الخبز… هذا الموضوع البارالاكسيّ: كيف نقرأ هذا التّفصيل الصّغير، هذا "الخبز" "الحافي"، الّذي ظهر في قلب الصّورة، بإلحاح متكرّر في بعض الصّور، مثل استعارة ملحاحة مستبدّة؟ يلفت هذا العنصر العنيد، هذا "الخبز المتوحّش"،(1) العين إليه لأنّه عنصر غير موجود في محلّه الأصليّ. فقد كان من المفروض أن يكون في الموضع الّذي يذهب النّاس إليه لشرائه وأن يكون جزءا من مشهد يوميّ متكرّر في مجتمع الاستهلاك.
غير أنّه كان في بعض صور الثّورة التّونسيّة مع الجماهير في قلب الصّراع مرفوعا في بعض المظاهرات عاليا في مستوى الأيدي المرفوعة الرّاسمة بأصابعها علامات النّصر.
أو محاكيا في بعض اللّقطات النّادرة هيئة سلاح سلميّ، بندقيّة أو رشّاش، يثير الهلع والخشية في المواجهات الحامية الوطيس.
إنّ حضور "الخبز" في قلب الصّور يساهم في بناء "زاوية نظر الشّعب" على نحو فريد طريف وتشكيلها باعتماد مبدإ النّاتئ. فـ"الخبز" هاهنا هو هذا التّفصيل النّاتئ الوقح لأنّه لم يوجد في محلّه الأصليّ، ولم يظهر داخل مشهده اليوميّ. فهو هذا الموضوع الّذي يصيب الذّات (ويمثّلها كلّ من تفرّس في صور الثّورة وتفرّج فيها) ويضجرها ويربكها ويصدمها، فالخبز في هذه الصّور هو هذا الموضوع المعروض على الأنظار في بعده الأشدّ جذريّة، لأنّه يتحدّى ويعارض ويجعل مجرى الأشياء الوديع متهيّجا. لقد كان من المفروض أن يكون "الخبز" موضوعا جامدا منضّدا منتظما في منظومة السّلع المبذولة للعرض والاستهلاك. إلاّ أنّه بدا في هذه الصّور يضجّ حركة لأنّه يستمدّ عنفها وقوّتها من حركة الجماهير نفسها. فماذا نسمّي هذا الموضوع الّذي يدغدغ أبصارنا ويخزها ويحفّزها على الإمعان في النّظر؟ إنّه "الموضوع البارالاكسيّ L’objet parallaxique ". لنذكّر بأنّ التّعريف الشّائع للـ"بارالاكسparallaxe " (أي παράλλαξις تعني في الإغريقيّة حرفيّا الانتقال المجاور) هو انتقال الموضوع بتغيير موضعه في إطار محدّد بسبب تغيّر حَدَثَ في زاوية العيان، وهو ما يوفّر زاوية نظر جديدة. غير أنّ هذا الاختلاف الملحوظ ليس ذاتيّا بسبب معاينة الموضوع من موقعين مختلفين، أو زاويتي نظر متباينتين، وإنّما هو اختلاف يحدث بواسطة الذّات والموضوع معا. من ذلك أنّ أيّ تغيّر "إيبستمولوجيّ" يجدّ في زاوية نظر الذّات، إنّما يترجم دائما تغيّرا أنطولوجيّا في الموضوع.(1) فنحن لم نعد ننظر إلى هذا "الخبز" الّذي ظهر في الصّورة وقد رفعته أيدي المتظاهرين على أنّه خبز طعامنا اليوميّ، الخبز الّذي يسدّ حاجتنا ونسدّ به الرّمق، وإنّما هو هذا "الخبز المتوحّش"، هذا "الخبز الحافي" الّذي بمجرّد انتقاله إلى "الأغورا"، إلى الفضاء العموميّ السّياسيّ، قد غيّر من زاوية العيان فصرنا ننظر إليه على أنّه أكثر من خبز، أو على أنّه خبز قد فقد ماهيته (بوصفه طعاما أعدّ للأكل)، فأصبح خبزا آخر، بلا ماهية، لأنّه لم يعد موضوعا للاستهلاك. وبفقدان ماهيته الغذائيّة الأولى صار الخبز في تلك الصّور "موضوعا بارالاكسيّا"، أي الموضوع الّذي التقط لبناء "زاوية نظر الشّعب". لا ينبغي أن نفهم من انتقال هذا الموضوع البارالاكسيّ من فضاء الاستهلاك إلى الفضاء العموميّ أنّ الخبز هو الّذي هيّج الجماهير، فكان