** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
  الخياطة الرفيعة والثقافة الرفيعة                                                                        بيير بورديو I_icon_mini_portalالرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

  الخياطة الرفيعة والثقافة الرفيعة بيير بورديو

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
الكرخ
فريق العمـــــل *****
الكرخ


عدد الرسائل : 964

الموقع : الكرخ
تاريخ التسجيل : 16/06/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 4

  الخياطة الرفيعة والثقافة الرفيعة                                                                        بيير بورديو Empty
14102012
مُساهمة الخياطة الرفيعة والثقافة الرفيعة بيير بورديو

ليس عنوان هذا العرض مزحة،
سأحاول حقا أن أتحدث عن العلاقة بين الخياطة الرفيعة والثقافة. إن الموضة
موضوع يحظى بالأفضلية في التقليد السوسيولوجي بقدر ما هو موضوع نزق في
الظاهر. إن تراتب موضوعات البحث هو من أكثر الموضوعات أهمية في علم اجتماع
المعرفة: فأحد المنافذ الذي تمارس بواسطته الرقابة الاجتماعية هو بالضبط
هذه التراتبية للموضوعات منظورا إليها من حيث هي صالحة أو غير صالحة لأن
تكون موضوعات مدروسة. وتلك إحدى أقدم القضايا في التقليد الفلسفي، ومع ذلك
فإن الدرس القديم لمحاورة بار منيد التي تقرر وجود مثال لكل شيء من
الأشياء، بما في ذلك مثل القذارة والزغب، لم يصغ إليه كثيرا الفلاسفة الذين
هم على وجه العموم أوائل ضحايا هذا التعريف الاجتماعي لتصنيف الموضوعات
تصنيفا تراتبيا. أعتقد أن هذا التقديم لا يخلو من فائدة وذلك لأنه إذا ما
ردت تبليغ شيء هذا المساء، فهو هذه الفكرة بأن هناك فوائد علمية في دراسة
موضوعات غير مشرفة دراسة علمية.
يرتكز حديثي على التناظر في البنية بين مجال إنتاج هذه الفئة الخاصة من
الممتلكات الرفيعة التي هي الممتلكات الخاضعة للموضة، ومجال إنتاج هذه
الفئة الأخرى من الممتلكات الرفيعة التي هي ممتلكات الثقافة المشروعة
كالموسيقى والشعر والفلسفة... الخ وهذا ما يجعلني أتحدث عن الثقافة
الرفيعة في الوقت الذي أتحدث فيه عن الخياطة الرفيعة. سأتحدث عن إنتاج
التعليقات حول ماركس أو حول هيدجر، وحول إنتاج الرسوم أو الحديث عن الرسم.
ستقولون لي: "لماذا لا تتحدث عنهم مباشرة؟". لأن هذه الموضوعات المشروعة
محمية من طرف مشروعيتها نفسها ضد النظرة العلمية وضد عملية نزع صفة
القدسية التي تفترضها كل دراسة علمية للموضوعات التي أضيفت عليها صبغة
قدسية: (أعتقد أن علم اجتماع الثقافة هو علم اجتماع الدين لعصرنا). عندما
أتحدث عن موضوع خاضع لحراسة أقل، فإني آمل أيضا أن أبلغ بسهولة ما كان
بدون شك من الممكن رفضه إذا ما قلته بصدد أشياء أكثر قدسية.
إن قصدي هو أن أقدم مساهمة في سوسيولوجيا المنتجات الثقافية، أي في
سوسيولوجيا المثقفين وفي نفس الوقت في تحليل الصنمية (الفيتيشية) والسحر.
هنا أيضا يمكن أن يقال لي: "ولكن لماذا لا تذهب لدراسة السحر في المجتمعات
(البدائية) بدل أن تدرسه لدى كريستيان ديور أو لدى بيير كاردان؟"(2).
أعتقد أن إحدى وظائف الخطاب الأتنولوجي هو أن يقول أشياء تكون مقبولة حين
تنطبق على شعوب بعيدة، مع الاحترام الذين نكنه لها، ولكنها تكون أقل قبولا
حين نصف بها مجتمعاتنا. يتساءل ماوس، في نهاية ما كتب حول السحر: "أين هو
ما يقابله في مجتمعنا؟". أود أن أبرز أنه يتعين أن نبحث عن هذا المقابل
في مجلة هي Elle أو
جريدة لوموند (وخاصة في صفحتها الأدبية). سيكون الموضوع الثالث للتفكير
هو: فيم تقوم وظيفة علم الاجتماع؟ أليس علماء الاجتماع أشبه ما يكونون
بالمشاغبين الذين يظهرون في الحفلات للتشويش على المظاهر السحرية للاندماج
الجماعي؟ تلك أسئلة يمكن أن تتسلوا بمحاولة الحسم فيها بعد الاستماع لما
أقول.
سأبتدئ أولا بوصف سريع جدا لبنية مجال إنتاج الخياطة الرفيعة. أطلق لفظ
المجال على مكان اللعبة، أي المجال الذي تقوم فيه علاقات موضوعية بين
أفراد أو بين مؤسسات في حالة تنافس لاكتساب مزايا متماثلة. والمسيطرون في
هذا المجال الخاص الذي هو عالم الخياطة الرفيعة هم أولئك الذين يمسكون من
أعلى بزمام السلطة والقدرة على تشكيل بعض المنتجات على أنها موضوعات نادرة
بواسطة عملية وضع "العلامة"، هم أولئك الذين يكون لعلامتهم المميزة أغلى
ثمن. والقانون العام للمجالات هو أنه مجال محدد، يدخل أصحاب الموقع
المسيطر، أي أولئك الذين يمتلكون أكبر رأسمال خاص، في تعارض متعدد الأشكال
مع الداخلين الجدد (استعمل هنا عن قصد هذا المجاز المستعار من الاقتصاد)،
أي مع الآتين الجدد، الذين أتوا متأخرين، وهم لا يملكون الكثير من رأس
المال النوعي. يتمسك القدماء باستراتيجيات المحافظة، التي تستهدف إلى
استخلاص الفوائد من رأسمال تمت مراكمته تدريجيا.
أما المنخرطون الجدد فيتبنون استراتيجيات التمرد الموجهة نحو مراكمة
للرأسمال النوعي تفترض قلبا جذريا إلى هذا الحد أو ذاك للوحة القيم،
وإعادة تحديد ثوري إلى هذا القدر أو ذاك لمبادئ إنتاج وتقييم المنتجات،
وتسعى في نفس الوقت إلى الحط من قيمة رأس المال الذي هو بحوزة المسيطرين.
