نستعير عبارة "حرب الصّور" من سارج قروزنسكي Serge Gruzinski الّذي تحدّث
عن مثال اليسوعيّين les Jésuites لمّا أبدلوا، زمن غزو المكسيك، "الزّيمات"
zèmes، أو وجوه بعض الآلهة الّتي كانت تمثّل التّصاوير الثّقافيّة عند
هنود أمريكا، برموزهم المقدّسة. ومن ثمّة أصبحت صور الآخر تسمّى أوثانا
أوidoles (1). وقبل ظهور اليسوعيّين بقرون كان المسلمون أيّام الأمويّين قد
عاملوا الرّموز المسيحيّة بنفس الطّريقة، فقد جاء في بعض الأخبار من كتاب
ولاة مصر أنّه : "وكتب يزيد بن عبد الملك في سنة أربع ومائة، يأمر بكسر
الأصنام، فكسرت كلّها، ومحيت التّماثيل، وكسر فيها صنم حمّام زبّان بن عبد
العزيز الّذي يقال له حمّام أبي مرّة." (2).
ونستشفّ من هذين المثالين المتباعدين تاريخيّا وجغرافيّا أنّ مسألة
الصّورة كانت تطرح دوما، وعلى نحو ثابت، بألفاظ المعارك والحرب. فأولئك
الّذين يدمّرون الأوثان لأنّها علامة على تهافت رمزيّ، أو أولئك الّذين
يستحوذون على المرئيّ لغزو الأرواح والأجساد، أو أولئك الّذين يصنعون
الصّور المرئيّة لتمثيل المعنى اللاّمرئي، هم جميعا عند الفيلسوفة ماري
جوزي موندزان Marie-José Mondzain محاربون (3).
يوجد العنف في كلّ مكان بأسلحته المختلفة وجنوده وإستراتيجيّاته. وتؤكّد
عبارة "حرب الصّور" أنّ الصّورة اليوم قد أضحت موضعا من مواضع العنف
الكثيرة. وينبغي هاهنا أن نفرّق بين العنف الّذي يعصف بالصّورة فتتحمّل
قسوته وقساوته، والعنف الّذي ينبع من الصّورة بما هي موضع خلاّق للخلاف
والفتنة الّتي هي أشدّ من القتل.
يشهد على العنف الأوّل التّاريخ الطّويل الّذي تعرّضت له الصّورة في أزمنة
وثقافات مختلفة من قبل أعداء الصّورة iconophobes ونُفَاتها iconoclastes.
أمّا العنف الثّاني فقادحه الأوّل هو الصّورة. وخير مثال على ذلك الصّور
الكاريكاتوريّة الّتي نشرتها الصّحيفة الدّنماركيّة (جيلاندس
بوسطنJyllands-Posten ) لأوّل مرّة في 30 سبتمبر 2005 على أنّها صور تمثّل
نبيّ الإسلام. فالأحداث الّتي تلت نشر تلك الصّور تشهد على أنّ العنف
المتنامي ككرة الثّلج مع الأيّام قد كاد يعيد تقسيم الفضاء الجيوسياسيّ
بمقولات قديمة هي : دار الإسلام ودار الحرب. ولكنّه يؤكّد من ناحية أخرى
أنّ "حرب الصّور" إنّما هي مسرح من المسارح الكثيرة الّتي يدور فيها اليوم
ما يسمّيه صموال هنتنغتون بـ "صدام الحضارات" (4). فمن التّأثيرات
الجانبيّة لهذه الصّور الكاريكاتوريّة أنّها أحيت تلك المقولات
الجيوسياسيّة القديمة (دار الإسلام ≠ ودار الحرب) في ثوب جديد، فأعادت بناء
المجال reterritorialisation السّياسي الحديث بتسميات جديدة كعالم الغرب
وعالم الشّرق (في أدبيّات الاستشراق)، أو الغرب والإسلام (في تقسيم
هنتنغتون للحضارات) (5). ولكنّها تسميات على اختلافها وتباعد خلفياتها
الإيديولوجيّة قد ظلّت محكومة بـ"منطق هويّ" يعصف بفكرة الدّولة الكونيّة
ومقولاتها الجيوسياسيّة الّتي تنهض عليها فكرة "الكونيّة" ذاتها.
