"كونشيرتو القدس" لأدونيس
ينسخ الكلام التراثي ليسدّ ثغر نصّه
روجيه عوطة
أغلب القصائد التي كتبت عن القدس المحتلة، أخذت من ماضي المدينة،
مقروناً بحاضرها المنكوب، موضوعة أساسية لها في إطار شعري تاريخي. يأتي
الديوان الشعري الجديد لأدونيس، "كونشيرتو القدس"، الصادر حديثاً عن "دار
الساقي"، ليُضاف إلى النصوص المكتوبة داخل الإطار ذاته، مع تثبيت موضوعة
الماضي أسطورياً ولغوياً بالإعتماد على المحفوظات النصية التراثية،
المخطوطة عن المدينة، والمستولى عليها قهراً وظلماً.
يتناول الشاعر
القدس المحتلة في بابين متداخلين، بحيث يحفر "معنى" المدينة في الأول، ثم
يفرد لهذا المعنى بعض "الصور" في الثاني. تظهر القدس كمكان تختفي معالمه من
شدة ازدحام الألفاظ فيه، كأن الكلام عن المدينة يندرج في سياسة المحو الذي
تتعرض له، فيستكمل الكلام تطويقها الإستيطاني المتبع من الإحتلال
الإسرائيلي. يندرج الإستناد التراثي في سياق هذا المحو، فيزيل لفظ أبي
هريرة نص أدونيس الذي أفرط في الإقتباس والاستظهار عن أبي ذرّ وعبادة بن
صامت وابن عباس وعبدالله بن عمرو بن العاص وغيرهم، إذ يرجّح الشاعر القديم
على الإبداعي الحديث، حتى أنه يكتفي في بعض المقاطع الشعرية بنقل النصوص،
فينسخ الكلام التراثي ليسد ثغر نصه الذي يدخله حائراً، كما لو أنه يجد نفسه
فجأةً في القدس المحتلة فيستعين بقديمها كي لا يبقى يتيم اللغة. عندما
يصمم أدونيس على خلق "المعنى" القدسي من دون الاعتماد على القديم، يسلم
رموزه لصياغة جُملية تحتشد داخلها العبارات المتفق عليها في الخطاب الشعري
الكلاسيكي، وهو انعكاس جدلي للخطاب السياسي الذي يرى في القدس المحتلة
رمزاً لمدينته المنكوبة، فيتوّقف عنده ويسدله على كل المدن الشرق أوسطية
الواقعة تحت حكم الديكتاتوريات الإحتلالية المختلفة. فالتردد في ابداع لغة
جديدة تجترح معاني جديدة للقدس، من خارج الفضاء الإصطلاحي الشعري المتواطأ
عليه، يستر خلفه ضعف الخطاب الرسمي وتعثره المتعمد في استعادة المدينة
المحتلة ومدن أخرى، ولاسيما أن أدواته النصيّة، القراءة التراثية المقفلة
على سبيل المثال، لا تتغيّر أو تتجدد. هذا ما يكشف عنه الخطاب الشعري
الأدونيسي حيال القدس، إذ يسرع في الإقتباس والنسخ التراثيين على غير
ابتداع إستعاراتي جديد، يبتعد به عن الإستعارة الكلاسيكية والنبر الشعري
التقليدي في لفظ المدينة المفقودة.
إزاء التشابه بين الخطاب السياسي،
بمقولاته الثابتة، والخطاب الشعري، بتركيباته المعتادة التي تنخر نصوصاً
شعرية كثيرة، لا يجد الشاعر مناصاً من أن يسأل القدس: "لماذا أنا المقبلُ
إليكِ، لا أعرف أن أسيرَ إلا إلى الوراء؟". بلغته الحائرة، لا يقدر على
الإجابة الشعرية، فيبقي إستفهامه معلقاً في سماء المدينة، التي لا تختلف
حالها عن حال أيّ مدينة يحكمها الخطاب الظلامي اليوم، وينكل بعمرانها
مشرداً ناسها وذكرياتهم. لكنما اللغة المضطربة لا تؤمن بسوى المدينة
الأحادية والقضية المركز، فتقصي المدن عن بعضها وتغيّب قضاياها بمقولة
سياسية متكررة أو بتركيب شعري واحد، ما يمنع إنجاز الكونشيرتو الإبداعي،
الذي يعدّ التنوّع من شروطه الأولى، وإلا سيظل مقيّداً بآلة موضوعاتية
واحدة، ينفرط بانكسارها.
يقبل الشاعر على اختراق الإحتلال الخطابي
الذي تتعرض له القدس، ويسعى جاهداً لفكه عنها، إلا أن اللغة تخونه وتبدد
تعبه المبذول في سبيل تلقيح قاموسه الشعري بمصطلحات تنتمي إلى حقل دلالي
حديث، فينتصر الطاغية القاطن في الكلمات بحسبه، "في كل كلمة من كلماتي/
طاغيةٌ/ وشخصٌ محزوز العنق./ في كلّ حرف من حروفي/ مُفترسٌ،/ وعندليب ميت./
من أين لي أنا الملائكية، أضراسُ شياطين". يتمكن المفترس الكلاسيكي من
القضاء على المزج بين الكلمات، فبعض العبارات تختبئ بين قوسين، "إلى متى
ستظلين، أيتها السماء نائمةً بين يدي أرض حمراء؟ (صواريخ. عصابات. طوائف.
طقوس. هجمات. ألغام. تجارة. اقتتال مذهبي. قصف. انشقاق. تهدئة. سيادة.
مرابحة...) طفل له هيئة النعش تحمله أيد غير مرئية، في اتجاه بلا اتجاه"،
وبعضها يتجنب الإقتراب من النص التقليدي، وإذا اقتربت يقتطع جزءاً كبيراً
من المعاني التي تحملها، "رائحة دم في الزقاق يتدفّق منذ الطوفان. يخضع
التدفّق إلى فحص مدني، وإلى رقابة عسكرية./ لا يفيد العطش إلى المعرفة إلا
إذا كانت خوذة./ على جبلٍ من القمامة ترقص الذرة./ جيشٌ إلكتروني يقوده
ملاكٌ أحمر/ وكلّ آفة".
بعودته إلى تراث السلف، لا يهادن أدونيس
الأجوبة، يظل "صديقاً للأسئلة جميعها" ضمن خطاب شعري رسمي محدد، يخضع
الجموع إلى أن تتمرد عليه وتخرج منه، وحالياً تبحث عن بديلها. يخاف الشاعر
على نفسه من "الجموع"، غير أنه يتكلم بلسانها القديم الذي تخلت عنه، ويدخل
إلى القدس التي ما عادت تحتمل الإختباء داخل الصوت. مزيّة الفاقد الأولى أن
يغيّر لغته ويجددها بحسب الأحداث الطارئة على مدينته المفقودة كي يستطيع
التعبير عن أحوالها بتركيبات شعرية تقطع مع الماضي المأزوم، وإلا "كيف يكون
الزمن جديراً بأن ينتمي إلى نهارنا وليلنا/ وكيف تحمحمُ الدقائق في عروقنا
كأنها أفراسٌ جامحة"؟
الجمعة أكتوبر 26, 2012 1:42 pm من طرف سوسية