خلال الحديث المتلفز بين بالمان وشيرر، تكونون قد فهمتهم بسرعة، على الأقل
من خلال ألقائهم، من هو على "اليمين"، ومن هو على "اليسار" (في المساحة
المستقلة نسبيا للمجال). (يتعين علي هنا أن أفتح قوسا. حين أقول "يمين"
و"يسار"، فأنا أعلم وأنا أقول ذلك أن المقابل العملي الذي لدى كل منا -مع
الرجوع الخاص إلى المجال السياسي- عن الإنشاء النظري الذي اقترحه سيعوض عن
عدم الكفاية الملازمة للتبليغ الشفوي. ولكن في نفس الوقت أعلم أن هذا
المقابل العملي يمكن أن يبرز، وذلك لأنه إذا لم يكن في ذهني سوى اليمين
واليسار كوسائط للفهم، فإني لن أكون قد فهمت شيئا. إن الصعوبة الخاصة بعلم
الاجتماع تأتي من كونه يعلم أشياء يعرفها الجميع بصورة من الصور، ولكننا
لا نريد أن نعرفها، أو لا نستطيع معرفتها، لأن قانون النسق هو محاولة
إخفائها. أعود إلى الحوار بين بالمان وشيرر. بالمان يستعمل جملا طويلة،
منتفخة قليلا، ويدافع عن النوعية الفرنسية، وعن الإبداع... الخ أما شيرر
فيتحدث كما لو كان أحد زعماء أيار (مايو) 1968 ،
أي بجمل غير تامة، مستعملا باستمرار نقط التعجب... الخ. وقد استخرجت كذلك
في الصحافة النسائية النعوت الملصقة عادة بمختلف الخياطين. فمن جهة لديكم
"رفيع، خصوصي، ذو حظوة، تقليدي، دقيق، مختار، متوازن، دائم"، ومن جهة
ثانية: "جد أنيق، مرح، أليف، عجيب، مشع، حر، حماسي، ذو بنية، وظيفي".
ويمكن أن نتنبأ، بل يمكن أن نفهم، انطلاقا من المواقع التي يحتلها مختلف
العاملين أو مختلف المؤسسات في بنية المجال، والتي تتناسب كثيرا مع
أقدميتهم، مواقفهم الجمالية كما يتم التعبير عنها في النعوت المستعملة
لوصف منتجاتهم أو في مؤشر آخر: كلما انتقلنا من القطب المسيطر إلى القطب
المسيطر عليه وجدنا عددا أكبر من السراويل في مجموعات الأزياء، وقلت
عمليات القياس، وانعدمت الأرضية السنجابية، واستبدلت الأسماء، المختزلة
بالبائعات ذوات الميني جوب أو المكسوات بالألمنيوم، وبذلك ننتقل من الضفة
اليمنى إلى الضفة اليسرى. ضد استراتيجيات التمرد الخاصة بالطليعة، يتمسك
الحائزون على الشرعية، أي الذين يحتلون موقع السيادة والسيطرة، بخطاب عائم
ومنتفخ من التلقائية التي لا يمكن وصفها: وكما هو الحال بالنسبة
للمسيطرين في مجال العلاقات بين الطبقات، فإن هؤلاء يتمسكون باستراتيجيات
محافظة، دفاعية، يمكن أن تظل صامتة ومضمرة لأن هدفهم هو أن يكونوا ما هم
ليصبحوا كما يتعين عليهم أن يكونوا. وبالعكس فإن لخياطي الضفة اليسرى
استراتيجيات تهدف إلى قلب المبادئ نفسها التي تقوم عليها اللعبة، لكن باسم
اللعبة نفسها، وبروح هذه اللعبة: إن استراتيجياتهم في العودة إلى المنابع
تقوم على أن يعارضوا المسيطرين على المجال باسم نفس المبادئ التي يبرر بها
المسيطرون سيطرتهم. وهذه الصراعات بين الممسكين بزمام السلطة في المجال
وأصحاب الدعوة الجديدة، المبارزين، الذين يتحتم عليهم، كما هو الأمر في
المصارعة، أن "يلعبوا اللعبة"، وأن يخاطروا في سبيلها، هي أساس التغيرات
التي يكون مجال الخياطة الرفيعة مسرحا لها.
لكن شروط الدخول في المجال هو الاعتراف باللعبة وآثارها والاعتراف في
نفس الوقت بالحدود التي يتعين عدم تجاوزها وإلا عرض المرء نفسه للإقصاء
خارج اللعبة. يستتبع ذلك أن الصراع الداخلي لا ينتج إلا ثورات جزئية،
قادرة على تحطيم التراتب القائم دون أن يقضي على اللعبة نفسها. من يريد أن
يقوم بثورة في ميدان السينما أو الرسم يقول: "لست هذه هي السينما
الحقيقة" أو "ليس هذا هو الرسم الحقيقي". إنه يصدر إدانات لكن باسم تعريف
أكثر صفاء وأكثر صدقا لما باسمه يسود السائدون.
وهكذا فلكل مجال أشكاله الخاصة في الثورة، أي له تحقيبه الخاص. وليست
تقطيعات مختلف المجالات متزامنة بالضرورة. ويبقى أن للثورات الخاصة بكل
مجال علاقة مع التغيرات الخارجية. لماذا قام كوريج بثورة، وفيم يختلف
التغيير الذي أحدثه كوريج مع التغيير الذي يحدث كل سنة على هيأة "قصير
قليلا، طويل قليلا"؟ إن الخطاب الذي يتبناه كوريج يتعالى كثيرا على
الموضة: فهو لا يتحدث عن موضة، بل يتحدث عن المرأة العصرية التي يتعين أن
تكون حرة، طليقة، رياضية، على هواها. وفعلا أعتقد أن ثورة نوعية، أي شيئا
يؤرخ له في مجال معين، هي التوقيت التزامني لثورة داخلية مع شيء يجري في
الخارج، في العالم المحيط. ما الذي يفعله كوريج؟ أنه لا يتحدث عن الموضة،
بل يتحدث عن نمط الحياة ويقول: "أريد أن ألبس المرأة العصرية التي يتعين أن
تكون في نفس الوقت نشيطة وعملية". إن لكوريج ذوقا "تلقائيا"، أي يتم
إنتاجه في ظل بعض الظروف الاجتماعية، يجعله يكتفي بإتباع ذوقه ليرضي ذوق
بورجوازية جديدة تهجر طابعا معينا، وتبتعد عن موضة بالمان التي توصف بأنها
موضة النساء المسنات. إنه يهجر هذه الموضة من أجل تبني موضة أخرى تظهر
الجسم، وتجعله مرئيا وتفترض أن هذا الجسم سيكون برونزيا ورياضيا. أن كوريج
يقوم بثورة خصوصية في مجال خصوصي، لأ منطق التمايزات الداخلية قد قاده
إلى العثور على شيء كان يوجد من قبل في الخارج.
محرك المجال هو الصراع الدائم داخل المجال. نلاحظ بشكل عابر
أنه ليس هناك أي تعارض بين البنية والتاريخ وأن ما يحدد بنية المجال كما
أراها هو أيضا مبدأ حركيته. أن أولئك الذين يصارعون من أجل الفوز بالسيطرة
والسيادة على المجال يسلمون بأن المجال في تحول وأنه يعيد تشكيل بنيته
باستمرار. أن التعارض بين اليمين واليسار، بين المؤخرة والطليعة، بين
المحافظة والابتداع، بين موافقة الأصول والخروج عليها تعارض يغير باستمرار
من محتوى مادته ولكنه يظل هو هو في بنيته الشكلية. لا يمكن للطارئين
الجدد أن يبيدوا القدماء إلا لأن القانون الضمني للمجال هو قانون التميز في
كل المعاني التي تحتملها هاته الكلمة: إن الموضة هي آخر موضة، آخر
اختلاف. إن رمز وشعار الطبقة (في كل معاني هذه الكلمة) يبلى حين يفقد
قدرته التميزية، أي حين يصبح شعارا شائعا. حين تصل الميني جوب إلى الأحياء
العمالية في Bethune ، فإنه يتعين العودة للانطلاق من الصفر.
إن جدل الادعاء والتميز الذي هو أساس التحولات التي تقع في
مجال الإنتاج يوجد أيضا في ميدان الاستهلاك: وهذا الجدل يطبع ما أدعوه
بصراع المنافسة، وهو ضرب من الصراع الطبقي المتواصل والمستمر.
