الممحاة
الإنسان بنسخته الضائعة
اسعد الجبوري
على متن الريحدون كيشوت:أراني اليوم كهلاً،وكأن عمر شيخوختي دهراً يوشك على الانتهاء.
سانشو:ليست تلك شيخوخة يا سيدي الدون،بل هي المراهقة بعينها.
دون كيشوت:ولمَ لا.فبالإمكان تصور كل شيء بما يتناقض وحالته الأولى.
سانشو:ليس هذا ما أقصده يا سيدي الدون،ولكنني لا أرى في الموت نهاية للشيخوخة.
دون كيشوت:تعني إن شيخوخة المرء، قد تذهب معه حتى في الموت فيكبران معاً!!
سانشو:أجل .
دون كيشوت:لا أدرك لمَ تحاول التقليل من شأن الموت بهذه الطريقة الفلسفية المُركبّة؟
سانشو:كل غارق بموت،هو مستيقظ حكماً بحياة في الجانب الآخر.
دون كيشوت:لقد بدأت تقلقني يا سانشو.
سانشو:لا
تقلق من أمر كهذا يا سيدي الدون.تصور نفسك تحضر فيلماً عن موتى.وبمجرد
الخروج من العرض ،لن تجد موتى ولا مدافن في المساحة التي تتحرك فيها أو
عليها.
دون كيشوت:وماذا يعني ذلك بحق الربّ؟
سانشو:ذلك يعني إننا ليسوا غير أفلام يشغلها موتى في لحظة واحدة من لحظات الحياة !
دون كيشوت:تقصد أن الموتى هم من يعيدون إنتاج الأحياء؟
سانشو:أو تدويرهم من جديد.
دون كيشوت:كما تفعل الماكينات مع الورق،عندما تعيد تصنيعه مرة أخرى للاستعمالات العامة ؟
سانشو:الإنسان الذي تراه أمامك على هذه الأرض،ليس هو النسخة الأصلية يا سيدي الدون.
دون
كيشوت:لم أشك بذلك يوماً،ومع ذلك كنت معتقداً بأن الإنسان،ما أن يخسر
ظلهُ،حتى يتبخر الأصل الذي يُكونهُ،فيسقط الاثنان في بئر الشيخوخة
المزدوجة.
سانشو:ها أنت يا سيدي الدون وقد بلغت ما بعد السقف !
دون كيشوت:سقف الرأس تقصد؟
سانشو:لا
يا سيدي الدون .ما قصدته هو النزول من سقف الشيخوخة،والتحرر من فكرة إن
الغائبين يتشبثون بعادات المآتم وبتقاليد تلك المدافن وطقوس العدم،فيما
الموتى ،هم صناع القرار في حياة الأحياء.
آبار النصوصما أشدّ العيونُ عندما تطحنُ
العقولَ بطلاسمها .
وما أضيق الكلمات عندما تجفُ مناجمُها
منشغلةً بغبار قصص نساءات يستحممن بمياه
العناقيد الجارية.
أو بالإوز عندما يغفو على صدور فتيات
من القرون الشهوانية.
الحبُّ عينٌ رقميةٌ
والعاشقُ بصرٌ شاهقٌ ويرتمي بأحضان
لا تبتعدُ عنها الحرائق
ولا ملذات أولئك الذين يقذفون الأرواحَ
كما قطع نقودٍ في قبعات النساء.
ويلوذون بالصمتِ البصري
ذلك الذي يُدعى سرّاً براب النظر.
أعني ربّ الهذيان العام .
أقصد فتح أقفاص الحناجر في الأسواق
والشوارع والأجساد لصبّ العقل
على نارٍ تتهكمُ باللغط وتعليق الشتائم كأوسمة
على قارعة الذنوب .
فكيف لي وأنا رادارٌ عيني هنا
ولا يكون الآخر شاشتي بالتخاطر هناك.
من المؤكد شجرةُ اللغة قوية.
لكنها غير مأهولة بكل هذه الشعوب المسكونة
بالصراخ الشيزوفريني للحشرات.
كم سيستغرق البكاء في الطابق
العلوي للعين.
لا أعلم.
قد يكون ذلك جيداً.
ولكن
أين خرائطُ البصرِ والبلدانُ في كامل
البصيرة .
ما أشدّ تعبُ المتأمل في آفات
الحديد.
غرفة للغرائزأن نرى خارج كل شاعر ،شاعراً أقوى منه، حتى نتحقق من وجود جناية عظمى
يتحملها النص بالدرجة الأولى،بسبب خلل ما في نشوء مثل تلك الظاهرة الحالة!
ذلك
أن الشعور بالدونية الذي يتخبط الكثيرون به أمام نص أجنبي أو نص لشاعر
عربي له مرآة إعلامية شديدة التهويل،إلا استنزافاً للنص.نحن نهدف إلى جعل
النص الشعري ماءً جارياً ،لا سفينة لها رقم في سجل الحوادث،مثل تايتانيك.
ثمة
فلاسفة تناوبوا بالكتابة عن هذه الفكرة،ولكنهم لم يفتحوا باب الانتحار لكل
شاعر ضعيف،لا يقوى حتى على التأثير في نفسه من سوء معاملة اللغة له في
أثناء عمليات الكتابة .