نحتاج هاهنا إلى أن نعرّف بمفهومي "المنطق الهوّيّ" La logique
identitaire و"الكونيّة" L'universalisme ونضبطَهما بدقّة حتّى نبيّن أنّ
"حرب الصّور" في مثال الصّور الكاريكاتوريّة لنبيّ الإسلام، إنّما هي في
جوهرها نزاع بين "المنطق الهوّيّ" و"الكونيّة".
***
يتجلّى "المنطق الهوّيّ" في صور عديدة تقوم إمّا على إستراتيجيّات الرّفض
وآليات الإقصاء أو على نظام عقائد دغمائيّ منغلق. وهو في كلّ الأحوال منطق
مخصوص ينهض على مبدإ الانتخاب، أو الـ Legein. وهو لفظ إغريقيّ يعني:
"ميّز" و"اختار" و"وضع" و"جمّع" و"أحصى" و"قال". وهذا المبدأ شرط من شروط
نشأة المجتمع، مثلما أنّ شرط وجود المجتمع مرتبط بأمور عديدة منها نشأة هذا
المبدإ. وبصفة عامّة يقوم "المنطق الهوّيّ" على رشمي schèmes الانفصال
والتّجميع. فعندما تحدّد مجموعة ذاتها بأنّها متميّزة فإنّها تستند إلى
هويّتها أو إلى اختلافها عمّا لا يدخل في هويّتها. فإن وُجد مجتمع ولغة
فإنّ "المنطق الهوّيّ" يتأسّس بوجود عمليّات التّجميع ذاتها، مثلما أنّ كلّ
العمليّات المنفّذة للمنطق الهوّيّ هي تنفيذ لمبدإ الانتخاب الّذي هو في
الأصل هُوّيّ وتجميعيّ assembliste (6).
وقد أمكننا في خصوص كلّ حضارة أن نرصد بعض العمليّات المنفّذة للمنطق
الهوّيّ أجريت على صعيدين، هما الأرض والخطاب.
1- فعلى الصّعيد الأوّل تُرجِم "المنطق الهوّيّ" على الأرض بواسطة
المقولات الحربيّة. وهي مقولات تجعل من كلّ مَنْ يوجد خارج الحدود عدوّا،
وتجعل من كلّ مَنْ لا يؤمن بما تؤمن به الأمّة فردا غيرَ منتم إلى الجماعة
ومخالفًا لها في الملّة والعقيدة وإن كان في عقر الدّار، وداخل الحدود لا
خارجها. فالأمّة لا يمكنها أن تتشكّل إلاّ بأن تسجّل أفرادها في الفضاء.
فالشّخص في العالم القديم لا يعدّ شخصا إن لم ينتسب إلى مكان مّا. فقد كانت
الأرض آنذاك تشتغل سياسيّا لحفظ الأشخاص بتسجيلهم في الفضاء وتثبيتهم فيه.
إلاّ أنّ تسجيل الأشخاص في الأرض لا يحدث بصفة آلية بمجرّد الدّخول إليها،
وإنّما كان يجري بوساطة العقيدة. وليست العقيدة مجرّد إيمان بمعتقد أو
أسطورة… إنّما الإيمان هو مبدأ تسجيل في الأرض.
2 - بيد أنّ رسم الحدود لم يُخطّ بالسّيف والدّماء فحسب، وإنّما بالرّيشة
والحبر أيضا. والمقصود من هذه الاستعارة أنّ "المنطق الهوّيّ" قد اشتغل على
صعيد الخطاب بخلق مستمرّ للعدوّ في صورة كافر أو زنديق أو مشرك أو عدوّ
الله والأمّة أو دخيلintrus ، إذ بصنع عدوّ جيّد تصنع طائفة متماسكة (7).