إن طبقة ما تحوز ملكية محددة، والطبقة الأخرى تحاول إدراكها
وهكذا، يتضمن جدل المنافسة هدا، السباق نحو نفس الهدف والاعتراف الضمني
بهذا الهدف. ينطبق الادعاء دوما مهزوما لأنه -بالتعريف- يتقبل هدف السباق،
ويقبل في نفس الوقت العائق الذي يحاول تجاوزه. ما هي الشروط المناسبة
(لأن ذلك لا يتم بموافقة الوعي الواضح ليتوقف بعض المتسابقين عن الجري،
ليخرجوا من حلبة السباق، وعلى وجه الخصوص الطبقات الوسطى التي هي وسط
المجموعات المتسابقة؟ ما هي اللحظة التي يكون فيها احتمال رؤية المصالح
متحققة مع البقاء في السباق أضعف من احتمال رؤيتها متحققة خارج السباق؟
أعتقد أنه بهذا الشكل يتم طرح المسألة التاريخية للثورة.
يتعين علي هنا أن أفتح قوسا فيما يتعلق بالبدائل القديمة
مثل أزمة. إجماع، ثابت/متحرك، التي هي بلا ريب العائق الأساسي لفهم علمي
للعالم الاجتماعي. وفعلا فإن هناك شكلا من الصراع يقتضي الإجماع حول شروط
ونتائج الصراع، ويمكن ملاحظته بصورة واضحة في ميدان الثقافة. وهذا الصراع،
الذي يأخذ صورة سباق-ملاحقة (سيكون لدى مالديك... الخ)، صراع إدماجي، فهو
تغير يسعى إلى تحقيق الاستمرارية. آخذ هنا مثال التربية، لأن النموذج
يبدو لي هنا واضحا. نحن نقيس احتمالات الولوج إلى التعليم العالي في
اللحظة ت، فنعثر على توزيع يتضمن هذا القدر من أبناء العمال، وهذا القدر من
أبناء الطبقات الوسطى،... الخ ونقيس احتمالات الولوج إلى التعليم العالي
في اللحظة ت+آ، نعثر على بنية مناظرة: لقد تزايدت القيم المطلقة لكن الشكل
العام للتوزيع لم يتغير. وفعلا، فهذا الانزياح الذي نلاحظه ليس ظاهرة
آلية بل هو النتاج المتجمع لكثير من التسابقات الصغيرة الفردية ("الآن
يمكن أن نضع الولد في المدرسة"... الخ)، إن محصلة شكل خاص من أشكال
التباري يتضمن الاعتراف بمستلزمات الرهان. إن أساس العملية التي وصفناها
عن طريق المجاز الآلي للانزياح أو الانزلاق هو عدة استراتيجيات، متشكلة
بالقياس إلى أنساق مرجعية جد معقدة. فنحن نفكر عادة عن طريق متقابلات
متعارضة "إما أن يتغير الأمر أو لا يتغير"."ثابت أو متحرك". هكذا كان
أوغست كونت يفكر، وليس هذا عذرا. ما أحاول إظهاره هو أن هناك ثابتا هو
نتيجة للتغير.
لمجال الإنتاج، كما هو الأمر في مجال الطبقات الاجتماعية
وأساليب الحياة، بنية معينة هي نتيجة تاريخه السابق ومبدأ تاريخه اللاحق.
ومبدأ تغيره هو الصراع من أجل احتكار التميز، أي احتكار فرض آخر فرق
مشروع، آخر موضة وهو صراع يكتمل في النهاية بالسقوط التدريجي لمغلوب
الأمس. وهكذا نصل إلى مشكل آخر هو مشكل الخلافة. لقد عثرت في مجلة (هي Elle ) أو مجلة (ماري كلير Marie-claire ) على مقال رائع بعنوان: "هل يمكن خلافة شانيل Chanel "
لقد تساءل الناس طويلا عما سيجري لخلافة الجنرال ديغول، وقد كان هذا
المشكل جديرا بالمعالجة من طرف جريدة لوموند، لكن خلافة شانيل مشكل جدير
بمجلة ماري كلير، وفعلا، فإن الأمر يتعلق بالضبط بنفس المشكل. وهذا ما
يدعوه ماكس فيبر بمشكل "إضفاء صفة الرتابة على أمور سامية"(3): كيف يمكن
تحويل الانبثاق الفريد الذي يدخل عدم الاتصال في عالم ما إلى مؤسسة دائمة؟
كيف يمكن أن نصنع ما هو متصل مما هو غير متصل؟ "منذ ثلاثة أشهر تمت تسمية
غاستون برتلو G.Berthelot
(وكلمة "تسمية" هاته لفظة تنتمي إلى مصطلحات البيروقراطية، وبالتالي فهي
مناقضة تماما لمصطلحات الإبداع)، تمت تسميته من يوم لآخر "مسؤولا فنيا"
(هنا يتم خلط المصطلحات البيروقراطية بمصطلحات الفن)، مسؤولا فنيا لدار
شانيل في كانو الثاني (يناير) 1971 ، بعد موت مدموازيل، كما تم تقديم "الشكر" له بسرعة لا تقل عن ذلك. لكن (عقده) لم يجدد.
وسرت همسات شبه رسمية: لم يعرف كيف (يفرض نفسه). ويجب أن
نقول أن التكتم الطبيعي لغاستون برتلو قد شجع من طرف الإدارة". هنا بدا
الأمر مهما جدا، لقد فشل لأنه وضع في ظروف كان من المحتم عليه فيها أن
يفشل. "لا استجواب، لا تقديم، لا ريح تهب" (يبدو ذلك كما لو كان كلمة
صحفي، لكنه فعلا، شيء أساسي). لقد كانت هناك أيضا تعليقات فريقه أمام أي
اقتراح من اقتراحاته: "هل كان النموذج مطابقا، أمينا محترما؟ لا ضرورة
لوضع نماذج من أجل ذلك، لنأخذ الخياطين القدماء ولنبدأ. لكن أمام تنورة Jupe جديدة وأمام جيب معدل: لم يكن من الممكن أن تسمح مدموازيل بذلك". إن ما هو مذكور هنا هو نقائض الخلافة الكارزمية.
إن مجال الموضة مجال في منتهى الأهمية لأنه يحتل موقعا
وسيطا (في مكان مجرد نظريا وبشكل طبيعي) بين مجال مصنوع لتنظيم الخلافة،
تماما مجال البيروقراطية حيث يكون الفاعلون بالتعريف قابلين لأن يحل بعضهم
محل الآخر، ومجال يكون فيه الأفراد غير قابلين نهائيا للاستبدال كما هو
الأمر بالنسبة لمجال الإبداع الفني والأدبي أو للإبداع الرسولي. لا يقال:
"كيف يمكن استبدال يسوع؟" أو "كيف يمكن استبدال بيكاسو؟". إن ذلك غير قابل
للتصور. أما هنا فنحن في حالة مجال يكون من الممكن فيه في نفس الوقت
تأكيد القدرة الغيبية للمبدع وتأكيد إمكانية استبدال ما لا يمكن استبداله.
إذا لم يفز غاستون برتلو، فذلك لأنه معاق بين مطلبين متناقضين. فالشرط
الأول الذي وضعه سلفه هو القدرة على الكلام. إذا فكرنا في الرسم الطليعي،
في الرسم المفهومي، فسنفهم أنه أمر أساسي أن يستطيع المبدع أن يبدع نفسه
كمبدع باصطناع الخطاب الذي يكرس قدرته كمبدع.