مثير تمرّدها وملهب غضبها. فلو كان موضوعَ تمرّدِها لكان موضوعَ حاجة وحرمان، ولانْتَفى الحرمان بمجرّد سدّ تلك الحاجة، مثلما حدث في ما سمّي بـ"ثورة الخبز" في جانفي 1984 ( ). بيد أنّ الأيدي في هذه الصّور لم ترفع الخبز عاليا لأنّها كانت تطالب بالخبز من أجل الخبز، وإنّما رفع الخبز لأنّه صار شيئا يتجاوز ماهية الخبز، وبرز في حقل الصّورة "ناتئا" "نابيا" بعلوّه ليعرب عن شوق الجموع وحقّها في العيش الكريم، هذا الحقّ الّذي كان الخبز يمثّل شرطا من شروط وجوده. بهذا التّصوّر يمكن أن ننظر إلى "الخبز"، هذا "الموضوع البارالاكسيّ"، في هذا السّياق الفوتغرافيّ، على أنّه يكافئ "الموضوع الألف الصّغرى" L’objet a عند لاكان Lacan. ذلك أنّه كلّما ظهر هذا "الموضوع البارالاكسيّ" في غير موضعه الأصليّ عبّر عن هلع أو خشية مزدوجة، هي "خشية الجموع la crainte qu’éprouve les masses" أو "الخشية من الجموع la crainte que les masses inspirent ".(2) أمّا الخشية الأولى فموضوعيّة تظهرها الجموع نفسها عندما تصيبها محنة تهدّد أسباب وجودها، وأمّا الخشية الثّانية فذاتيّة تتعلّق بما تحدثه الجموع من خشية في نفوس من يشغل موقع الحكم، أو المتصرّف في شؤون السّياسة. تتضمّن هذه الصّور عنصر الهلع لأنّها التقطت خشية الجموع La crainte des masses، من فقدان هذا الّذي ظهر في غير موضعه. ولقد تجلّت خشية الجموع والخشية من الجموع في بعض الصّور الّتي انقلب فيها عنصر الهلع إلى حفل جماعيّ هستيريّ.
تذكّرنا بعض الصّور الّتي برز فيها عنصر الخبز بحفلات "الهارد روك" الّتي تتوّج في بعض الأحيان بارتماء المغنّي النّجم على الجماهير، فتتلقّفه السّواعد عاليا. لنتأمّل في هذه الصّورة:
ينفي الصّراخ بحدّته الكلام والثّرثرة الفرديّة ويحاول أن ينظّم الأصوات جميعا في هتاف صاخب يردّده الجميع بصوت واحد. أمّا الجسد الّذي حملته السّواعد الكثيرة وجعله فرط الحماس كالمجذوب وفي حالة انخطافيّة فقد رفع بذراعيه المنفتحتين الخبز عاليا، فزاده بروزا وغرابة. ماذا يصنع الخبز في خضمّ هذه الهستيريا؟ بل كيف ينبغي أن نفهم هذه الصّور الّتي يرفع فيها بعض المواطنين الخبز كمن يرفع راية من الرّايات؟ يمكن أن نجيب بأنّها صور احتجاج على سياسة التّجويع والمهانة والإذلال والقهر، أو هي صور تنادي بحقّها في الحياة والكرامة واكتساب لقمة العيش بكدّ يمينها… استوى في ذلك ساكن المدينة وحارسها من الشّرطة.
كلّ هذا مقبول من منظور سميوطيقيّ تأويليّ، فهذه الصّور حبلى بهذه المعاني، ويمكن للنّاظر فيها أن يوجّه تأويله أو قراءته صوب هذا الاتّجاه. بيد أنّ هذا الاحتجاج حين يجري على نحو جماعيّ وفي الفضاء العموميّ، ينقلب بالضّرورة إلى احتجاج سياسيّ على ما تعرّضت له الجموع من حرمان ومنع وحظر وتجريد ونفي وسلب لحقّها في ممارسة السّياسة والمساهمة في تقرير شؤون المدينة، أو البلاد كما نقول اليوم. فهؤلاء الخارجون بأعداد وفيرة هم أعضاء من الشّعب، وأفراد من "الدّيموس démos" التّونسيّ، لم تكن أصواتهم مسموعة عند أولئك الّذين كانوا يمسكون بزمام الأمور من أصحاب النّفوذ السّياسيّ. وبالتّالي لم يكونوا أطرافا مندمجين في الدّائرة السّياسيّة.