وقد اشتغل "المنطق الهوّيّ" على صعيد الخطاب بطرق متنوّعة كان الهدف منها
رسم الحدود.
من هذه الطّرق صناعة التّخييلات Les fictions، أي اعتماد أساليب متنوّعة
في إخراج الآخر في صورة لا تطابق هويّته الحقيقيّة بقدر ما تستجيب لتصوّر
الذّات له. فالتّخييلات تنتج الآخر الخياليّ على أنّه يمثّل الغير autrui،
فيضحي الغير ممثّلا للآخر وصورة خياليّة منه. وليس الآخر إلاّ من يوجد خارج
الأرض، وخلف الحدود، فهو حقّا باعث على القلق. ولو عرّفنا الثّقافة بكونها
ابتداعا مستمرّا للآخر العدوّ فإنّ وظيفة التّخييلات تتمثّل في تنفيذ
"المنطق الهوّيّ" بإخراج هذا الآخر الباعث على القلق بطرق متنوّعة، منها
"حرب الصّور"، على نحو ما جرى في الرّسوم الكاريكاتوريّة لنبيّ الإسلام.
وإذا كان "المنطق الهوّيّ" يشتغل على هذا النّحو فإنّ لمفهوم "الكونيّة"
شأنا آخر.
***
ينبغي أن نقرّ بأنّ تحديد "الكونيّة" ليس هيِّنا لكثرة المرجعيّات
الفلسفيّة والقانونيّة والتّاريخيّة والسّياسيّة والدّينيّة… الّتي يحيل
عليها هذا المفهوم. ولهذا سنضطرّ إلى اختيار واحد منها يمثّل نقيضا لمقولة
"المنطق الهوّيّ"، ونعني تصوّر "الكونيّة" عند الفيلسوف الفرنسي "ألان
باديو" Alain Badiou الّذي تعرّض لأساس هذا المفهوم في كتابه الصّغير
"القدّيس بولص. تأسيس الكونيّة" (8). ودون الخوض في تفاصيل يطول شرحها، جعل
"ألان باديو" من القدّيس بولص مبدعا مخترعا inventeur للكونيّة وذلك بربطه
بين قضيّة proposition تتعلّق بالذّات وسؤال يخصّ القانون. فهذا التّرابط
بين ذات بلا هويّة وقانون دون مرتكز يؤسّس إمكانيّة لوجود كونيّ في
التّاريخ، إنّما هو ترابط لا يخلو من مفارقة. فعمل بولص الباهر تمثّل أساسا
في تجريد الحقيقة من كلّ تحديد أمميّ سواء أكانت الأمّة شعبا، أم مدينة،
أم إمبراطوريّة، أم مجالا، أم طبقة اجتماعيّة. فما هو حقيقيّ le vrai لا
يمكن أن يحيل على مجموعة موضوعيّة. فأهميّة بولص الرّاهنة تكمن في كونه
أوّل من سعى إلى استكشاف هذا القانون الّذي يمكنه أن يبني هذه الذّات
المجرّدة من كلّ هويّة، المعلّقة بحدث لا دليل عليه ولا برهان سوى تصريح
ذات وإعلانها عن مقدمه (بالبشارات أو النّذارات مثلا).
لنذكّر قبل كلّ شيء بأنّ العنصر الخاصّ بـالكونيّ عند "ألان باديو" في
مقالة له بعنوان "ثماني أطروحات عن الكونيّ" (9) إنّما هو الفكر. وهو يعني
بذلك أنّ الكونيّ لا يتّخذ شكل الموضوع، فهو في جوهره لا موضوعيّ
inobjectif. ولا يمكن تحديده كما في العلم بواسطة محمولات وصفيّة (كأن نقول
الماء هو سائل/ لا لون له/ ولا رائحة/ ولا طعم). فـالكونيّ هو ما ينجم على
نحو لا يمكن حسابه calculable، فهو حقيقةٌ لا يمكن نقلها إلى العلم،
لأنّها لا تقبل التّحديد ولا تنصاع للضّبط، فهي مجرّدة من كلّ وصف حمليّ.