إن مشكل الخلافة يبرز أن ما هو موضع سؤال هو إمكانية نقل قدرة مبدعة، سيقول الاتنولوجيون هذا ضرب من المانا Mana . ينجز الخياط عملية نقل وتحويل للمادة. لديكم عطر في محلات السعر الواحد Monoprix
بثلاثة فرنكات. لكن العلامة المميزة تجعل منه عطر شانيل الذي يساوي
ثلاثين مرة أكثر. وهو نفس السر فيما يتعلق بمبولة ديشامب التي هي مبولة
مشكلة على هيأة موضوع فني، لأنها في نفس الوقت ممهورة بإمضاء رسام، ولأنها
موضوعة في مكان محفوظ. حيث يحولها، باستقباله لها، إلى موضوع فني محول
بهذا الشكل اقتصاديا ورمزيا. إن العلامة La Griffe
ختم يغير لا الطبيعة المادية للموضوع، بل يغير طبيعته الاجتماعية. لكن
هذا الختم اسم علم. وبنفس الوقت فإن مشكل الخلافة يطرح هنا. فالوارث لا
يرث إلا أسماء عامة أو وظائف مشتركة وليس اسم علم. وبعد ذلك فكيف تم إنتاج
هذا الاسم العلم؟ لقد جرى التساؤل عما يجعل الرسام مثلا مزودا بالقدرة
على إبداع القيمة. وقد تم ذكر الدليل الأسهل، الأكثر بداهة: وحدة الأعمال
الفنية. ولكن ما هو موضع رهان ليس هو ندرة النتاج، بل هو ندرة المنتج.
ولكن كيف تم إنشاء هذه الندرة؟
يتعين إعادة تناول ما كتبه ماوس عن السحر. يبتدئ ماوس
بالتساؤل: "ما هي السمات الخاصة بالساحر؟" ويتساءل بعد ذلك: "ما هي السمات
الخاصة بالعمليات السحرية؟". لكنه يرى أن ذلك لا يؤدي إلى نتيجة فيتساءل
"ما هي السمات الخاصة بالتمثلات السحرية؟" وهكذا يصل إلى أن محرك التمثلات
السحرية هو الاعتقاد، الذي يحيل إلى الجماعة. وبلغتي الخاصة فإن ما يشكل
سلطة المنتج هو المجال، أي نسق العلاقات في مجموعه. إن الطاقة هي المجال.
إن ما يعبؤه ديور Dior
هو شيء لا يمكن تحديده خارج المجال، إن ما يعبئونه جميعا هو ما ينتجه
المجال، أي قدرة وسلطة تقوم على الإيمان بالخياطة الرفيعة. ويستطيع هؤلاء
أن يجندوا قسما أكبر من هذه السلطة كلما كان موقعهم أعلى في السلم المكون
للمجال.
إذا كان ما أقوله صحيحا، فإن انتقادات كوريج ضد ديور،
واعتداء هشتر على كوريج أو ضد شيرر تسهم في تشكيل سلطة كل من كوريج وشيرر
وسلطة كل من هشتر وديور. إن الشخصين المتطرفين في المجال متفقان معا على
الأقل حول ما هو رجعي وعلى أن الفتيات اللواتي يلبسن كيفما اتفق، أمر جيد،
وجد جميل...الخ. لكن إلى حد ما. ماذا تفعل الفتيات اللواتي يرتدين ما هو
رث؟ إنهن يجادلن في احتكار الاستعمال المشروع لهذا الشيء Truc
الخاص الذي هو المقدس في مادة الخياطة، كما يجادل أصحاب البدعة في احتكار
الكهنوتي للقراءة المشروعة. إذا تمت المجادلة في احتكار القراءة
المشروعة، وإذا استطاع أول قارئ أن يقرأ الأناجيل أو أن يصنع فساتينه، فإن
المجال هو الضحية. ولمنافحات الكتاب دوما حد لا تتخطاه هو احترام ما هو
أدبي.
إن ما يجعل المجال يسير سيرا عاديا هو ما يدعوه ماوس
بالاعتقاد الجماعي. وسأقول بل الإنكار الجماعي. يقول ماوس بصدد السحر: "إن
المجتمع يؤدي لذاته دوما الثمن من العملة الفاسدة لحلمه"(4). ومعنى ذلك
أنه يتعين القيام باللعب في هذه اللعبة: إن الذين يستهترون هم أيضا ضحايا
للاستهتار وهم يستهترون أكثر وأحسن كلما كانوا هو أيضا موضوع استهتار، وهم
مضللون كلما كانوا مضللين وكلما ازداد خضوعهم للتضليل. يتعين، من أجل
القيام باللعب في هذه اللعبة، الاعتقاد بإيديولوجية الإبداع، وحين يكون
المرء صحفيا بالموضة، فليس محمودا أن تكون له رؤية سوسيولوجية للموضة.
إن ما يشكل القيمة، ما يشكل سحر العلامة المميزة، هو تصادم
كل الفاعلين في نطاق نسق إنتاج الخيرات التي أضفى عليها طابع مقدس. وهو
تصادم لاشعوري بالطبع. إن المدارات التي يتم فيها تسخير النتاج تكون أقوى
كلما كانت أطول وأكثر تعقيدا وأكثر خفاء، حتى في عين أولئك الذين يشاركون
في اللعبة ويستفيدون منها. كل الناس يعرفون مثال نابليون وهو يأخذ التاج
من يدي البابا ليضعه بنفسه على رأسه. إنها دائرة تكريس قصيرة جدا، ومن
السهل التعرف عليها. إن دائرة التكريس الفعالة هي الدائرة التي يكرس فيها
ألف باء وهذا يكرس ويخصص حـ، الذي يكرس بدوره دال الذي يكرس ألف. وكلما
كانت دائرة التكريس معقدة ومتشابكة كانت غير مرئية، ولكلما صعب التعرف على
بنيتها، كانت فاعلية الاعتقاد فيها أكبر. (يتعين، ضمن هذا المنطق، تحليل
المسار الدائري للتقارير التقريظية أو التبادل الطقوسي للإحالات
والمراجع). إن الذي يبرز بوضوح بالنسبة لمن يوجد في المجال، سواء كانت
منتجا أو مستهلكا، هو النسق. بين شانيل وعلامته المميزة، هناك النسق كله،
هذا النسق الذي لا يعرفه أحد أحسن وأردأ في نفس الوقت من شانل نفسه.

هوامش:
(1) « Haute couture et haute culture » in. P. Bourdieu : Questions de sociologie, Minuit 1980.
( 2 ) المحلات الذائعة الصيت لإنتاج الأزياء والعطور الباريسية الرفيعة.
(3) « Laroutinisation du charisme ».
(4) « La Société se paie toujours elle-même de la fausse monnaie de son rêve ».

تعريف:
بيير بورديو عالم اجتماع فرنسي معاصر، تتميز كتاباته الاجتماعية بالروح
النقدية، كما يتجلى فيه تأثره بالسوسيولوجيا الألمانية وخاصة بماكس فيبر.
من مؤلفاته: "سوسيولوجية الجزائر"، "الاجتثاث"، "مهنة عالم الاجتماع"
"إعادة الإنتاج"، "محاولة في نظرية الممارسة"، "التميز"، "الحس العملي".
انتخب بورديو أخيرا عضوا بالكوليج دوفرانس حيث ألقى بحثا بعنوان "درس حول
الدرس".




