في
أيّ سياق يمكن أن نقرأ ارتماءَ الإخوان السوريين في الأحضان التركيّة،
ومثله إسلاميو المنطقة (إخوان مصر، إخوان النهضة التونسيين..) في تأكيدهم
على الاقتداء بالأتراك، وكذا أيضاً ارتماء «الإسلام التركي» من جهته،
بنسخته «الأردوغانيّة» في الأحضان الأميركيّة….الخ؟
هذه
«الشبكة السّنيّة- الأميركية» التي بدأت لتوّها بخصوص إعادة أوراقها
سياسياً، ليست وليدة لحظاتنا «الربيعيّة» بالتّأكيد، لكن بإمكاننا القول
أنّ «الربيعَ العربيّ» قد زادها تفتحّاً وثباتاً. ليس غريباً كما سنرى، أن
نقرأ الإصرار الأميركيّ الفاقع للاقتداء بالإسلام التركيّ (النموذج؟)؛
وهذا الإصرار لم يتولّد مع إدارة أوباما، بل منذ إدارة بوش الثانية، حينما
تأكّد للأميركيين فشلهم في دمقرطة المنطقة وفشلهم في القضاء على الإرهاب،
وفوز حماس «الإخوانيّة» بالانتخابات التشريعية، إضافة إلى الإخوان
المصريين (فازوا بنسبة 88 مقعد في انتخابات 2005).
في
شباط (فبراير) من هذه السنة، كتب عصام العريان، أبرز قيادي الإخوان
المصريين، مقالاً، كان أشبه برسالة، نشره في صحيفة «نيويورك تايمز» (9/2/
2011)، لم يكن موجّهاً للغرب عموماً، ولا إلى العرب بالطّبع، بل إلى
الولايات المتحدة الأميركية على وجه التّحديد. العريان من بين الكل كان
يعلم الجهة التي تتجه إليها رياح مصر السياسيّة، وكان يدرك تماماً التشوّش
الذي أصاب رؤية واشنطن في كيفية إدارة مصالحها في شمال أفريقيا والشرق
الأوسط، فضلاً عن إيمانه الثابت بعقيدته المزمنة أنّ الله سينصرهم بعد حين
ولو كره «الآخرون»؛ وها هو «الربيع العربي» الآن يفتح لهم أبوابه؛ من أجل
هذا كله أوضح لواشنطن، وهو عنوان مقاله: «ماذا يريد الإخوان المسلمون (؟)».
لكن
هل فهم العريان لغة السياسة الأميركية وأدرك ماذا يريدون، حتى يعلّمهم هو
ماذا يريد الإخوان؟ هل اختار مفرداته بدقة؟ بالتأكيد، نعم.
«كيف
التحدّث لأميركا؟»؛ هذا هو صدر الرسالة (Brothers In Arms) وموضوعتها
الأساسيّة، كان قد كتبها الخبير الأميركي وأحد صناع السياسة، مارك لينش (
نشرت في«فورين بوليسي» في الخامس عشر من آب (أغسطس) /2007/)، مُوجَّهة
تحديداً إلى الإخوان المسلمين المصريين، كما جاء في صدر الرسالة: «إلى
محمد مهدي عاكف، المرشد الأعلى (للإخوان المسلمين حينها)».
الرسالة
التي كتبها لينش، لم تكن أي شيء سوى مجموعة من النصائح التي على الإخوان
الالتزام بها، إذا أرادوا الحوار مع أميركا؛ فـ «أمامكم (أيّها الإخوان)
فرصة تاريخيّة لمثل ذلك الحوار»، موضّحاً بنفس الوقت الخلافَ الموجود بين
الأميركيين، بين من يَعتِبر الإخوانَ «شركاء محتملين» لواشنطن، وآخرين
يعتبرونهم خطراً إسلاموياً يهدد المصالح الأميركيّة في المنطقة. أما كيفية
انخراط الإخوان لفضّ هذا الجدل الأميركي لصالح أن يغدو في الصف الأميركيّ،
فهذه هي المسألة التي سيطرت على لبّ ما نصحهم به لينش في الرسالة للقيام
به.
