ما الذي ضلَّ سبيله؟
أثر الغرب والاستجابة الشرق أوسطية
هذا
عنوان كتاب للمستشرق برنارد لويس
[*]،
اعتُبِرَ أنه تفكير حول صدمة 11 أيلول 2001، أو محاولة لفهم ما أصاب العالم
الإسلامي قبلها حتى حَدَثَ ما حدث. وهو كتاب مؤرِّخ، لا كتاب مفكِّر، لأنه يتوغل في
تفاصيل كثيرة عن الماضي بخصوص الحياة اليومية في السلطنة العثمانية والذهنيات
السائدة فيها والضعف المتزايد للقوة الحربية، وكذلك أشكال التحديث السياسي والعسكري
كما طُرِحَ في القرن التاسع عشر. وهذا كله مفيد لأنه يستند إلى معلومات دقيقة
وصحيحة مادام إشكال التأخر في دار الإسلام أدخل المصلحين المسلمين في متاهات كبيرة
استُبعِد فيها التشخيصُ الدقيق لمرض العالم الإسلامي، وبالتالي، الوعيُ الصحيح
بالذات والعالم.
وفي
رأيي أنه لا يمكن التفكير في الواقع التاريخي، كما في الواقع الراهن، من دون هذا
الوعي المتأسِّس على معرفة مسبقة لما هو إجمالي ولما هو تفصيلي. فهذا الكتاب قد
يمنح قاعدة للتفكير، إلا أنه غير كافٍ من أكثر من وجه: فهو يتحدث عن الحداثة من دون
أن يعرِّف بماهيتها؛ وهو ينظر إلى مجابهة المسلمين للغرب على أنه تمادٍ لصراع
المسيحية والإسلام؛ وأخيرًا، يبقى حبيس نظرة أوروبية ضيقة إلى الإسلام والدنيوية
والدين والعَلمنة، تأثر بها المسلمون أنفسهم إلى حدٍّ بعيد.
المفكر التونسي هشام جعيط
على
أن في مكنة قارئ لويس أن يجد في هذا الكتاب أفكارًا محورية يطيل المؤلِّف في عرضها،
وهي أن العالم الإسلامي – العثمانيين والصفويين أساسًا – وعى ضعفه أمام أوروبا
بدءًا من القرن الثامن عشر، على الصعيد العسكري قبل كلِّ حساب – وهو أهم شيء بنظر
الدول في علاقاتها بعضها مع بعض. لقد تم هذا قبل الثورة الصناعية بنصف قرن، وحتى
بقرن، علمًا أن هذه الثورة تولدت في بريطانيا حوالى سنة 1775، وامتدت إلى فرنسا في
الربع الثاني من القرن التاسع عشر، ومن بعدُ إلى ألمانيا، وأخيرًا – وبصفة منقوصة –
إلى روسيا. وهكذا وُجِدَتْ حداثةٌ أولى قبل الثورة الصناعية والرأسمالية الكبرى،
وهي حداثة أوروبا الأولى، ابتداءً من سنة 1500 تقريبًا في بعض الميادين ومن سنة
1600 في ميادين أخرى.
وبالأساس، فالعلم الذي حصل في القرن الثامن عشر هو بروز تقنيات جديدة وعقلنة أوسع
لقطاعات مهمة من المجتمع لعبت دورها في تقوية الإمكانات العسكرية الأوروبية.
فالحداثة حداثات؛ وهي أساسًا تحوُّل عميق في الفكر الإنساني والفاعليات
الإنسانية. وإذا سَهُلَ على روسيا أن تقتبس قسمًا من عناصر تقدم أوروبا في
أوائل القرن الثامن عشر، فإنها بلد ذو تقليد مسيحي متأثر بألمانيا وفرنسا. وقد كان
من الصعب على الدولة العثمانية أن تقوم بالتحول نفسه؛ فالعالم الإسلامي عالم قديم
ومتحضر جدًّا. ويقول عنه لويس:
لقد كان
ألمع حضارات القرون الوسطى، لكن من الواضح أن الفكر والمعرفة شهدا ركودًا مع
العثمانيين. وكان على كلِّ حال من الصعب، بل من المستحيل، أن تستنبط حضارةُ الإسلام
نمطًا جديدًا من المعرفة والتقنية مضاهيًا للنمط الأوروبي، شأنها في ذلك شأن
الحضارتين الصينية والهندية؛ ذلك أن الحضارات الثلاث الكبرى، منذ انهيار روما،
أسهمت كثيرًا في تقدم المعرفة والنظرة إلى العالم، وأهدت المشعل إلى أوروبا، التي
لم تتولد كمجال حضاري في الواقع إلا مع تولُّد حداثتها، أي حوالى العام 1450.