ولأجل ذلك كان الكونيّ من نسق الفريد singulier لا من نسق الخاصّ le
particulier الّذي يقبل التّعميم. ولا ينبغي أن ننظر إلى الكونيّ على أنّه
تصفية للخاصّ، أو إلغاء لكلّ الاختلافات بجميع أنواعها (الثّقافيّة
والعرقيّة والدّينيّة والسّياسيّة…)، وإنّما هو كلّ فريد أو فرادة
singularité مجرّدة من كلّ "المحمولات الهُوّيّة". وفي الحقيقة، يعجّ كتاب
صموال هنتنغتون "صدام الحضارات" بمثل هذه "المحمولات الهُوّيّة" الّتي
تتجسّم في ملفوظات شديدة التّنوّع من قبيل "الاختلافات الثّقافيّة" و"الكتل
الإيديولوجيّة" و"الحروب الحضاريّة" … بحيث أنّ سؤاله عن دلالة لفظ "حضارة
كونيّة" الّتي يصبح فيها للعالم بأسره نفس القيم، ونفس العقائد، ونفس
الاتّجاهات، ونفس الأنشطة والمؤسّسات، إنّما هو سؤال يتعارض على نحو حادّ
مع تصوّر "ألان باديو" للكونيّة. فلفظ "الكونيّة" ينزلق عند هنتنغتون في
سجلّ "الشّموليّة" حتّى يطابق شيئا فشيئا معنى "العولمة" أو يكاد. فتصبح
"الكونيّة" في آخر المطاف، وهو ما يخرج به القارئ، مرادفة لمفهوم "العولمة"
واسما من أسمائها. في حين أنّ "الكونيّة" عند "ألان باديو" ليست مفهوما
فضائيّا يجد في الاتّساع الإمبريالي الرّأسماليّ تحقّقه المثاليّ، وإنّما
هي قبل كلّ شيء فرادة كونيّة une singularité universelle " ليست من نسق
الكينونة بقدر ما هي من نسق الانبثاق" (10).
إذا تبنّينا هذا التّصوّر للـكونيّ و"الكونيّة" فإنّ ذلك يضعنا أمام تعارض
حادّ مع مفهوم "المنطق الهوّيّ"، وألفاظ من نوع "الفرادة الهوّيّة"
و"المحمولات الهوّيّة" و"الهوّيّ". وهذا التّعارض الحادّ قد يبلغ حدّ
النّزاع في بعض الحروب الّتي تندلع بين "الهويّات القاتلة"، بحيث تضحي "حرب
الصّور" وجها من وجوهها، وتنقلب الصّورة إلى موضع، بله رحم مولّد للعنف.
***
لنذكّر بمبدإ الصّورة. فهي بطبعها تجمّعيّة grégaire وتجميعيّة
assembliste. ففيها تنعكس تأثيرات الجماعة والمحافظة والشّبه الّذي يجعلنا
نرى صورتنا دوما شبيهة بالآخر (11). فالصّور وديعة «sages» كالحَمَل حتّى
وإن انقلبت سلاحا بأيدي أولئك الّذين يعوّلون عليها لتحوير علاقات القوى
والاستحواذ على السّلطان بالصّورة (12). بيد أنّ هذا المبدأ قد تعطّل تماما
لمّا نشرت الصّحيفة الدّنماركيّة (جيلاندس بوسطنJyllands-Posten ) الصّور
الكاريكاتوريّة لنبيّ الإسلام. فقد بيّن نسق الأحداث وردود فعل المسلمين
العنيفة أنّ تلك الصّور بالذّات قد انقلبت إلى موضع خلاّق للعنف والخلاف
والشّقاق والفتنة. ويمكن أن نتساءل كيف نشأ هذا الموضع الّذي عطّل مبدأ
الصّورة وقضى على وداعتها الأصليّة؟
توجد باختصار في كلّ صورة ثلاثة مواضع:
1 ما تستحضره الصّورة، وهو موضع الواقعيّ le réel.