كانت مؤخراً هيلاري كلينتون في كلمتها
المطوّلة الأخيرة أمام «DNI» (المعهد الديمقراطي القومي)، قد تعرّضت ضمناً
لتلك الخلافات بين الأميركيين بخصوص التّعامل مع الحركات الإسلاميّة
(وبخاصة مع من أطلقت عليهم نيويورك تايمز: «إسلاميون ليبراليون»)؛ لكن
كلينتون ركزت بنفس الوقت على الانتقادات والتّساؤلات التي يثيرها طيفٌ
واسع من «الجمهوريين» وبعضٌ من صانعي السياسة الأميركيّة بخصوص الربيع
العربيّ، والانتقادات الموجّهة لإدارة أوباما بخصوص التّقارب مع من يضر أو
يمكن أن يضر بمصالح أميركا في المنطقة، وبخاصة ذلك النقد الموجّه للإدارة
أنّها بدعمها للربيع العربيّ، فإنها تفتح الأبواب أكثر للإسلاميين، الذين
كانوا فعلاً على رأس هذه الانتقادات.
لكنْ
بتبديد كلينتون كل تلك التخوفات والانتقادات، أعلنت مرة أخرى (المرة
الأولى بإعلانها أنّ إدارة أوباما «ستستأنف اتصالات محدودة مع الإخوان»)
أنّ أبوابَ واشنطن مفتوحةٌ للمساعدة لمن يدعم الديمقراطية وحقوقَ الإنسان
والأقليات؛ بمعنى آخر وكما جاء: الولايات المتحدة مستعدّة للتّعاون مع
الإسلاميين (النّهضة خاصة، ومن سيلحق بهم من إخوانهم «الإخوان»).
هذا
النّمط في الخطاب «الرّسميّ» الأميركيّ، هو عينه ما أكّد عليه لينش في
رسالته «اللارسمية» للإخوان. إلا أنّ فارقاً جوهرياً يكمن بين الخطابين،
هو أنه بينما كانت جهود الولايات المتحدة في ذلك الوقت (إدارة بوش
الثانية) في خطابها مع الإخوان منصبّة أساساً على العمل والتّعاون
الاستخباراتي بينهما، وتخيير واشنطن للإخوان إما أن يغدو «حصناً منيعاً
Firewall» ضدّ الإرهاب ويتحالفوا معها للقضاء عليه، أو يختاروا الخيار
الثاني، فيغدو جماعات تسهّل Transmission Belt الإرهاب (نصحهم لينش
بعبارته : «كونوا حصناً منيعاً، لا تسهيلاً (للإرهاب)»). بينما نجد في
الخطاب الأميركي الجديد، لن يغدو الإخوان شركاءَ في القضاء على الإرهاب
فقط، وإنما أيضاً حلفاء رسميين سياسيين، كما شدّد رشاد البيومي، نائب مرشد
الإخوان على: «ضرورة أن يكون الحوار ندّياً» مع واشنطن. مهما يكن، سيبقى
مستوى الندية هذه، بحسب الحجم السياسي الذي سيحتلونه في خارطة المشهد
السياسي القادم.
بالطّبع، هذا الأسلوب في الخطاب
الرسميّ الأميركيّ جديد جداً، وهو من مفرزات ربيع العرب، لكنْ فكرة
التّعاون الأميركيّ- الإسلاميّ (السياسوي)، ليست جديدة على الإطلاق.
تاريخيّاً، صحيح أنّ الإخوان المسلمين لم يسجّلوا صداقة دائمة للولايات
المتحدة، إلا أنّهم بنفس الوقت لم يسجلوا أنفسهم أنهم في «الصف المعادي»
لواشنطن في سياساتها في المنطقة. أمّا دعمهم لحماس «الإخوانيّة» وتأييدهم
لهم، فإنّ هذا لا يعدو أكثر من كونه «فرقعات» إعلامية سياسية براغماتية
أمام الرأي العام الإسلامي، إلا أنه ما زال يثير القلق لدى إدارة واشنطن،
رغم أنها تسكت عن ذلك، وتدرك حجم هذه الفرقعة وتعرف كيف تديرها.