العنف
بقلم: ايف ميشو

هناك ثلاث وقائع تحكم التفكير في العنف:
1 -
لقد كان العنف، الذي هو ماثل اليوم في معظم المجتمعات بأشكال متعددة
تبتدئ من أكثر الأشكال اختفاء (نقص التغذية) إلى أكثرها ضراوة
(الإعدامات)، من بين السمات المميزة لمجتمعات الفرن العشرين. فقد حدثت فيه
حربان عالميتان انتهت إحداهما بما يشبه القيامة النووية (هيروشيما)،
والعديد من الإبادات، وأشكال مختلفة من العنصرية والاضطهاد ومن عدم
التسامح، والحروب الاستعمارية الجديدة وحروب التحرير، والأنظمة العسكرية
والبوليسية ومعسكرات الاعتقال والتجميع وإعادة التربية والإرهاب، والتطوير
العلمي تقريبا للتعذيب، والاضطهاد والسيطرة والمساومات الاقتصادية،
وأخيرا الإجرام الذي هو جزء مهمل من العنف ولكنه مستغل من طرف الإعلام: إن
هذه اللائحة مملة وغير وافية. وهي تقدم لنا، على كل حال، حصيلة ما
للمجتمعات التي تتوجه مع ذلك نحو الاشتراكية والديمقراطية والتقدم
والوفرة... الخ.
2 -
لقد تسبب هذا الحضور القوي والمثير للعنف (لكن المألوف في النهاية) في
إحدى أشكال الفشل الأساسية للفلسفة السياسية. لقد فقد الفكر، بالانتقال من
مغامرة إلى مغامرة، يقيناته وتراجع، سواء تعلق الأمر بالادعاءات العلمية
أو المعتقدات المذهبية الخاصة بالأفكار الثورية، وبمظاهر الشلل أو التحذير
تجاه الأنظمة الاستبدادية والهذيانات الفاشيستية، وبالتبريرات الباردة
للاختيارات النووية، وبالنزعة المتطرفة للاتجاهات الإرهابية. لقد انفتحت
الأعين وتبددت الأوهام، لكن لتترك المجال لنوع من الغباوة تجاه عالم تضاعف
فيه العلاقات الدولية التحالفات الشاذة، وتتحول فيه، في الأغلب الأعم،
المشروعات الثورية إلى أشكال من الاضطهاد، وتسوده الواقعية والوقاحة.
فقضايا اللاجئين تناقش تبعا لقيمة المواد الأولية والأقليات تساوي ثمن
العلاقات الديبلوماسية. وباستثناء بعض الحالات النادرة فإن الفكر كان في
حالة ركوض وراء عنف يعميه، وقد كانت نقطة العمى وستظل هي الفاصل القائم
بين المثل والإمكانات الفعلية للتحرر (الذي لم يكف أي نظام في هذا القرن
عن إدعاء الانتماء إليها)، وبين واقع المصالح والفحش والحسابات التي تحكمت
في مسار التاريخ، وبين الإعلان المستمر عن غايات سامية وواقع الممارسات
الخسيسة أصبح العنف لغزا مألوفا أحيانا، وكأه كان من اللازم أن يخدم
أهدافا أخرى، وأن يخفي عمليات أخرى، وكأنه لا يستطيع أن يكون فقط ما هو،
بل عليه أن يحيل على واقع آخر.
كان من اللازم إذن فهم العنف، وفك رموزه وتأويله بتبرير
مشروعيته أو بإدانته باسم مجرى التاريخ، وبنية المجتمعات، وأزماتها ومخاض
تقدمها. كان من اللازم إيجاد أسباب له أو غايات سامية.
3 -
وبإزاء بداهة هذه الأشكال المتعددة من العنف وهذه النظريات الفكرية
الناقصة تنضاف روح الحذر المرتبطة بنزعة نسبوية متنامية. ومن مغامرة
تاريخية إلى أخرى بدا أن معايير إدراك الواقع متعددة. وبصدد حالة العنف،
حيث تتصارع وجهات نظر متعارضة، أخذ هذا الحذر الشكل التالي: ماذا نعرف، في
العمق، ماذا يمكن أن نعرف ما الذي نريد فعلا أن نعرف عنه كلما نظرنا إليه؟
هل أصبحنا فقط أكثر حساسية تجاه ما يلحقه من دمار أم أن أهوال القرن
العشرين هي فعلا أهوال جديدة؟ لا يتعلق الأمر، على وجه التأكيد، بأن نجعل
من العنف مجرد طريقة في الرؤية،بل إنه يقدم غالبا كتهديد أو وباء جديدين
بحيث يكون من الضروري التذكير بنسبية الإدراكات الاجتماعية: في الوقت الذي
لا يرى البعض إلا قدرية البؤس، نرى آخرين يدينون الاستغلال البشع، وما
يدعوه البعض عملية إعادة التربية يدعوه آخرون عملية غسل الدماغ، إذا كان
ظاهرة اجتماعية واقعية كليا، فإنه من اللازم تقييم الواقع من خلال
مراعاة نسبية المعايير المتصارعة واليقين المتكافئ لكل واحد من
المتصارعين.
وهذه النسبية في الإدراك تصدق أيضا على المستوى التاريخي
وبالملموس فإنه سيكون من المستحسن التساؤل عن الفروق التي بمكن أن تكون
بين الإرهاب الثوري في عهد الاتفاق الوطني (بفرنسا سنة 1892 ) والإرهاب الستاليني، وبين نفي الهوغونوت الفرنسيين بعد نقض مرسوم نانت من طرف لويس الرابع عشر في 1685 (هاجر %1
من سكان فرنسا إلى عدة دول أوربية) ونزوح لاجئي جنوب شرق آسيا. ليس ذلك
من أجل أن نستخلص بأن لا شيء يتغير أو على العكس من ذلك بل كل شيء يتغير،
ولكن لنتعلم من جديد أن ننظر إلى الوقائع ضمن ظروف إنتاجها التاريخية وضمن
تنوع الإدراكات الممكنة لها.
بعد تسجيل هذه التحفظات نبدأ بالحديث عن موضوعية العنف.
موضوعية العنف:
بمعنى عام، ومن أجل إبعاد الأكاذيب والدعايات، نقول إن هناك
عنفا عندما يحطم واحد أو عدد من الفاعلين شخصا آخر، مباشرة، أو بصورة غير
مباشرة، دفعة واحدة أو بالتدريج، أو يمسهم في كيانهم الجسمي أو النفسي،
في ممتلكاتهم أو في انتماءاتهم الثقافية أو الرمزية المختلفة. ليس العنف
فقط مسألة جروح أو قتل، إذ يمكن أن يكون التحطيم سيكولوجيا بواسطة التعذيب
أو النفي، أو الإيذاء في الممتلكات أو يلحق لغة الجماعة، أو ثقافتها، أو
معتقداتها، أو يعني الحرمان من العمل... الخ:
لا يستهدف هذا الوصف العام تقديم تعريف واق، بل الحيلولة
دون انفلات العديد من مظاهر العنف عندما يمكنه التقدم التقني والقدرات
الأداتية من أن يمارس بشكل مكتمل وواف: فبدل تنفيذ الإعدام، يمكن تنظيم
معسكرات عمل يموت فيها المعتقلون من الحرمان والإنهاك، وبدل التعذيب
الوسخ، يمكن اللجوء إلى معاملة طبية نفسية، وبدل الاعتقال، يمكن القيام
بمضايقات إدارية غير محددة أو الحكم بالنفي الخ. وفعلا فإن ما يميز العنف
المعاصر عن أشكال العنف التي عرفها التاريخ، هو التدخل المزدوج للتكنولوجيا
والعقلنة في إنتاجه.