لا
يمكن أبدًا قراءة ظهور ضعف الإسلام أمام أوروبا إلا باستقراء الحركة التاريخية
العالمية في أفق عريض من الزمان والمكان. كما لا يمكن إفراد عالم الإسلام بهذه
الظاهرة، وذلك بحصر المشكلة في علاقة دين/دنيا، أو في نمط التعامل بين الرجال
والنساء، أو حتى في بروز الثورة الصناعية. فالمشكلة أعقد من المشهد المألوف؛ وهي
تزداد حدة لأن حضارات كبرى فوجئت في الحقيقة بشيء جديد تمامًا، وهو تلاحم الفكر
مع العمل، أي دخول العقل في الواقع – الواقع السياسي–الاجتماعي والعلاقة مع
العالم – وهذا كله ليس بشيء من البطء وليس بالسرعة المتخيلة. التغيير في هذا المنحى
عويص جدًّا بالنسبة إلى غير الأوروبيين، لأنه يعني تدميرًا ذاتيًّا قبْليًّا
لحضارتهم التي تتسم، بخصوص الإسلام، بمطلقية الدين التوحيدي – وهو الذي قاوم أيضًا
مقاومةً عنيفة في أوروبا ذاتها لمدة قرون. والهندوسية كذلك مرتبطة بالهوية العميقة
للهند؛ أما الكونفوشية فهي مرتبطة بالنظام السياسي والاجتماعي والحضاري للصين.
لقد
كان العالم الإسلامي أقرب جغرافيًّا من أوروبا من الرقاع الأخرى؛ وبالتالي، فقد
تأثر أيما تأثر بالتحولات التي طاولت أوروبا. وهذا ينطبق بالخصوص على الدولة
العثمانية التي اهتم بها خصيصًا برنارد لويس. ومن الصعب أن يُنكَر انشغالُ قادة هذه
الإمبراطورية الشاسعة بتفوق الأوروبيين في آخر القرن الثامن عشر – الدبلوماسيين
منهم بالأخص.
والحقيقة أن ما كان يمس موازين القوى هو النمو الاقتصادي والديموغرافي والتقني في
أوروبا، من دون علاقة بالعلم والتحدي ولا بالثورة الصناعية في ذلك الحين. وأحرى بنا
أن نقول أيضًا إن الاختلاف في نمط الحياة لا يدخل كثيرًا في المعادلة، بل الأهم هو
النمو الزراعي والتنظيم الإداري في فرنسا، والنمو التجاري الهائل في هولندا، ثم في
إنكلترا، أي دينامية تاريخية ابتدأت من أوائل القرن السابع عشر؛ كما لا ننسى ولادة
الدول الجغرافية الواعية بذاتها على ترابها القومي وبمصالحها من قبل ذلك.
فمثلاً، لو كانت الدولة العثمانية كمجال واسع، أي المكوَّنة من تركيا ومصر والشام،
في حالة نموٍّ وانتعاش، لكان الأمر على خلاف ما جرى عليه فيما بعد. إنما الجهاز
العسكري والإداري العثماني كان صالحًا في الأول، ولم يعد كذلك في القرن الثامن عشر
في حدِّ ذاته مقارنة بالواقع. فالانحطاط من هذا الوجه أمر محتوم، وقد لا يكون
مرتبطًا بالمكونات الأساسية للحداثة التي بقي أثرُها إلى الآن، أعني العلم النظري
(من غاليليو ونيوتن إلى لاپلاس) والثورة الصناعية والثورة الديموقراطية، بل لعله ذو
علاقة بتاريخية كلاسيكية معهودة، وهي انحلال الإمبراطوريات تحت ضربات قوى جديدة من
برابرة اكتسبوا تنظيمًا في أواخرها.
هذه
الفكرة لم ينتبه لها الاستشراق الغربي، ولا حتى فكر النهضويين العرب والمسلمين
الذين اتبعوا هذا المسلك في الفهم. ومن الواضح أيضًا أن أوروبا استعملت تجاه
الإسلام والصين والهند، في فترة توسُّعها في القرن التاسع عشر، وهي فترة أوج الثورة
الصناعية والعقلانية في تنظيم القوى – نقول: استعملت أوروبا آلياتٍ تاريخيةً
تقليدية، هي الحرب والهيمنة والاستغلال الاقتصادي والاحتقار الحضاري. فالحركة
التوسعية لم تكن تبشر، كالمسيحية زمن الرومان، بدين جديد للتقدم (الفلسفة، مثلاً،
والعلم الطبيعي والنظام الدستوري)، بل كانت مدًّا تاريخيًّا تقليديًّا من طرف دول
أهم محكومةٍ بإرادة القوة، مع مقدرة على إنماء الإمكانات الإنسانية وتنظيمها. ولقد
تخبطت الحضارات الكبرى من جراء هجمات أوروبا في مساعٍ مضطربة للحفاظ على وجودها،
بدءًا من الثلث الثاني للقرن التاسع عشر في السلطنة العثمانية، أو من منتصف القرن
نفسه في الصين، ثم في اليابان فيما بعد، في فترة تعزَّز فيها الحضورُ الأوروبي
بإمكانات الثورة الصناعية.