إذا
كان من الأكيد أنّ سياسة واشنطن تتخبط إلى الآن في قراءة حدث الربيع
العربي الذي فاجأها كما فاجأ حلفائهَا في المنطقة، فإنه من المهم التّأكيد
أنها قد أدركت أنها أمام منعطف جديد آخذ بالتبلور في المنطقة؛ وبالتالي
ستكون سياساتها حكماً منسجمة مع استحقاقات هذا المنعطف، وإلا ستصاب
بانتكاسة أخرى إضافة إلى انتكاساتها المتتالية. وهذا هو أحد الأسباب
الرئيسية الآن في تركيز الولايات المتحدة في تقوية العلاقات مع القوى
الإسلامية التي يفرزها الربيع العربي، سواء أكان ذلك في ظل الأردوغانيّة
أم لا.
لينش نفسه كان في الرسالة قد ألمح حينها لماذا يريد
التعاون مع الإخوان المسلمين؛ لسبب بسيط، أنّ الأميركيين قد أدركوا
خسارتهم في حرب الأفكار في العالم العربيّ، مع الصّعود المخيف للإسلام
المتطرف، وانهيار الأحلام الأميركيّة في دعم مشاريع الديمقراطيّة. لهذا
بعد أن أثبت الإخوان فوزَهم في انتخابات 2005، وأثبتوا قوتَهم كأقوى تنظيم
معارض ضد مبارك، لم يكن من واشنطن إلا الرضوخ أمام هذه الرياح؛ وهذا رغم
أن واشنطن لم تستغن في يوم من الأيام عن الإخوان (مثلاً عن مساعدتهم ضد
الشيوعيين أيام الحرب الباردة) والاتصالات معهم.
لكن
الآن مع بدء تغير خارطة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وصعود قوى جديدة
وانهيار أخرى، فضلاً عن الإيديولوجيات الفاشية، يبرز الإسلام السياسي كأحد
أقوى هذه القوى الصّاعدة في المنطقة، وبالتّالي، هذا يعني تغيّراً في
إستراتيجية واشنطن في التعامل مع الإسلاميين، كـ «حلفاء جدد» لها محلّ
الدّيكتاتوريين الذين لطالما صدّقت روايتهم عن خطر الإسلاميين. كلينتون،
ولحسن الحظّ، الآن حتّى تذكّرت : «كنّا نقبل نحن أنفسُنا هذا المنطق» أي
روايات حلفائها الحكّام العرب! لكن في السابق لم تكن ذاكرة واشنطن ولا
عظمة خبرائها يقولون لها أن هذه الرواية غير صحيحة.
جون
إيسبوسيتو ذكر مرة في مستهل كتابه : «Islamic Threat, Myth Or Reality?»
(التّهديد الإسلامي، أسطورة أم حقيقية؟) أنّ قائدَ حلف الناتو (بعد نهاية
الحرب الباردة) شبّه الإسلامَ بالشيوعية. لكنّ الناتو الآن نفسه لم يدعم
فقط أيَّ إسلام، بل دعم الإسلامَ «الجهاديّ» لـ «تحرير» ليبيا القذافي،
بغض النظر عن الأهداف النبيلة وراء انتفاضة ليبيا.
ربما
لا نستطيع الآن التقاط كل شيء لما يجري حولنا، وهذا التقارب الإسلامي-
الغربي غير الغريب، وتحديداً مع الإسلام السياسي «السني» (جوبيه، وزير
الخارجية الفرنسي، اتّصل بالنهضة مهنأً؛ وأيضاً تساءل رئيس الدبلوماسية
الفرنسية "لماذا لا أصدقهم؟ أنا أثق في الناس.. سنعمل معهم" (!!))، إلا
أنه بإمكاننا إدراك تراجع دور الولايات المتحدة في المنطقة، فلم يصعد أمام
تراجعها، وفي ظل ضعف القوى السياسية العربية، إلا: الإسلاميون.