إنّ خروج الشّعب بكلّ فئاته المختلفة في الفضاء السّياسيّ العموميّ هو ما التقطته صور الخبز لبناء زاوية نظر الشّعب. وهو خروج ذو دلالة بالغة. فما التقطته الصّور هو جموع الّذين "لا نصيب لهم"، ممّن لم يجدوا لهم مكانا في الجسم السّياسيّ. وما خروجهم إلى الفضاء العموميّ إلاّ الفعل الأوّل البسيط لكلّ عمل سياسيّ، أو لكلّ تسييسpolitisation . بل إنّ هذا الخروج هو عمل ديمقراطيّ بما أنّ الفعل السّياسيّ والعمل الدّيمقراطيّ سيّان. إنّ حمل القفص أو الخبز أو رفع الأيدي أو الأعلام أو اللاّفتات المختلفة عاليا في الفضاء العموميّ هي تفاصيل التقطتها "زاوية نظر الشّعب" في مشاهد فوتغرافيّة شديدة التّنوّع، وهي جميعا تعرب عن انقلاب الفضاء العموميّ إلى مسرح ذي "رأس مال عاطفيّ" ثريّ شبه موحّد انفلتت فيه الانفعالات من دون خلفيّات أو أفكار مسبقة.
ذلك أنّ النّظام الّذي يمنح كلّ النّاس حقّ التّعبير بكامل الحرّيّة هو النّظام الّذي يسم الدّيمقراطيّة، أي النّظام الّذي يقصي "الحيلة السّياسيّة"، على حدّ تعبير كانط، من الفضاء العموميّ(2) حتّى يظلّ السّلم الاجتماعي دائما. ولأجل ذلك كان هدف كلّ الأنظمة المناوئة للدّيمقراطيّة هو تعطيل العمل الدّيمقراطيّ أي اللاّتسييس la dépolitisation، بإبطال الصّراع السّياسيّ. والطّريف في هذا السّياق أنّ عمل اللاّتسييس la dépolitisation قد جرى في تاريخ تونس القديم، في العهد الرّومانيّ تحديدا، بواسطة الخبز والسّيرك. فقد شيّد الرّومان المسارح وحلبات الصّراع الدّمويّ بين المصارعين من العبيد والمرتزقة. وعبر هذه المؤسّسات الّتي كانت تُذكي لدى الجماهير الرّومانيّة عطشها إلى العنف الحيوانيّ، أصبحت "الألعاب والخبز" تقنية في الحكم قد رعتها الإمبراطوريّة منذ عهد جوفينال Juvinal ( ). لقد ظلّ الشّعب الرّوماني طيلة ستّة قرون من سنة 200 ق.م إلى 400 ب.م، وهي السّنة الّتي منع فيها الأباطرة الرّومان المسيحيّون هذه الاحتفالات، محكوما بشيئين "الخبز" وعروض القتال في السّيرك. بيد أنّ الثّورة التّونسيّة لم تحتلّ الفضاء العموميّ لتجعله كالحلبة الرّومانيّة القديمة فضاء للقساوة والعروض الدّمويّة، وإنّما احتلّته لإطلاق العنان لانفعالاتها العنيفة حتّى يكون صوت من "لا نصيب لهم" مسموعا في الفضاء العموميّ. هذا الصّوت قد ترجمته "زاوية نظر الشّعب" بالصّورة ومثّلته في هذا السّياق الفوتغرافيّ بطرق مختلفة لعلّ أبدعها صور الخبز النّادرة. فقد كان الخبز في هذه الصّور موضوعا بارالاكسيّا، إذ انقلب بحضوره الصّادم في قلب "الأغورا" إلى موضوع للمشاركة في الحكم بعد أن كان في غابر الأزمان تقنية في الحكم تشرى به الذّمم وتستعبد الأجساد والنّفوس. لكأنّ هذه الثّورة رجع أصداء ضاربة في القدم تذكّر على غرار غناء ربّات الإغريق الملهمات بـ"ما كان وما يكون وما سيكون". وما تذكّرنا به صور الخبز هو أنّ اسم الثّورة يتنزّل في حقل السّياسة، وبمجرّد تنزيله فيه، يفترض أن يقلب هذا الحقل رأسا على عقب.(3) الخبز الحافي قراءة في بعض الصّور من أرشيف الثّورة التّونسيّة 2/2
الخبز… هذا الموضوع البارالاكسيّ: كيف نقرأ هذا التّفصيل الصّغير، هذا "الخبز" "الحافي"، الّذي ظهر في قلب الصّورة، بإلحاح متكرّر في بعض الصّور، مثل استعارة ملحاحة مستبدّة؟ يلفت هذا العنصر العنيد، هذا "الخبز المتوحّش"،(1) العين إليه لأنّه عنصر غير موجود في محلّه الأصليّ. فقد كان من المفروض أن يكون في الموضع الّذي يذهب النّاس إليه لشرائه وأن يكون جزءا من مشهد يوميّ متكرّر في مجتمع الاستهلاك.
