في أن الأضحية التي تذبح وتقدم
قربانا في عملية التضحية يبدأ أولا بإدماجها في الجماعة التي ستضحى بها
وستقتلها. وبذلك يمكن أن نتابع هذا الخيط الرفيع الذي يعود من الفعل
البسيط التلقائي (ضربة اليد) إلى الطقوس الاحتفالية للتضحية، مرورا بفعل
الانتقام. وقواعد الانتقام في المجتمعات العتيقة (archaïques )
يمكن أن تكون مماثلة لقواعد التضحية: ففي الغالب لا يتم اختيار الأضحية
بدلالة مدى كونها مدانة أو متهمة، بل غالبا ما يتم اختيار المتهم الضعيف
الذي لا حماية ولا سند اجتماعي له. وهذا هو ما يجعلنا نقول بأن المسؤولية
الفردية مقولة غير معروفة في هذه المجتمعات البدائية. لكن المشكل ليس هنا:
بل بالعكس فإن هذه المجتمعات تعرف هذا النوع من المسؤولية معرفة جيدة
لكنها تفضل عدم إبرازها حتى لا تضع حدا لدائرة الانتقام. إنه موقف لا يخلو
من فعالية.
* لكن، ألا تنسبون إلى المسيحية دورا خاصا في التعامل الطقوسي مع العنف؟
- تعود أصالة المسيحية إلى أنها رفعت
النقاب عن طبيعة التضحية. فحتى تؤدي عملية التضحية وظيفتها الاجتماعية
الكاملة فإن ذلك يتطلب ويفترض أن الجماعة تعتقد أو تميل إلى الاعتقاد بأن
الضحية هو المسؤول عن العنف، وأنه مذنب.
إن آلام المسيح هي حكاية قتل، وتضحية إذا أردنا أن نتصور
ذلك هكذا. لكن الإنجيل يقدم لنا وجهتي نظر حول هذا الحدث: وجهة نظر
الجمهور الذي يدعو إلى إدانة عيسى المسيح، ووجهة نظر الرهبان -وهم أقلية-
الذين هم بمنأى عن هذا الوهم ويعرفون أن السيد المسيح ليس مذنبا. ولو أن
هؤلاء الرهبان تبنوا رأي الجمهور فإن المسيحية لم تكن لتوجد. إن الكشف
الأساسي الذي أتت به المسيحية هو أن عملية التضحية بكبش فداء ليست سوى
خدعة. ففي الأناجيل الثلاث الأولى يرد تصريح للمسيح يؤكد مجازيا هذا
المعنى: "إن الحجرة التي يرفضها البناؤون هي حجر الزاوية في البناء الذي
أنتم في طور تشييده".
ومعنى ذلك بعبارة أخرى أن ما كان مرفوضا ومستبعدا قد أصبح
هو السند الأساسي لهذا الصرح الديني. كيف نفهم هذه الجملة؟. إن معناها هو
أن براءة الضحية هي، منذ الآن، البند الأساسي في الإيمان. وهنا يتعين أن
نقارن هذه الجملة بجملة أخرى لكاييف Caïphe :
قد يكون من الأحسن أن يموت إنسان واحد، وأن يكون الشعب قد أنقذ". وكذا في
مكان آخر: "لا ترموا جواهركم إلى الخنازير، إذ أنها ستدوسها ثم تستدير
ضدكم" إن كل هذه الكلمات تدور حول آليات محاكاة العنف، وهي إواليات تظل
معتمة ما لم يتم الاعتراف ببراءة الضحية.
فآلام المسيح تحكي عن شيء صحيح وحقيقي: وهي أن الضحية، التي
تتأسس عليها كل إوالية التضحية والفداء، هي، في واقع الأمر، مجرد بديل.
إننا جميعا مذنبون لأننا جميعا نقترف الخطايا، ونطالب بالانتقام، ونقترف
عملية قتل الأب، وزنا المحارم، وننقل معنا مرض الطاعون.
إن الاعتقاد في الأسطورة يعني ألا نرى أن الضحية هو مجرد
كبش فداء بديل. فالمسيحية تكسر الأساطير وخاصة أسطورة كون الضحية مذنبا.
ينتج عن ذلك أن الحضارة المسيحية يمكن أن تتصور أن جماعة ما بكاملها يمكن
أن تحكم بإدانة الضحية وبأن هذه الأخيرة بريئة.
- هل تلك حقا خاصية تتميز بها المسيحية؟
- لا. إن مثل هذا الحدس موجود في
تراثات أخرى كالتراث التوراتى على وجه الخصوص. فهذا الفيلسوف إيمانويل
ليفيناس يسرد باستمرار جملة من التلمود تقول : "إذا كان الجميع يدين أحد
المشكوك فيهم مباشرة وبإجماع، فلتحرروه: لعله برئ". فقد كان التلمود واعيا
بأن العنف المرتبط بالمحاكاة موجود، وأنه يتعين الحذر من الإجماع، مثلما
أن الإعلان بأن نتائج الانتخاب في الديمقراطيات الحديثة هي %99
هو أمر يثير الكثير من الريبة. وتلك حكمة واردة في العهد القديم، لكنها
لن تصبح مركزية وأساسية إلا في حكاية آلام المسيح: إذا كان عيسى المسيح قد
مات فذلك بسبب الحكم الإجماعي الذي عبر عنه الجمهور. والحال أن هذا الحكم
هو حكم خاطئ وضال. والأساطير القديمة مختلفة جدا بهذا الصدد: فهي تحمل
أحكاما إجماعية. ليس هناك أسطورة يكون فيها الجمهور على خطأ. وذاك هو
السبب الذي يجعلنا نستمر في محبة الأساطير والارتباط بها لأنها تريح
ضميرنا ووعينا. إن الرسالة المسيحية تكشف أننا جميعا متهمون. وهذا أمر
مقلق لمن يسمعه.
- وهل معنى ذلك أن مبدأ التضحية/الفدية نفسه قد اختفى من المجتمعات (التي تلقت وورثت هذه الرسالة)؟
- لا، طبعا. لكن يجب أولا قياس المسافة
التي تفصلنا عن المنظور القائم على فكرة التضحية والفداء. ففي الإنجيل
نجد أن استبعاد وإقصاء "كبش الضحية" يشير إلى ممارسة طقوسية، أي رمزية
إذن، ولكنها مشروعة. إننا نعطيها اليوم معنى آخر، وذلك، مثلا، عندما نحدد
تفاصيل هذه العملية التي تعين من خلالها جماعة بشرية ما، بصورة إجماعية،
شخصا متهما بالمسؤولية عن هذا الشر الذي لحق بالجماعة، والذي يمكن أن تقوم
الجماعة بمعاقبته عنه عقابا عنيفا.
إذا أخذنا هذا التعبير بهذا المعنى فإن الأمر يصبح حرجا:
لنفترض أن قلت، سنة 1994 بأن قبائل التوتسى كانت هي أكباش الضحية في
الصراع القائم في رواندا، فإن المعنى الملازم لهذا القول هو أن هؤلاء، لم
يكونوا بتاتا مذنبين أو متهمين في هذا الصراع المؤلم، وأن حرب الإبادة التي
شنت عليهم وجعلت منهم ضحايا لا يمكن بأية حال تبريرها وإيجاد مسوغات لها.
وبعبارة أخرى فإن كبش الضحية يعني في نظرنا ضحية بريئة. وهذا هو مدار
المشكل كله: من أين أتاني ذلك الحدس الذي يجعلني أعتقد بأنهم يمكن ألا
يكونوا مذنبين بل على العكس من ذلك أنهم ضحايا بديلون؟. إني أرجع هذا
الحدس التفسيري لدي إلى المعنى المتضمن في الإنجيل، والذي علمنا أن نكون
حذرين تجاه الأحكام التي يصدرها الجمهور.
لكن ذلك لا يحمينا من أن نظل غير مدركين لعمق العديد من
ممارساتنا. إن فكرة الضحية لم تختف في الواقع، من أفقنا المؤسس. يبدو أن
النظام القضائي اليوم هو أكثر عقلانية قياسا إلى المجتمعات القديمة، وإلى
أشكال وطقوس الانتقام وطقوس التضحية بكبش فداء: فالنظام القضائي العصري
مهووس بالبحث عن المذنب الحقيقي وإذانته، ولا يتوجه نحو البحث عن أي ضحية
بديل. ومع ذلك فإن أحكام القضاء اليوم ماتزال تحمل سمة البحث عن ضحية،
وذلك من حيث أن العدالة هي في حاجة ماسة إلى مذنب أو متهم.