2 ما تمثّله الصّورة، وهو موضع الرّمزيّ le symbolique.
3 النّظرة الّتي تبنيها الصّورة، وهو موضع الخياليّ l'imaginaire.
إذا تأمّلنا في الصّور الكاريكاتوريّة لا بدّ أن نقف على شيء لافت
للانتباه، وهو أنّ ما تستحضره هذه الصّور هو حضور présence لا يمكن تمثيله
irreprésentable بما أنّه لا يمكن تمثيل ما لا يعرف l'inconnaissable. وما
لا يمكن تمثيله بالصّورة في هذا الموضع (موضع الواقعيّ) هو شخص محمّد. فهو
موضوع للكبت، أي الموضوع الّذي كبتته الصّور الكاريكاتوريّة لأنّه لا يمكن
أن يستحضر ولا أن يمثّل. ويسمّى هذا الموضوع المكبوت عند دولوز بالممثِّل
المكبوت le représentant refoulé. بيد أنّ ما تمثّله الصّور الكاريكاتوريّة
في حقيقة الأمر لا علاقة له بشخص محمّد الواقعيّ، لأنّه بطبعه موضوع
مستحيل التّمثيل. وهي رغم تلك الاستحالة تمثّله بطرق مختلفة تمثيلا لا
وظيفة له سوى كبت شخص محمّد. فالصّور الكاريكاتوريّة من هذا المنظور هي
تمثيل كابت représentation refoulante لأنّها تنتقي من صورة محمّد (على
الأقلّ كما امتثل في ضمير المسلمين) ما يمكن أن يعاد تمثيله وما ينبغي أن
يكبت منها. ويُسمّى ما يُمكن أن يعاد تمثيله المُمَثَّل المنقول le
représenté déplacé (13). فالصّور الكاريكاتوريّة لا تمثّل شيئا. ولكنّها
تبني بالعناصر الّتي استبقيت من شخص محمّد نظرة من رسم تلك الصّور، ونظرة
من ينظر إلى تلك الصّور. وهي بذلك تمثّل موضوعا لا علاقة له بشخص محمّد
الواقعيّ بقدر ما له علاقة بشخص محمّد الخياليّ. ولمّا كانت الصّورُ الّتي
تمثّل الخياليّ تتجدّد باستمرار، فإنّ الصّور الّتي أنتجها الغرب لتمثيل
نبيّ الإسلام قد تغيّر موضوعها تماما. فبدل صورة النّبيّ الدّجّال الرّاسخة
في الضّمير المسيحيّ منذ قرون مديدة، استحضر رسّامو الصّور الكاريكاتوريّة
صورة المسلم اليوم لتمثيل شخص محمّد. فالمتأمّل في الصّور الكاريكاتوريّة
لا بدّ أن تلفت انتباهه العناصر الجديدة الّتي وظّفت في صناعة الصّور
الكاريكاتوريّة. وهي لا محالة صورة محمّد المتعدّد الزّوجات، وقد انضاف
إليها عنصر الإرهابيّ الّذي يحمل على عمامته قنبلة، ويحلم بجنّة مليئة
بالعذارى. فما تنتجه الصّور الكاريكاتوريّة هي تخييل fictionالمسلم اليوم
في مرآة الآخر. ونستعمل في هذا السّياق كلمة "مرآة" لأداء لفظ psyché الّذي
يعني المرآة العظيمة المتحرّكة، وكذلك الظّواهر النّفسيّة المكوّنة للوحدة
الشّخصيّة. فالمرآة تنشئ صورة الأنا، سواء أكانت صورة الأنا هي صورة الأنا
المثاليّ le moi idéal، أم الأنا الخياليّ… فتمثيل شخص محمّد، إنّما هو
تمثيل، بواسطة الصّور الكاريكاتوريّة، لمحمّد الخياليّ لا الواقعيّ. وهي
صور تستمدّ من سمات المسلم الرّاهن ماهيتها، وتعيد إخراجها في شكل آخر
ليمثّل صورة تخييليّة مرآويّة spéculaire، هي صورة محمّد كما يراها الإنسان
الأوروبيّ اليوم في مرآته.