غير أنّه كان في بعض صور الثّورة التّونسيّة مع الجماهير في قلب الصّراع مرفوعا في بعض المظاهرات عاليا في مستوى الأيدي المرفوعة الرّاسمة بأصابعها علامات النّصر.
أو محاكيا في بعض اللّقطات النّادرة هيئة سلاح سلميّ، بندقيّة أو رشّاش، يثير الهلع والخشية في المواجهات الحامية الوطيس.
إنّ حضور "الخبز" في قلب الصّور يساهم في بناء "زاوية نظر الشّعب" على نحو فريد طريف وتشكيلها باعتماد مبدإ النّاتئ. فـ"الخبز" هاهنا هو هذا التّفصيل النّاتئ الوقح لأنّه لم يوجد في محلّه الأصليّ، ولم يظهر داخل مشهده اليوميّ. فهو هذا الموضوع الّذي يصيب الذّات (ويمثّلها كلّ من تفرّس في صور الثّورة وتفرّج فيها) ويضجرها ويربكها ويصدمها، فالخبز في هذه الصّور هو هذا الموضوع المعروض على الأنظار في بعده الأشدّ جذريّة، لأنّه يتحدّى ويعارض ويجعل مجرى الأشياء الوديع متهيّجا. لقد كان من المفروض أن يكون "الخبز" موضوعا جامدا منضّدا منتظما في منظومة السّلع المبذولة للعرض والاستهلاك. إلاّ أنّه بدا في هذه الصّور يضجّ حركة لأنّه يستمدّ عنفها وقوّتها من حركة الجماهير نفسها. فماذا نسمّي هذا الموضوع الّذي يدغدغ أبصارنا ويخزها ويحفّزها على الإمعان في النّظر؟ إنّه "الموضوع البارالاكسيّ L’objet parallaxique ". لنذكّر بأنّ التّعريف الشّائع للـ"بارالاكسparallaxe " (أي παράλλαξις تعني في الإغريقيّة حرفيّا الانتقال المجاور) هو انتقال الموضوع بتغيير موضعه في إطار محدّد بسبب تغيّر حَدَثَ في زاوية العيان، وهو ما يوفّر زاوية نظر جديدة. غير أنّ هذا الاختلاف الملحوظ ليس ذاتيّا بسبب معاينة الموضوع من موقعين مختلفين، أو زاويتي نظر متباينتين، وإنّما هو اختلاف يحدث بواسطة الذّات والموضوع معا. من ذلك أنّ أيّ تغيّر "إيبستمولوجيّ" يجدّ في زاوية نظر الذّات، إنّما يترجم دائما تغيّرا أنطولوجيّا في الموضوع.(1) فنحن لم نعد ننظر إلى هذا "الخبز" الّذي ظهر في الصّورة وقد رفعته أيدي المتظاهرين على أنّه خبز طعامنا اليوميّ، الخبز الّذي يسدّ حاجتنا ونسدّ به الرّمق، وإنّما هو هذا "الخبز المتوحّش"، هذا "الخبز الحافي" الّذي بمجرّد انتقاله إلى "الأغورا"، إلى الفضاء العموميّ السّياسيّ، قد غيّر من زاوية العيان فصرنا ننظر إليه على أنّه أكثر من خبز، أو على أنّه خبز قد فقد ماهيته (بوصفه طعاما أعدّ للأكل)، فأصبح خبزا آخر، بلا ماهية، لأنّه لم يعد موضوعا للاستهلاك. وبفقدان ماهيته الغذائيّة الأولى صار الخبز في تلك الصّور "موضوعا بارالاكسيّا"، أي الموضوع الّذي التقط لبناء "زاوية نظر الشّعب". لا ينبغي أن نفهم من انتقال هذا الموضوع البارالاكسيّ من فضاء الاستهلاك إلى الفضاء العموميّ أنّ الخبز هو الّذي هيّج الجماهير، فكان مثير تمرّدها وملهب غضبها. فلو كان موضوعَ تمرّدِها لكان موضوعَ حاجة وحرمان، ولانْتَفى الحرمان بمجرّد سدّ تلك الحاجة، مثلما حدث في ما سمّي بـ"ثورة الخبز" في جانفي 1984 ( ). بيد أنّ الأيدي في