هذا
التفكير كله لم يأتِ على ذكره كتاب لويس – وهو أساسي، لأن الأحداث جرت على صعيد
عالمي، لا إسلامي وحسب. ومفهوم "إسلامي" لا يعني الدين ذاته، بل يعني رجال
الدين، وأكثر من ذلك، الدول والمجتمعات. من ناحية أخرى، قبل أن ننعى على هذه الدول
عجزها، يجب أن نكرر أنه لا يمكن لها أن تنفلت من هذا العجز؛ إذ إنها أصرت على
الوجود في فترة احتضار طويلة أو أقل طولاً – ولم تنجُ من ذلك إلا اليابان لأنها لم
تكن مركزًا لحضارة تاريخية عظيمة ومديدة.
على
كلٍّ، فالذي حدث هو أن هذه الدول والحضارات طورت أساس حياتها ونظرتها إلى ذاتها
كمحور ومركز قديمًا، فعُدَّتْ دولاً–أممًا ليس إلا، وهي تركيا وإيران والصين
وأخيرًا الهند. وإذا كانت تركيا محدودة من حيث المساحة وعدد السكان، وكذلك إيران،
وإذا كان هذان البلدان لا يمثلان العالم الإسلامي كلَّه، فإن الصين كانت تضم
الغالبية الساحقة من العالم الصيني، ولذا باتت اليوم دولة يُحسَب لها حسابها. لكن
للإسلام في الماضي بُعدًا عالميًّا وطموحًا نموذجيًّا، لم يكونا ليوجدا في الصين،
وهي البلاد المتمحورة حول ذاتها التي لم تكتسب إلا حضارة ودولة. ولقد أبقى المسلمون
إلى اليوم على المطامح العالمية المبنية على الماضي وعلى الدين بالأساس، لكنْ على
الدين كمحرك أساسيٍّ وكشعور نفساني بالزخم التاريخي. غير أن الإسلام عالم مشتت إلى
دول ذات أعراق ولغات مختلفة، وهو، بالتالي، عالم حقًّا، أي منظومة موحدة ومتنوعة في
آن، لكنه فاقد لمركز قرار موحَّد، ضعيف سياسيًّا، وغير قادر على تجميع قواه
الإبداعية في اتجاه سُبُل الحداثة الموجودة الآن على الساحة؛ والاضطراب واضح في
رقاعه المختلفة، وبالخصوص في الرقعة العربية التي استرجعت حضورًا في العالم على
حساب التطور الداخلي في الأعماق.
وإذا صح أن المستوى العربي هزيل في ميادين المعرفة والتكنولوجيا والاقتصاد، فهو
أضعف إذا قورن بمستوى المطامح المتجهة دائمًا نحو المقارنة المحمومة مع الغرب. ولا
نرى كيف يمكن تفادي الضعف في أجَل معلوم بتطور موجود فعلاً، لكنه ليس في مستوى
المطامح في رقعة كثيرة الاتصال بالعالم الغربي، لكنها فاقدة أكثر من الصين والهند –
وبصفة متفاقمة – لاعتزازها الحضاري، خلافًا لما يقال ويُروى.
هنا
يعتمد لويس على تصريحات بن لادن في أن الصراع هو بين الإسلام و"الكفَّار"، في الغرب
أولاً، ثم في المعمورة كلِّها. والصراع هذا يتم بحدِّ السيف، أي بالإرهاب. لكن بن
لادن إنْ هو إلا حلقة في سلسلة تيارات إسلامية ابتدأت في القرن الثامن عشر مع محمد
بن عبد الوهاب والوهابية، وكانت ترى تنقية الإسلام وإصلاحه بالرجوع إلى "الأصول"،
ثم فيما بعد بالدعوة ونشر الإسلام. وهذه "الأصولية" هي تبشيرية العصور الحديثة مع
الماركسية؛ وإذ سقطت هذه الأخيرة، فقد اتصفت الأولى بعنفوان كبير. ومن هنا تبدأ
الحلقة الثانية (هل هي الأخيرة؟)، وهي الحركة الجهادية ضد الغرب، أي الاعتماد على
العمل، وليس على الثيولوجيا، في عالم تتصف فيه المعلومة بقوة لا تضاهى.
ويبدو أن الإشكال اليوم، في رأي لويس، يكمن في صعوبة الخيار بين هذه "الجهادية"
وبين الديموقراطية، وكذلك في كون الغرب لم يساند القوى الديموقراطية. وهذا إشكال
العالم الإسلامي ومحنته اليوم فعلاً.
الحرية والديموقراطية هما فعلاً طوق النجاة، أو قد تبدوان كذلك؛ لكنْ يجب قطعًا طرح
القضية بجدية وبعمق أكبر.