وعلى هذا النّحو نرى كيف تبني الصّورة نظرة ذاك الّذي رسمها ونظرة ذاك
الّذي ينظر إليها في الآن نفسه. فالمسلم لا ينظر إلى الصّورة
الكاريكاتوريّة على أنّها مجرّد صورة كاريكاتوريّة، وإنّما ينظر إليها على
أنّها أيقونة الآخر. وأيقونة الآخر وثن، والوثن صورة زائفة. وإذا كانت
الصّورة الّتي تمثّل شخص محمّد زائفة فإنّ تمثيلها لما لا يمكن أن يُمثّل
هو انتهاك للمقدّس بتحويله إلى وثن. فالوثن هو هذه الصّورة الزّائفة. وليس
تدميرها أو صيانتها سوى "حرب صور"، رهانها الأكبر هو الاستحواذ على مونوبول
المرئيّ، والصّور الّتي تمثّله وتبنيه. فـ"حرب الصّور" قد انقلبت إلى "حرب
الزّائف" la guerre du faux حتّى نستعير عنوان كتاب لأمبرتو إيكو (14).
***
يقدّس المسلم اليوم، أكثر من ذي قبل، شخص محمّد لأنّه "رسول الله"، ويحرّم
تصويره بجميع أنواع الصّور. ولعلّ هذا التّقديس هو الّذي حمل مؤسّسات
الإسلام الدّينيّة (كالأزهر في شريط الرّسالة للعقّاد) إلى منع كلّ
المحاولات الفنّيّة الّتي سعت إلى تمثيل شخص الرّسول بالصّورة السّينمائيّة
أو بالرّسوم أو بالكاريكاتور… في هذا السّياق، يذكّر الفيلسوف الإيطاليّ
جورجيو آقمبن Agamben أنّ لفظ « Sacrare » يعني في اللاّطينيّة "فَصَلَ".
فما هو المقدّس؟ هو ذاك الّذي بعمليّة الفصل قد انسحب من استعمال النّاس،
أو فضاء الاستعمال العامّ (15).