هذه الصّور لم ترفع الخبز عاليا لأنّها كانت تطالب بالخبز من أجل الخبز، وإنّما رفع الخبز لأنّه صار شيئا يتجاوز ماهية الخبز، وبرز في حقل الصّورة "ناتئا" "نابيا" بعلوّه ليعرب عن شوق الجموع وحقّها في العيش الكريم، هذا الحقّ الّذي كان الخبز يمثّل شرطا من شروط وجوده. بهذا التّصوّر يمكن أن ننظر إلى "الخبز"، هذا "الموضوع البارالاكسيّ"، في هذا السّياق الفوتغرافيّ، على أنّه يكافئ "الموضوع الألف الصّغرى" L’objet a عند لاكان Lacan. ذلك أنّه كلّما ظهر هذا "الموضوع البارالاكسيّ" في غير موضعه الأصليّ عبّر عن هلع أو خشية مزدوجة، هي "خشية الجموع la crainte qu’éprouve les masses" أو "الخشية من الجموع la crainte que les masses inspirent ".(2) أمّا الخشية الأولى فموضوعيّة تظهرها الجموع نفسها عندما تصيبها محنة تهدّد أسباب وجودها، وأمّا الخشية الثّانية فذاتيّة تتعلّق بما تحدثه الجموع من خشية في نفوس من يشغل موقع الحكم، أو المتصرّف في شؤون السّياسة. تتضمّن هذه الصّور عنصر الهلع لأنّها التقطت خشية الجموع La crainte des masses، من فقدان هذا الّذي ظهر في غير موضعه. ولقد تجلّت خشية الجموع والخشية من الجموع في بعض الصّور الّتي انقلب فيها عنصر الهلع إلى حفل جماعيّ هستيريّ.
تذكّرنا بعض الصّور الّتي برز فيها عنصر الخبز بحفلات "الهارد روك" الّتي تتوّج في بعض الأحيان بارتماء المغنّي النّجم على الجماهير، فتتلقّفه السّواعد عاليا. لنتأمّل في هذه الصّورة:
ينفي الصّراخ بحدّته الكلام والثّرثرة الفرديّة ويحاول أن ينظّم الأصوات جميعا في هتاف صاخب يردّده الجميع بصوت واحد. أمّا الجسد الّذي حملته السّواعد الكثيرة وجعله فرط الحماس كالمجذوب وفي حالة انخطافيّة فقد رفع بذراعيه المنفتحتين الخبز عاليا، فزاده بروزا وغرابة. ماذا يصنع الخبز في خضمّ هذه الهستيريا؟ بل كيف ينبغي أن نفهم هذه الصّور الّتي يرفع فيها بعض المواطنين الخبز كمن يرفع راية من الرّايات؟ يمكن أن نجيب بأنّها صور احتجاج على سياسة التّجويع والمهانة والإذلال والقهر، أو هي صور تنادي بحقّها في الحياة والكرامة واكتساب لقمة العيش بكدّ يمينها… استوى في ذلك ساكن المدينة وحارسها من الشّرطة.
كلّ هذا مقبول من منظور سميوطيقيّ تأويليّ، فهذه الصّور حبلى بهذه المعاني، ويمكن للنّاظر فيها أن يوجّه تأويله أو قراءته صوب هذا الاتّجاه. بيد أنّ هذا الاحتجاج حين يجري على نحو جماعيّ وفي الفضاء العموميّ، ينقلب بالضّرورة إلى احتجاج سياسيّ على ما تعرّضت له الجموع من حرمان ومنع وحظر وتجريد ونفي وسلب لحقّها في ممارسة السّياسة والمساهمة في تقرير شؤون المدينة، أو البلاد كما نقول اليوم. فهؤلاء الخارجون بأعداد وفيرة هم أعضاء من الشّعب، وأفراد من "الدّيموس démos" التّونسيّ، لم تكن أصواتهم مسموعة عند أولئك الّذين كانوا يمسكون بزمام الأمور من أصحاب النّفوذ السّياسيّ. وبالتّالي لم يكونوا أطرافا مندمجين في الدّائرة السّياسيّة.