1 - تكنولوجيا الوسائل:
يشمل تطوير الوسائل التسليح الفردي كما يشمل وسائل الخراب
الجماعي - وهي ليست فقط وسائل نووية، بل إن هذه الوسائل متوفرة وموزعة
بسهولة من طرف التجارة الدولية في الأسلحة، والمعاهدات المتعلقة بالمساعدة
المعنوية العسكرية، التي هي إحدى مصادر الاستغلال الأكثر مردودية بالنسبة
للبلدان المصنعة. إن هذه التكنولوجيا المتطورة لا تجعل العنف في المتناول
فقط، بل تجعله على وجه الخصوص أكثر فتكا. ووسائل القتل والجرح والتخريب
لا علاقة لها بالوسائل اليدوية المستعملة في الماضي. وهذا يسري على الدول،
كما يسري أيضا، مع الفارق، على الأفراد، كما لاحظنا ذلك بالنسبة
للإرهاب... إن جيشا كلاسيكيا يعادل في قوته قوة فرقة أو فرقتين من الجيوش
الحالية، وقوته النارية شيء ضئيل بالقياس إلى 53 طنا من الذخيرة التي يمكن أن تقذف بها فرقة آلية سوفياتية في دفعة واحدة منذ 1968 . والقوات الأمريكية قد صرفت على كل فرد من العدو تم قتله ما يناهز 1100 كلغ من المتفجرات خلال الحرب العالمية الثانية، و 5600 كلغ خلال الحرب الكورية و 17800 كلغ خلال حرب الفيتنام، وحساب هذه النسب وغيرها يعلمنا الشيء الكثير عن هموم التسيير.
2 - التسيير:
من المثير أن نتحدث عن التسيير بصدد ظواهر طالما اتسمت
باللامعقولية لكن ذاك هو بيت القصيد: فالعنف قد أصبح بالتدريج أمرا قابلا
للحساب وللتحكم والتسيير. لقد أفسح فن الاستراتيجية المجال أمام مبادئ
التسيير. وهذا يصدق على الحسابات الاستراتيجية حيث يحسب المتعادون
التكاليف والمكاسب المرتبطة بأعمالهم الممكنة، آخذين بعين الاعتبار
الإجابات الممكنة للآخر (ومن هنا ما ندعوه "توازن التهديد" في
الاستراتيجيا النووية والذي تم نقله إلى الاستراتيجيات الإرهابية أو إلى
الحفاظ على النظام في السياسة الداخلية).
وهذا صحيح أيضا بالنسبة للتسيير اليومي لأعمال ووسائل
العنف: التنظيم وفن تسيير الجيوش، ومقاييس مردودية الشرطة، وقوى الحفاظ
على النظام، والجيوش، وكذا في ميدان البرامج العسكرية، وتجديد النماذج،
والاستثمارات وإمكانية استعمالها بواسطة بيع الأسلحة.
3 - تكنولوجيا الأشخاص العاملين:
لقد أصبح من الضروري إسناد أمر العنف إلى محترفين مهرة،
وذلك بفعل تطور الوسائل وتعقدها، وبفعل الحسابات والحرص على الفعالية. لقد
أصبح هناك عسكريون ورجال شرطة متخصصين في العنف. وحركة التأهيل والاختصاص
هاته تشمل أيضا المناضلين الثوريين.
4 - تكنولوجيا الإعلام:
لم يعد العنف منفصلا عن وسائل الإعلام التي تنشره وتستعمله
كما تشاء أو تصمت عنه. فالإرهاب العلني، والتعذيب، والإعدامات، والتهديدات
الديبلوماسية، والمناورات العسكرية، والوقائع المتنوعة المثيرة: كل تلك
حالات يظهر فيها التلازم بين العنف الواقعي وانتشاره الإعلامي.
يمكننا تطبيق التقدم التقني والعلمي على استعمال العنف وعلى إدارته من فهم عدة نقاط.
1 -
أولا الفعالية المضاعفة المتوصل إليها بصدد أشكال التخريب. فإبادة مجموعة
بشرية، وتبديد المزروعات وشحن الملايين من الأشخاص عمليات تتطلب وسائل
وتنظيما لم يسبق له مثل. لقد أصبح العنف صناعيا، لقد أصبح أيضا صناعة.
2 -
ومن حيث أن العنف قابل للحساب ويمكن التحكم فيه فإنه يمكن أن يحقق مردودية
إذ من الممكن فرض سيطرة بواسطة التعذيب، والقمع، وتنظيم الإدانة.
من الممكن فرض بعض المطالب بواسطة الإرهاب. ومن هذه الزاوية
فإن العنف محايد، والتقييم الأخلاقي منفصل عن الفوز التاريخي.
3 -
في بعض الحالات، تمكن وسائل التسيير من إخفاء العنف المكشوف باللجوء إلى
وسائل فعالة أيضا، لكنها خفية. فالتعذيب النفسي (عن طريق العزل في مكان
محايد ووظيفي) يمكن أن يعرض ويقدم على أنه أكثر إنسانية من التعذيب
بالكهرباء. كما يمكن تعويض التهديد العسكري بتهديدات تتعلق بوقف التموين
الغذائي.
4 -
لكن، مثل هذا الاستخدام للعلوم وللتقنيات وللعقلنة لصالح التخريب يأخذ
طابعا مفجعا. ففي الوقت الذي كان فيه فكر الأنوار يرى في العقل الأداة
القوية للتحرر، فإن فجيعة القرن العشرين هي قيامه بعقلنة الشر.
تأويلات
إزاء هذه الموضوعية، أو إزاء ما نريد أن نرى فيها، تتكاثر
الاقتراحات والنظريات والتساؤلات. ويتعلق الأمر إلى حد ما بمحاولة تحديد
طبيعة العنف، وأسبابه وطرق علاجه، وذلك من أجل فهم مجموعة من الظواهر. ومن
البديهي أن التعريفات التي يمكن أن تتغير حسب المعايير المتخذة، ستحكم
وتوجه ما يمكن أن يقال عن الأسباب والعلاجات. فمن يغمض عينه عن العنف
الداخلي للمجتمعات التي يقال عنها أنها مجتمعات متقدمة معرض لأن يذهب إلى
البحث عن الأسباب والعلاجات في ظاهرة الإجرام وفي قمعها. وإذا ما راعينا
بالأحرى الأخطار العالمية، فإننا سنتحدث قبل كل شيء عن توزيع الخيرات،
والإمبرياليات، والتبادلات غير المتكافئة. يجب أن يكون من الواضح أن
المعايير التي نستخدمها لوصف العنف توجه عامة الخطابات ذات الادعاء
الموضوعي التي نتصورها عنه. وتوجه بالتالي، غالبا، المواقف العملية
المتخذة. وهذا هو السبب في أنه ليس هناك خطاب حقيقي وصحيح حول العنف:
فهناك درجات متفاوتة من العمى، ودرجات متفاوتة من الاشتباه، ودرجات
متفاوتة من الصدق في هذه الخطابات. ولا يمكننا أن نمر مر الكرام على
التقييمات الأخلاقية. وسنجمع نظريات العنف تحت ثلاثة أقسام: تلك التي تعود
إلى حدود نزعة أولية، وتلك التي تربط العنف بالتقسيم الاجتماعي، وتلك التي
تعالج الالتباسات المتعلقة بالتنظيم الاجتماعي للعنف.