وإذا كان المسلم يقدّس شخص محمّد، فإنّ ذلك يعني أنّ محمّدا قد أضحى يمثّل
في الضّمير الإسلاميّ طراز "الإنسان المقدّس Homo sacer". وليس هذا
الإنسان نتاجَ الطّقس المقدّس فحسب، وإنّما هو ذاك الّذي تمتّع بطقس العبور
إلى الدّائرة الإلهيّة، فأمست عودته إلى الدّائرة البشريّة، غير مألوفة
ولا معهودة. فـ"الإنسان المقدّس Homo sacer" لا يعارض دائرة المقدّس
الإلهيّ، وإنّما صورة الإنسان العاديّ. فذاك الّذي عبر دائرة الإلهي
بالطّقس وعاد بالصّورة والكاريكاتور إلى الدّائرة البشريّة لم يعد بمقدوره
أن يكون موافقا المعيار والطّراز البشريّين، وبسبب ذلك لم يعد بالإمكان
استعادته من جديد للاستعمال (16). فمحمّد الإنسان الّذي اكتسب بالقرآن
والسّنّة والسّيرة النّبويّة "هويّة سرديّة" هي محمّد "رسول الله" قد منعت
مؤسّسات الدّين عودته إلى دائرة البشريّ بتحريم تصويره، فجعلت من تمثيله
بالصّورة رهانا سياسيّا، مدارُه رفضُ كلّ ما من شأنه أن يقلب المقدّس إلى
وثن. إنّ الحجّة الرّسميّة الّتي تبرّر هذا الرّفض يسمّى في صورته المسالمة
الخوف من " تقديس الرّسول" (17)، ولكنّه في هيئته العنيفة يطال منتجي
الصّور والمؤسّسات الّتي تحميها (18). هذا التّحريم بـ" تقديس الرّسول" هو
ما ترفضه الصّور الكاريكاتوريّة. فهي برسمها لشخص نبيّ الإسلام بملامح
المسلم اليوم كما يراها الأوروبيّ في مرآته، إنّما هي تستعيد ما كان في
حوزة الإلاهيّ إلى الدّائرة البشريّة. وهذه الاستعادة لم تجر بالطّقس،
وإنّما بالكاريكاتور الّذي يؤسّس فضاء للّعب، وحركيّة لا تتوقّف بين
العلامات. هذه الحركيّة الّتي تنقل علامات المقدّس الإلاهي إلى دائرة
الاستعمال البشريّ هي الّتي تعصف بالمنطق الهوّيّ، وتجعل من صور
الكاريكاتور الّتي أدرجت صورة نبيّ الإسلام في فضاء اللّعب، حدثا يذكّر
بحدث الآيات الشّيطانيّة. وإذا عرّفنا الحدث بأنّه كلّ ما لا يتكرّر ويعطّل
كلّ تكرار، ثمّ سلّمنا بـ"أنّ ما هو مقدّس، إنّما هو الحدث، وأنّ ما هو
دينيّ، إنّما هو التّكرار" (19) جاز لنا أن نستنتج ما يلي:
أ – أنّ المقدّس هو حدث الكبت الّذي أجراه الكاريكاتور بفصل النّبيّ لا من
المقدّس الإلهيّ، وإنّما من دائرة الدّينيّ (الموسومة بتكرار كلّ حدث).
ب – أنّ الكونيّ هو المتأصّل في الحدث، بحيث أنّ الاقتران بين الكونيّ
والحدث هو اقتران أساسيّ. وليس الحدث في هذا السّياق سوى انبثاق الصّور
الكاريكاتوريّة على نحو فريد رغم أنّ ردود الفعل من الجهات الغربيّة قد سعت
إلى تبرير هذا الحدث بوضعه في نطاق حرّيّة التّعبير الّتي يكفلها القانون،
في حين أنّ الرّدود الإسلاميّة قد سعت إلى الزّجّ بهذا الحدث الفريد تحت
طائلة المقدّس وانتهاك المحرّم. والحقّ أنّ الصّورة لا تخضع لهذا القانون
أو ذاك، لأنّها تخلق فضاء لا يتقرّر فيه شيء، وهو ما يحملنا على اعتبار
الصّورة حدثا فريدا. ولذلك كان من غير الممكن قياس ما هو فرديّ وفريد
بأقيسة العامّ le général، فالفريد لا يمكن إثباته إلاّ باستحالة قياسه
incommensurable على العامّ. وعلى هذا النّحو لا يمكن لمسار الحقيقة أن
ينهض على الهُوّيّl'identitaire . ذلك أنّه إن صحّ أنّ كلّ حقيقة تنجم على
نحو فريد، فإنّ فرادتها هي على الفور كونيّة، أو تقبل أن تكون
كونيّةuniversalisable ، " ففرادة ما يقبل أن يكون كونيّا la singularité
universalisable هو في قطيعة بالضّرورة مع الفرادة الهُوّيّة la s
السبت أكتوبر 30, 2010 12:52 pm من طرف هشام مزيان