إنّ خروج الشّعب بكلّ فئاته المختلفة في الفضاء السّياسيّ العموميّ هو ما التقطته صور الخبز لبناء زاوية نظر الشّعب. وهو خروج ذو دلالة بالغة. فما التقطته الصّور هو جموع الّذين "لا نصيب لهم"، ممّن لم يجدوا لهم مكانا في الجسم السّياسيّ. وما خروجهم إلى الفضاء العموميّ إلاّ الفعل الأوّل البسيط لكلّ عمل سياسيّ، أو لكلّ تسييسpolitisation . بل إنّ هذا الخروج هو عمل ديمقراطيّ بما أنّ الفعل السّياسيّ والعمل الدّيمقراطيّ سيّان. إنّ حمل القفص أو الخبز أو رفع الأيدي أو الأعلام أو اللاّفتات المختلفة عاليا في الفضاء العموميّ هي تفاصيل التقطتها "زاوية نظر الشّعب" في مشاهد فوتغرافيّة شديدة التّنوّع، وهي جميعا تعرب عن انقلاب الفضاء العموميّ إلى مسرح ذي "رأس مال عاطفيّ" ثريّ شبه موحّد انفلتت فيه الانفعالات من دون خلفيّات أو أفكار مسبقة.
ذلك أنّ النّظام الّذي يمنح كلّ النّاس حقّ التّعبير بكامل الحرّيّة هو النّظام الّذي يسم الدّيمقراطيّة، أي النّظام الّذي يقصي "الحيلة السّياسيّة"، على حدّ تعبير كانط، من الفضاء العموميّ(2) حتّى يظلّ السّلم الاجتماعي دائما. ولأجل ذلك كان هدف كلّ الأنظمة المناوئة للدّيمقراطيّة هو تعطيل العمل الدّيمقراطيّ أي اللاّتسييس la dépolitisation، بإبطال الصّراع السّياسيّ. والطّريف في هذا السّياق أنّ عمل اللاّتسييس la dépolitisation قد جرى في تاريخ تونس القديم، في العهد الرّومانيّ تحديدا، بواسطة الخبز والسّيرك. فقد شيّد الرّومان المسارح وحلبات الصّراع الدّمويّ بين المصارعين من العبيد والمرتزقة. وعبر هذه المؤسّسات الّتي كانت تُذكي لدى الجماهير الرّومانيّة عطشها إلى العنف الحيوانيّ، أصبحت "الألعاب والخبز" تقنية في الحكم قد رعتها الإمبراطوريّة منذ عهد جوفينال Juvinal ( ). لقد ظلّ الشّعب الرّوماني طيلة ستّة قرون من سنة 200 ق.م إلى 400 ب.م، وهي السّنة الّتي منع فيها الأباطرة الرّومان المسيحيّون هذه الاحتفالات، محكوما بشيئين "الخبز" وعروض القتال في السّيرك. بيد أنّ الثّورة التّونسيّة لم تحتلّ الفضاء العموميّ لتجعله كالحلبة الرّومانيّة القديمة فضاء للقساوة والعروض الدّمويّة، وإنّما احتلّته لإطلاق العنان لانفعالاتها العنيفة حتّى يكون صوت من "لا نصيب لهم" مسموعا في الفضاء العموميّ. هذا الصّوت قد ترجمته "زاوية نظر الشّعب" بالصّورة ومثّلته في هذا السّياق الفوتغرافيّ بطرق مختلفة لعلّ أبدعها صور الخبز النّادرة. فقد كان الخبز في هذه الصّور موضوعا بارالاكسيّا، إذ انقلب بحضوره الصّادم في قلب "الأغورا" إلى موضوع للمشاركة في الحكم بعد أن كان في غابر الأزمان تقنية في الحكم تشرى به الذّمم وتستعبد الأجساد والنّفوس. لكأنّ هذه الثّورة رجع أصداء ضاربة في القدم تذكّر على غرار غناء ربّات الإغريق الملهمات بـ"ما كان وما يكون وما سيكون". وما تذكّرنا به صور الخبز هو أنّ اسم الثّورة يتنزّل في حقل السّياسة، وبمجرّد تنزيله فيه، يفترض أن يقلب هذا الحقل رأسا على عقب.(3)