أولا: نظريات النزعة العدوانية
لقد مكننا تطور المعرفة بحياة الحيوانات في بيئاتها الطبيعية (Ethologie )
من تسليط أضواء جديدة لا فقط على السلوكيات الاجتماعية للحيوان، بل أيضا
-وذلك عن طريق تعميم هذه النتائج في الغالب- على سلوكيات الإنسان كحيوان
إنساني. لقد قادت ظواهر العداء والتباري والتنافس والعدوان والخضوع إلى
التحدث عن وجود غريزة عدوانية بين الأفراد الذين ينتمون إلى نفس النوع
والتي يكون لها هدف مضبوط في عملية التطور: وهي أن تضمن تحقق أفضل حظوظ
الاستمرار والبقاء عن طريق اصطفاء الحيوانات الأكثر قوة، وأن توزع
الحيوانات على أمكنة كافية، وأن تحدد إمكان قيام تراتبات في السيطرة داخل
مجموعات محددة. ويضيف علماء البيئة الحيوانية بأن غريزة العدوان هاته لدى
الحيوان غريزة مراقبة ومنظمة بواسطة آليات كابحة تتحكم في اتجاهها وتحد من
آثارها حتى لا تحدث آثارا تخريبية داخل النوع. فالحيوان يهدد ويخلق طقوسا
تعويدية، ويقوم باستعراضات وحركات أكثر مما يقتل. والإنسان، كالحيوان،
سيكون كائنا عدوانيا، مع ما يستتبع ذلك من الميزات البيولوجية الإيجابية،
لكنه ربما أنتج أوضاعا تحدث بالتدريج عدم توازن غي غريزته العدوانية، وكذا
في آلياتها الكابحة، وذلك بفعل التطور الاجتماعي والتكنولوجي. والإنسان،
وهو كائن مزود بنزعة عدوانية لم تعد ضرورية له كما كانت في القديم، ومزود
بوسائل تقنية في التخريب غير متوازية تماما مع دوافعه الغريزية الكابحة
للعدوان، معرض لأن يكون ضحية لعدوانه.
والعلاجات التي يمكن تصورها لا يمكن أن تقوم إلا على تنظيم
اجتماعي للنزعة العدوانية لأن الطبيعة لا يمكن أن تتوصل إلى ذلك من تلقاء
ذاتها. يمكن أن يتعلق الأمر بمراقبة اجتماعية للنزعة العدوانية بواسطة
التربية، والتشريط، وإمكان استعمال المهدئات من ناحية وبتوفير إمكانات
التفريع غير العدواني من ناحية أخرى كالرياضة والتباري، والالتزام
الاجتماعي وأشكال النضال من أجل أهداف مختلفة، وأشكال التنفيس الجماعي
التي يمكن أن تذهب إلى حد السماح بعنف محدود. وذلك دون أن ننسى ضرورات
التخلي عن التسابق نحو السلح.
إن تأويلات من هذا النوع تستدعي كثيرا من الملاحظات:
1 -
إن لها فضل التذكير بأهمية النزعة العدوانية لدى الإنسان ولكنها تفعل ذلك
بطريقة معوجة لأنه إذا كانت هذه النزعة العدوانية حيوانية، فإن من الضروري
أن نضيف إلى ذلك بأن الإنسان حيوان غريب: ملتهم لكل شيء، ذكي، مستعمل
لأدوات ولمنظومات رمزية معقدة، متحرك ومحرك، شرس أكثر من أي حيوان آخر.
إنه، على وجه التأكيد، الناهب الرهيب الذي عرفته الطبيعة - لحد أنه هو نفسه
لحقه هذا الخراب (تلوث، عوز، تشويه). ومن هذه الزاوية فإنه لا يجب أن
نستصغر دور العنف الإنساني ومن الوهم أن نعتقد أنه يمكن القضاء عليه.
2 -
موطن الضعف في هذه النظريات أنها تقترح العلاجات التي تطبقها بالذات كل
المجتمعات: مراقبة العنف داخل قواعد، وإعادة توجيه العدوانية نحو أنشطة
متعددة، بعضها ذو صبغة حضارية (العمل، تنظيم العالم وبعضها تخريى حروب،
تضحيات، تجاوزات). وبالمقابل فهي تتدخل بقوة لتبرير التقنيات الجديدة
للمراقبة الاجتماعية المتطورة: إضفاء طابع إعلامي على المجتمع مع مركزة
الملفات، والتسيير الاجتماعي للصحة، والتغطية التأمينية للمخاطر،
والعقاقير المنشطة نفسيا، وهي تقنيات يعتبر الوجه الآخر لنجاحها هو
المراقبة والتأطير المتزايد للحياة الاجتماعية، وحساسية خارقة تجاه
الانحرافات والتمزقات والتفاوتات، وعدم تسامح شبه مرضى تجاه بعض أشكال
العنف اللطيف. ونتيجة لهذه الأشكال من التقدم، -التي هي من بعض الوجود
نقدم فعلي- يتولد عنف يظهر في أمكنة أخرى أو يستبطن في العدوان تجاه
الذات.
3 -
من العسير أن نفهم كيف أن نقصا في التنظيم الطبيعي للنزعة العدوانية نقص
يجد أصوله في التنشئة الاجتماعية والتثاقف، يمكن أن يصلح بواسطة الثقافة
نفسها. وهذا يطرح المسألة الأساسية المتعلقة بأولئك الذين يمكن أن يكونوا
مؤهلين لقيادة هذا التنظيم. وهذا ما يجعل نظريات النزعة العدوانية تدخل
عاجلا أو آجلا فكرة "الخبراء" - وهو لفظ ينتمي إلى عصرنا ويشمل علماء
وسياسيين وتكنوقراطيين. لكن من يمنح المشروعية للخبراء؟
4 - إن اللجوء إلى مدلول النزعة العدوانية (L’agressivité )
يميل على وجه الخصوص إلى أن يفصل الحيوان الفردي عن تنشئة اجتماعية تبدو
خارجية، أو عن مصير ثقافي يبدو غريبا. لكن المسألة الأنتروبولوجية للعنف
هي مسألة حيوان هو نفس الوقت حيوان عدواني وميال إلى السيطرة، وإبداعي،
واجتماعي، حيوان غارق منذ بداياته الأولى في التاريخ والتطور، إلى حدود
الكارثة.
ثانيا: نظريات انقسام المجتمع
يمكن، على العكس، أن نبحث عن أسباب العنف في ظروف الحياة
الاجتماعية. وهو ما نفعله مثلا عندما نرجع العنف إلى التفاوت الاقتصادي،
وإلى الاضطهاد السياسي وبالملموس إلى شروط الحياة الحضرية، وإلى تدهور
الخلية العائلية أو إلى البطالة.