أنظر مثلا للجرائم العاطفية، إنها تنتج في الغالب، عن سلسلة
من الاعتداءات والاستفزازات المتكررة بين أشخاص تربط بينهم العديد من
الصلاة حيث تكون المسؤوليات متداخلة ومتقاسمة. فذاك الذي تقرر العدالة
معاقبته ليس بالضرورة والتحديد هو الشخص الوحيد المسؤول عن الأفعال التي
حوكم وعوقب من أجلها. هناك قسط من الاعتباطية في القانون الذي يدين ويجرم
بعض الأفعال (صب السم في الحساء مثلا) بينما يتخذ موقفا أكثر مرونة تجاه
أفعال أخرى (خيانة الرجل لزوجته كل مساء مثلا). إن من غير الممكن تكوين
صورة شاملة ووافية عن الأخطاء المقترفة، ذلك أن العدالة، بانتقالها من
دليل إلى آخر ستفقد الكثير من نجاعتها. إننا لا نستطيع إلى حد اليوم أن
نتجنب تركيز المحاكمة وإصدار الحكم على بعض الجوانب أكثر من الأخرى. إن
المحاكمة الجيدة، في نظر الرأي العام، هي المحاكمة التي تنتهي بمعاقبة
متهم والاعتراف بوجود ضحية. إنه شكل من أشكال الانتقاء الجذري الذي مازال
يحتفظ ببعض آليات البحث عن ضحية.
لدينا كذلك أزماتنا السياسية. ما الذي يقع خلال
الانتخابات؟. فالمنتخب يصادف أولا حالة عفو: فكل ما يفعل فهو جيد. ثم يأتي
بعد ذلك زمن المحاسبة والتشدد: فكل ما يفعل، فهو سيء. لذلك يتعين إقصاؤه.
إن ذلك ليس طقسا قاسيا بل إن العملية هي كذلك: بعد فترة يبدو أن كل الشرور
والسلبيات التي تظهر في المجتمع تجمع وتوضع على ظهر كبش ضحية. في بعض
الممالك الإفريقية القديمة كانت العادة تقضي، في حالة انتشار الأمراض
المعدية أو في حالة الجفاف الطويل الأمد، بقتل الملك... وبغض النظر عن
عملية القتل فإن الآلية هي نفسها. لكن ما الذي يقع لو لم نكن نتوفر على
مثل هذه الآلية، مهما كانت درجة رمزيتها؟ إن كل أمل في تحسين الوضع سيكون
مجرد عبث وغير مجدي ولن يكون هناك أي مخرج غير اليأس والعنف.
س: كيف تفسرون تعرض قراءتكم لنصوص المسيحية، للكثير من النقد، كما لو كانت هذه القراءة في غير محلها؟
جيرار: لقد تعودنا على إدخال تمييز أساسي بين الحقيقة
السوسيولوجية والحقيقة الدينية. وهذا يتناسب مع الصورة الحديثة لتشكل
الأفكار. لكن، في العمق، نجد أن التراث اليهودي-المسيحي حاضر ومرئي في
مؤسساتنا: الديمقراطية، شفافية القوانين، حقوق الإنسان. وإذا كانت
المسيحية في الماضي تبدو خاصة ومقصورة على قسم واحد من الإنسانية، فالأمر
ليس كذلك اليوم: لقد وصلت المسيحية إلى كل مكان في العالم، سواء كان ذلك
بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة، وذلك عبر ومن خلال أفكار غير دينية بل
حتى من خلال أفكار مناهضة للدين. وهكذا كتب أندريه مالرو (وزير الثقافة
الفرنسي في عهد دوغول) أن وصول الشيوعية إلى شنغاي -وهو الذي عاينه عن
قرب- لم يكن شيئا آخر غير وصول المسيحية إلى الصين. وحتى إذا ما بدا أن
بعض الحضارات ما تزال معادية أو ناقدة لحقوق الإنسان التي أعلنتها الأمم
المتحدة، فإنها لا تستطيع أن تنفي أن هذه الحقوق موجودة. لم يعد بإمكان هذه
الثقافات اليوم أن تعيش فقط على الاعتقاد بأن التضحية بكبش فداء يمكن أن
تحل كل المشاكل. ومن زاوية أخرى، يتعين أن نرى أنه إذا كان الوحي الديني
ذا فعالية كبيرة في القضاء على عملية التضحية الدموية بفدية ما، فإنه حرم
المجتمعات المسيحية من هذه الأداة الفعالة التي هي الآلية الطقوسية.
فالوحي الديني يتركنا عزلا وبدون أدوات مقاومة تجاه دوامات العنف
والمحاكاة التنافسية للعنف والتي هي خاصة بنا كبشر. وبذلك فنحن، باستمرار،
على حافة العماء والفوضى.
- ما هي العلاقة التي يقيمها التراث الديني الإنجيلي مع العلوم الإنسانية؟
ملاحظتان للجنة مراجعة الترجمة
هناك منذ زمن طويل العديد
من الأراجيز المضادة للمسيحية وخاصة منذ القرن الثالث الميلادي، تؤكد بأن
المسيحية تقول نفس الشيء الذي تقوله الأساطير الكلاسيكية: موت الفدية
المضحى بها وتكرارها الطقوسي المستمر. وقد ألح الأنتروبولوجيون الأوائل
الذين درسوا الظاهرة الدينية مثل جيمس فرايز، ووليام شميث، على كون
المسيحية مواصلة وامتداد للأسطورة، وبذلك بدا أن المسيحية كانت إذن أسطورة
كغيرها لأنها تشابهها كثيرا. كان ذلك هو الشرط المفروض توفره من أجل
إمكان تأسيس علم موحد للديانات، وذلك من أجل الخروج من دائرة الخطاب
اللاهوتي. وقد كان لهم، من هذه الزاوية، الحق: هناك مستوى معين تتلاقى فيه
كل الديانات، وهو أن توجد مخرجا من العنف، ومن الرغبة في المحاكاة التي هي
رغبة تسكن الإنسان. ومن هذه الزاوية فإن نظرتي هي نظرية ذات نزعة طبيعية:
فهي تعترف بوجود آلية مشتركة لدى كل بني البشر. لكن إذا فحصنا مضمون
الخطاب المسيحي، فإننا سنرى أنه لا يعتقد نهائيا في حقيقة آلية التضحية.
لا يمكننا أن نعتبر أن الوحي المسيحي هو حكاية سردية أسطورية من بين
حكايات أسطورية أخرى: إذا كانت عملية القتل الجماعية هي بمثابة قفاز فإن
المسيحية هي المذهب الذي تحول بواسطتها اتجاه القفاز. إننا بدأنا ننظر منذ
ذلك الوقت، إلى التضحية من الداخل. وهذا لا يتضمن الاعتقاد في وجود وحي
إلهي: بل يظهر فقط وجود حقيقة إنسانية، وهذا هو الجانب الذي يهم علوم
الإنسان. إن الرسالة المسيحية تفكك آلية التضحية، وهو نفس ما تفعله العلوم
الإنسانية: وتلك هي النقطة المشتركة بينهما. أنا شخصيا لا أتصور أنه كان
بإمكاننا أن نتوصل إلى هذا الحدس بدون المسيحية. إذن لم يكن من الممكن
قيام علوم إنسانية حقة لو لم نهتم بالمسيحية، لا من حيث هي وحي، بل من حيث
أنها تتضمن كشفا عن الطبيعة الإنسانية. وأنا لا أتحدث هنا عن باسم وحي
ديني: بل إننا إذا تبينا الفرق الذي يفصل المسيحية عن الأديان السابقة
عليها، فإنه يتعين علينا أن نولي مضمون خطابها اهتماما وجدية أكبر.
صورة التضحية بإسحاق ترمز الصورة
لإبراهيم وهو يستعد للتضحية بابنه الوحيد إسحاق، كعلامة على الخضوع لله.
وفي هذه الصورة التي تعود إلى التراث الفني المسيحي في العصور الوسطى،
يوقف الملاك حركته، ويشير بأصبعه إلى الكبش الذي سيتم ذبحه في النهاية
بديلا عن إسحاق. وهذه لحظة تشير إلى تخلي اليهود عن التضحية الإنسانية.
كما يمكن أن نرى فيها أيضا وعيا بالطابع الاستبدالي للفدية المضحى بها.