وبدون أن نعود إلى غاية نظرية رسو حول أصل التفاوت بين
الناس ونذكر أن التأويلات الاشتراكية للقرن التاسع عشر، وخاصة تأويلات
ماركس وتأويلات أولئك الذين تابعوا تحليلاته، ترجع العنف إلى انقسامات
المجتمع وإلى أشكال الاستغلال التي تميز مرحلة معينة من التطور الاقتصادي
(اقتصاد العبودية-الإقطاع-الرأسمالية). وما دامت المجتمعات ترتكز على
علاقات إنتاج تسود فيها طبقة معينة وتستغل الطبقات الأخرى، فهي موطن عنف
مكشوف أو خفي يسند ويعكس هذا التنظيم الاجتماعي. هناك عنف كامن في القانون
لصالح الطبقة المسيطرة، وعدم التساوي السياسي، وقدرية البؤس "العادي"،
عنف واضح تمارسه شروط العمل، عنف مكشوف ناتج عن قمع الإضرابات أو
التمردات. إنه عنف أضفي عليه طابع رسمي إلى حد ما، وأضفي عليه طابع اعتيادي
في المؤسسات التي تنظمه وتخفيه: الأنظمة السياسية والقانونية المتنوعة
التي تستخدم التقسيم والاستغلال. ولنذكر على سبيل المثال، تطور حق العمل،
وحق الاعتراف بحق الإضراب أو بالعكس حذفه. إن التقسيم والاستغلال ترجع على
المستوى الدولي إلى ظاهرة الإمبريالية والهيمنة والسيطرة العسكرية
(أحلاف، معاهدات...الخ). وأشكال العنف المضاد وحدها، قادرة بدورها على أن
تضع حدا لهذه الوضعيات: ثورات وحروب تحرير. وذلك بهدف إنهاء الاستغلال
والتقسيم الاجتماعي في مجتمعات بدون طبقات.
هنا أيضا يمكن توجيه العديد من الملاحظات.
1 -
حتى إذا بدا أن الآفاق المقترحة من طرف النظريات الثورية آفاق مخيبة
للآمال، فإنه يجب ألا ننسى بسرعة الأسباب التي أشارت إليها فالاستغلال:
والسيطرة والإمبريالية هي اليوم أكثر من أي وقت مضى عوامل عنف كما تشهد
على ذلك الأنظمة السلطوية المختلفة، والأزمات المحلية، والتمردات
والاضطرابات التي تتكاثر تحت مظلة الانفراج والتوازن بين القوى العظمى.
والنقطة الجديدة ستكون هي سقوط الأنظمة الاشتراكية بدورها تحت طائلة
الإدانات الصادرة عن النظرية التي تعلن انتماءها إليها.
2 -
لقد خابت الآمال المعقودة على نهاية العنف الملازمة لنهاية التقسيمات
الاجتماعية ويبدو أن الإنجازات المعروفة للاشتراكية (الاتحاد السوفيتي
والديمقراطيات الشعبية، جمهورية الصين وكوبا...الخ) قد تعثرت وبقيت في
المرحلة الأولى لديكتاتورية البروليتاريا، وشهدت تشكل طبقات مسيطرة
بيروقراطية منبثقة من أطر الحزب الوحيد، ويبدو على وجه الخصوص أنها ولدت
أشكالا من التحكم الكلي في الحياة السياسية، أي تأطيرا عاما للحياة
الاجتماعية بواسطة شبكة ضاغطة من أشكال التبعية ومن أشكال المراقبة حيث
يتم تتويج وتمتيع المتوافقين مع النظام بسلسلة من الامتيازات، وملاحقة
المتمردين بسلسلة من الإبعادات التي ينضاف إليها القمع بسرعة. من ناحية
أخرى فقد أسهم ظهور إمبرياليات اشتراكية بقدر وافر في رفع هذا الوهم.
3 -
وإذا كان بالإمكان دوما أن نذكر بالأخطاء المقترفة في بناء الاشتراكية،
فإن من الممكن أيضا التساؤل عما إذا كان علينا بالأحرى أن نضع وضع تساؤل
فكرة نهاي التقسيمات الاجتماعية في مجتمعات بدون طبقات. لكن من الضروري
القيام باحتياطين:
- إن التساؤل عن صلاحية فكرة ما لا يتضمن الانزلاق إلى
نقيضها. فالتشكك بصدد مجتمع بدون تقسيم لا يسمح بالعودة إلى الدفاع عن عدم
التساوي، والنخبوية، أو فقط عن التقسيمات التقليدية.
- إن نظريات نهاية استغلال الإنسان من طرف الإنسان وتحرره
ترتبط بتصورات اعتباطية حول الوفرة والتقدم اللامحدود بفضل قدرات الصناعة
والعلم. وفكرة مجتمع بدون طبقات هي أيضا فكرة عن مجتمع لا يكون فيه للنمو
أية نهاية غير إشباع الحاجات. إن انهيار هذه النزعة التفاؤلية والوعي بأن
موارد الأرض ربما كانت قابلة للاستنفاد، والحذر تجاه التنظيمات الاجتماعية
غير المضبوطة، وكل المشاعر التي تعبر عن نفسها ضمن مقولة علم البيئة (Ecologie )
والتي نتبناها عن حق المذاهب غير العنيفة، كل ذلك لا يمكن أن يخلو من
تأثير على مسألة الشروط الاجتماعية للعنف. ومن هذه الزاوية يمكن القول بأن
الماركسية قد تبنت وتتبنى غالبا إلى حد الآن نفس قيم النمو التي تدين بها
الرأسمالية العلموية والصناعية للقرن التاسع عشر.
4 -
لقد أصبح من المعتاد إقامة تعارض بين الأشكال المختلفة للأنظمة الكلية أو
السلطوية (الأنظمة العسكرية، أنظمة الأمن الداخلي، بل المجتمعات
الرأسمالية الجديدة المهووسة بالأمن و"الاجماع") وضرورة احترام
الاختلافات. فحقوق الإنسان التي كانت محتقرة من طرف المنظرين الثوريين
باعتبارها صياغة قانونية للسيطرة البورجوازية تستعيد اليوم أهميتها.
فالمشروعات الاشتراكية للقرن التاسع عشر كانت تستهدف فعلا الفروق غير
المقبولة في معاملة الناس "كحق" البعض مثلا في إغلاق معاملهم في حين أن
الآخرين لم يكن لهم حق القيام بالإضراب. ولكن بقدر ما أن إحداث التجانس
بين الأفراد باسم إلغاء الطبقات ليس حلا للتقسيم الاجتماعي، فإن الذكر
المجيد لحق الاختلاف ليس جوابا على "الأنظمة الكلية" (Totalitarismes ).
في المنطق يقال عن فردين إنهما مختلفان بمجرد أن تكون لهما على الأقل
خاصية غير مشتركة. يمكن أن يسير تمجيد الفروق الفردية بموازاة استفحال
النزعة وتكاثر الأنوات الواعية بذاتها والنسبية العدوانية. وتلك هي طريق
اللامبالاة وكذا طريق العنف، على وجه التأكيد.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

الخياطة الرفيعة والثقافة الرفيعة بيير بورديو :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

الخياطة الرفيعة والثقافة الرفيعة بيير بورديو

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
»  اليات الخطاب السوسيولوجي عن بيير بورديو بين التنظير والممارسة عبد الله بربزي الحوار المتمدن-العدد: 3829 - 2012 / 8 / 24 - 23:14 المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
»  بيير بورديو : مفكر الخلخلة و الإزعاج يونس بنمورو
»  بيير بورديو : مفكر الخلخلة و الإزعاج يونس بنمورو
» مفهوم "الحقل" عند بيير بورديو: القوة الإجرائية و الفعالية الاستكشافية - ديرار عبد السلام
» الباحثون ، علم الاقتصاد والحركة الاجتماعية * بيير بورديو * من كتابه : نقيض نار ( مطفأة الحريق )[نصوص للمساهمة في مناهضة المد النيوليبرالي

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: